هل تعتبر نفسك مثقفًا؟ أو تطمح أن تكون كذلك؟ ما هي حياة المثقف التي تحاول محاكاتها وتتطلع إليها دومًا؟
فراشٌ دافئ تستيقظ منه على أنغامٍ عذبة لفيروز، تحتسي فنجان قهوتك بدلال على كرسيك الهزاز وبيدك جريدة ملونة. حقيبة الظهر تسير خلفك، وسماعاتك تطربك بآخر صرخات الراب في مسيرتك الطويلة نحو ناديك أو جامعتك أو مكان عملك.
إذا لم تكن قد بحثت يومًا عن معنى الثقافة والمثقف خارج هذا القفص الصغير فدعني أخبرك بنمط من الثقافة خارج هذا الصندوق، وربما يشبهك ويتلاقى مع فكرتك بشكل أكبر.
تعريف الثقافة
إن نفس أولئك الذين تحاول جاهدًا تقليدهم من أبناء الجتمعات الغربية أو المتقدمة حسبما يُسوق لك، انظر إلى وجهة نظرهم في الثقافة وكيف يعرفونها.
يعرفها “إدوارد بورنث تايلور” في كتابه “الثقافة البدائية” بأنها تلك الوحدة الكلية المعقدة التي تشمل المعرفة والإيمان، والفن والأخلاق، والقانون والعادات.
بحسب تعريف “إدوارد” فإن ثقافتك هي هويتك وبقدر ما تكون منتميًا لهذه الهوية متحققًا بها ومدافعًا عنها فإنك تكون بذلك مثقفًا.
أنواع المثقف
وبسبب اختلاف وجهات النظر في تعريف المثقف وتحديد صفاته وأنواعه لا نستطيع أن نعرف المثقف على حقيقته ومدى ارتباطه بالثقافة بتعريفها العلمي وليس المتداول إلا بذكر أنواع المثقفين بحسب سلوكهم ومنهجهم.
يقسم المثقف بحسب السلوك والمنهج الذي يتبع إلى ثلاثة أصناف:
1 – المثقف التقليدي
وهو الحافظ والناقل للحِكم والمواعظ وأبيات الشعر ومقولات الفلاسفة وأفلام الفيديو، والمتابع الدائم لأخبار الفن والفنانين والأدباء والمشهورين، وهو الذي يرصد هفوات مجتمعه وسلبياته، ويتخذها مادة دسمة ليمتعض منها بنقاشاته السطحية في محافل الثقافة التي يحاول أن يظهر فيها بمظهر المفكر الناقد.
ومن لوازم ثقافته سيجارته ذات النوع الأجنبي الفاخر، وصفحته على مواقع التواصل الاجتماعي المكتظة بطلبات الصداقة والتي تغص بصوره الشخصية كلما مارس جزءًا من تفاصيل حياته بصحبة ثقافته تلك لكي يملأ جعبته بالكثير من اللايكات والتعليقات المتملقة التي ترضي غروره.
2 – المثقف العضوي
ارتبط هذا المفهوم بالمفكر الإيطالي الماركسي أنطونيو غرامشي، وهو المثقف النخبوي، وخلاصته أنه ذلك الذي يمتلك من الوعي بمقدار يخوله للتعبير عن إيديولوجية الجماعة التي هو جزءٌ فاعلٌ وواعٍ منها، ولا استقلالية له عنها إلا بالمقدار الذي تكون فيه هذه الاستقلالية تعبيرًا حقيقيًّا عن رغبات طبقته، ولكن وعيه التاريخي بها وبتحولاتها أشد وأعمق منهم، أي هو الذي يعمل على تطوير بيئته ومجتمعه، ويثبت ما هو صحيح وإيجابي، ويصلح ما هو خاطئ أو سلبي، لا ذاك الذي ينهض على تسخيفها، ويتعالى عليها، ودائم التذمر منها.
3 – المثقف المشتبك
ارتبط هذا المصطلح بالمناضل الفلسطيني الشهيد باسل الأعرج، الذي أوجد هذه النظرية بحيث اعتبر أن ثقافة الاشتباك هي بعكس ثقافة التنظير، وخلاصتها أن يكون المثقف مستعدًّا لفعل كل ما يقوله من شعارات نضالية، أو يطرحه من مقولات أخلاقية، ومواعظ مثالية، ويستعد أن يضحي في سبيل النهوض بمجتمعه بكل أنواع التضحية.
بناء على هذا النوع من المثقفين نجد أن الجندي البسيط والفقير الذي آمن بأرضه وأهله وحمل البندقية مدافعًا عنهما، ولربما لم تتح له الظروف أن يستكمل تحصيله العلمي، هو على مستوى أكبر وأرقى من ثقافة أي شخص آخر استعار ثوبه الثقافي من دكان العالم الافتراضي وطبقت عليه المقولة الشعبية (توب العيرة ما بدفي وإذا دفّا ما بدوم).
كيف يصبح المثقف نموذجًا؟
في ظل ازدحام ميدان الثقافة بالكثير من المثقفين ونواديهم وصالاتهم، وشؤونهم وشجونهم، كيف تحجز لك مقعدًا في المقدمة وتكون رقمًا صعبًا في عالم الثقافة وقائدًا فذًا لطليعتك؟
بالتأكيد ليس بالبضاعة المُزجاة للمثقف التقليدي الذي ذكرته آنفًا، صاحب اللغة الخشبية والأدوات المستوردة والثوب الافتراضي المرقّع الذي لا يستر سوأته.
فأن تكون نموذجًا يعني أن تكون قدوة وأن تُقدم كمثال ومعيار وقاعدة صالحة للتطبيق والتعميم يحتاج هذا منك أن لا تكتفي بأن تكون كارت (memory) أو أن تكون ناقدًا حادًا وناقمًا شديدًا كالدمّلة الملتهبة لا يستطيع أحد الاقتراب من وسطك، بل أن تمتلك مرونة التقبل وصبر التحمل لتنهض بمجتمعك فأول طريق نحو إصلاحه هو تقبُّله بكل سلبياته وإيجابياته وأن تعيش هموم مجتمعك وتقوده نحو حل عقدها.
كيف يقود المثقف الأنموذج مجتمعه؟
يشير الكاتب هادي قبيسي، في مقال له عن أهمية صناعة النماذج الأخلاقية، إلى دور المثالية الأخلاقية باعتبارها محفزًا هائلًا للفطرة الإنسانية والتي تُوجد الدَّوافع، وتُحرك الكوامن، وتُفعل الطاقات الفردية والجماعية، وتُوجد أيضًا حالة تفاعلية من دورات التضحية والخدمة والبذل بفعل تأثير النماذج الأخلاقية الفردية في نطاق وصولها الجماعي.
ربما يريد أن يوضح الكاتب في هذه السياق أن المثقف الذي يُقدم نفسه نموذجًا أخلاقيًا ومثاليًا حقيقيًا متمسكًا بمبادئه، ومعبرًا عن هويته، ومنصهرًا مع رسالته، ومحبًا لمجتمعه، ومبادرًا نحو معالجة مشاكله والرقي به والدفاع عن قضاياه وحقوقه يرى فيه المجتمع قائدًا يُحرك فيه دوافعه ويحفزه نحو العمل والإبداع، ويدفعه من أجل تفجير طاقاته، وتوحيد جهوده، لتحقيق تطلعاته في أن يصبح ذات يوم مجتمعًا سليمًا من الآفات، خاليًا من المشاكل والأزمات، مثابرًا نحو التقدم الحضاري والتطور العلمي، متحليًا بأخلاق المجتمع السليم والنبيل، لأن ذلك الكمال يتوق له كل إنسان على المستوى الفردي، وكل أمة على المستوى الجماعي، مهما قصرت إرادتهم أو جهدهم، وقلت دافعيتهم أو حيلتهم عن بلوغ هذا الكمال.
الخلاصة
مثلما أفرزت هذه الحرب التي تعرضت لها بلادنا الكثير من حديثي النعمة المتسلقين على أكتاف الجياع، والناهبين حقوق الناس، الذين تراهم لا يشبهون النعمة الحقيقية لا بصورتها ولا بصوتها بل هم أقرب للنقمة منهم للنعمة، كأنهم خشبٌ مسندة، ويحسبون كل صيحةٍ عليهم، أولئك المرجفون الذين يعيشون على بث اليأس والتشاؤم في قلوب الناس ليستحوذوا عليهم بسلطان الخوف، كذلك أفرزت أشباههم الحرب الناعمة التي صاحبت ويلات الحرب من دمار وفقر أولئك حديثي الثقافة الذين يقرنون ثقافتهم بالثراء المادي ويقبعون في برجهم العاجي الذي هو أقرب لبيت من الرمال تنسفه أي ريح عاتية.
تجدهم غير قادرين إلا على النقد والتنظير ورؤيتهم للأحداث والقضايا رؤية سطحية جامدة وقائمة على أساس مصالحهم الآنية. فلنحذر منهم ولنكافحهم بأن نكون مثقفين نموذجيين نمتلك روح المبادرة ونحث على الحوار المجتمعي لقضايانا المصيرية والواقعية، والتي تمسّ حياة كل فرد، ونسعى لأن نقدم الحلول ولا نكتفي بالنقد وإلقاء التهم على الآخرين بالتقصير أو الفساد، ونضحي من أجل ما نؤمن به من ضرورة التغيير الاجتماعي نحو الأفضل، وأن نقول ما نفعل ونفعل ما نقول.