د. حسن محمد* – خاص موقع الناشر |
حملت الأيام المنصرمة من شهر شباط عناوين سياسية عديدة ومواقف مستجدة ومعادلات ميدانية بلغت حد الإقليم. وتوزعت الرسائل داخل لبنان وخارجه والكيان الصهيوني وصولًا إلى القيادة المركزية الأميركية، فقرأها الجنرال كينيث ماكينزي وقيادة الكيان بتمعّن.
ومن المعلوم أن شهر شباط من كل عام هو شهر المقاومة الإسلامية في لبنان، مستمدة وهجها من مفاهيم الثورة الإسلامية المباركة في إيران بقيادة القائد الأعظم الإمام الخميني المقدس. وما تزال قوة المقاومة وحزب الله تتزايد بتفاعل متزايد مع الإمام الخميني والإمام الخامنئي ودماء الشهداء القادة الشيخ راغب حرب والسيد عباس الموسوي والحاج عماد مغنية.
وعلى امتداد أيام ذكرى الانتصار في إيران وذكرى الشهداء القادة في لبنان وما بعدهما، كان ما بينهما لقاء إعلامي للأمين العام لحزب الله سماحة السيد حسن نصر الله حدّد فيه بعض العناوين الأساسية، سواء ما يتعلّق بالعدو الأميركي والإسرائيلي، أو ما يدخل في صلب السياسة اللبنانية الداخلية.
لقد برزت المحطات الثلاث في الأيام الأخيرة، اللقاء الإعلامي للسيد نصر الله على قناة العالم واحتفال ذكرى الشهداء القادة وإطلاق المسيّرة “حسان” فوق فلسطين المحتلّة، على أنها قاعدة انطلاق جديدة للعمل الأمني والسياسي والعسكري وحتى الاقتصادي، وما يتفرّع عنها كلها من عمل إعلامي وثقافي وتوجيهي، قد تكون خارطة طريق هذا العام وصولًا حتى شباط المقبل لوضع خارطة أخرى.
من هنا يمكن وضع خطوط عريضة للمواقف والأحداث، وقراءتها بشكل دقيق لما تحمله من رسائل متنوعة وموزّعة على مختلف الأطراف، أبرزها:
- أطلق السيد حسن نصر الله مصطلحًا يحفر عميقًا في الوعي الإسرائيلي، بأنه مهما امتدت السنوات فإن الكيان إلى زوال، وبعبارة “مؤقت” أعطى توصيفًا دقيقًا لحياة وعمر الكيان الإسرائيلي، فهو لن يتجاوز السنوات المعدودة.
- وضع السيد حسن نصر الله حدودًا للتجاوز الإسرائيلي في سماء لبنان، فأعطى أوامره بمنع العمل المستباح لسلاح المسيّرات الإسرائيلية ضمن مقدرات القوة التي تمتلكها المقاومة، والأهم أنها باتت فعالة في الميدان وجاهزة للاستخدام في أي وقت تراه قيادة المقاومة مناسبًا.
- تفعيل الدفاع الجوي لاعتراض المسيّرات بشكل رسمي ودخوله ميدان المواجهة مع العدو الصهيوني، ما يمهّد للدخول في معادلة جديدة تطال سلاح الجو الحربي وتعيق حركته. ولطالما أعلن السيد نصر الله عن وضع حدّ لسلاح الجو الإسرائيلي بكافة تقنياته. ويعتبر سلاح الطيران الحربي فخر القوة الإسرائيلية في المنطقة بأكملها، حيث إن معادلة شلله تؤدي إلى شلل الجيش الصهيوني برمّته ومنه يدخل إلى زوال الكيان الصهيوني المؤقت.
- دخل السيد نصر الله على خط ما كان أشار إليه رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله السيد هاشم صفي الدين سابقًا، بالحديث عن النفوذ الأميركي الواسع على مختلف الإدارات اللبنانية ومؤسساتها، الرسمية والخاصة والحزبية، ليرسل إشارات جديدة حول جدية العمل على إخراج الأميركي من هذه المؤسسات.
- جاء الإعلان عن اكتفاء حزب الله العسكري، واستخدام فخر الصناعة الللبنانية، بتصنيع المسيّرات وتطوير المخزون الصاروخي، كضربة لكل الكيان الإسرائيلي المؤقت، من حيث فشله في منع تطوير سلاح المقاومة أو امتلاكها له، فضلًا عن العجز المطلق عن تدمير الترسانة السابقة أصلًا، وهو ما يعطي فشلًا ذريعًا لكل العمليات العسكرية الصهيونية خارج فلسطين المحتلة.
- تصريح السيد حسن نصر الله وإعلانه أحد أهم الأسرار العسكرية يعطي إشارات واضحة عن امتلاك المقاومة عناصر أخرى باتت في الواقع أعظم وأهم من تصنيع المسيّرات وتطوير القوة الصاروخية، وهذا يدفع بأن مجرد كشف هذه القوة يعني أنها فقدت أهميتها التراتبية لمخزون الأسرار والممتلكات العسكرية التي بحوزة المقاومة والتي لم يُكشف عنها.
- وعلى صعيد موازٍ، فإن سيد المقاومة يوجه رسالة تهديد وتحذير لقيادة العدو ومستوطنيه، بأن أي حماقة تُقدم عليها قواته المأزومة فإن سلاح الصواريخ الدقيقة والمسيّرات بات بأعداد وافرة وكبيرة لانتاجها محليًا وهي جاهزة للاستخدام في أي وقت تريده المقاومة، وكما جرت العادة سابقًا فإن ارتفاع نبرة التهديد يدل على وجود مخطط عدواني إسرائيلي، يلجأ السيد نصر الله إلى إفشاله.
- يشعر الكيان الصهيوني المؤقت بصعود دولة قوية تواجهه (الندّ بمصطلح القوى العسكرية بما يمتلكه حزب الله من ترسانة متطورة) لها المقدرة الميدانية والإمكانيات اللوجستية، والأهم من ذلك كله إرادة التفعيل والتحدّي والتنفيذ التي تفتقدها معظم الدول، وهو ما يضع فكرة زوال “إسرائيل” على سكة التنفيذ الفعلي عندما تتلاشى قوة جيشها.
- لم يكن من السهل تصنيع قوة آلية عسكرية لدى حزب الله بإمكانياته المحدودة مقابل قدرات الدول العربية كلها، منفردة أو مجتمعة، إنما أثبت أنه على الطريق الصحيح لزوال إسرائيل، وافتضاح الدول العربية بنفاقها، لا سيّما بعد هرولتها إلى التطبيع رغم امتلاكها أكبر مخزون مالي في العالم.
- بيّن حزب الله قدرات الشباب العرب ومهاراتهم في التصنيع العسكري الدقيق، وما له من حساسية ودقة عالية تتجاوز التصنيع المدني في غالبيته، ليُثبت أن الحكومات العربية المحلية هي العائق الأكبر أمام مهاراتهم وتفوّقهم العلمي وبراعتهم التصنيعية التي يمكن أن تتجه نحو مجالات حيوية أخرى، لا سيّما أن الاقتصاد اللبناني يقوم حصرًا على السياحة والمصارف، في الوقت الذي تبيّن أن خطة تدمير القطاع الصناعي كانت مقصودة، ولا تمّت إلى نقص في القواعد العلمية والمهارات الشبابية بصلة، وهذا ما يدفع إلى الشكوك بسياسة الاستجداء الخارجي ونسف الاقتصاد المنتج محليًا لا سيّما في مجال الصناعة، وتبيين أهدافها. وهذا حال أغلب الدول العربية.
ومن مفاعيل حديث السيد، أن انطلقت المسيّرة “حسان” بما تحمل من معانٍ يفهمها العدو والصديق ومن هو بينهما، لتجوب على مسافة 70 كلم فوق الأراضي الفلسطينية ولمدة 40 دقيقة متواصلة، وعجزت كل الأجهزة الإسرائيلية، المخابراتية والأمنية والعسكرية، عن استباق المعلومات عنها أو صدّها أو إسقاطها، أو حتى منعها من تحقيق هدفها المعلن والمكشوف وهو جمع المعلومات وتسجيل نقاط تفوّق علنية على الكيان الإسرائيلي المؤقت، ومن أبرز مفاعيل عملية “حسان”:
- إعادة الذاكرة لمؤسس العمل العسكري الجوي في حزب الله، الشهيد القائد حسان اللقيس، بما يعني عدم نسيانه بعد مرور 9 سنوات على اغتياله، وهذا لم يأتِ فقط لإنعاش الذاكرة بالشهيد أو تتوقف عند تكريمه، بل يؤكد عدم إقفال ملف دمه الذي لم يجف على مدى السنوات.
- بالنظر إلى الربط الميداني ما بين قوى ودول محور المقاومة، أثبتت كل هذه القوى أنها متماسكة ومتناسقة فيما بينها، وأن الميدان العسكري يعمل لصالحها، سواء في العراق أو سوريا أو اليمن أو فلسطين، وأخيرًا دخول حزب الله بمعادلة عسكرية جوية جديدة، سبقتها مواقف عالية المضمون.
- توحيد خطاب الصناعة العسكرية بين دول محور المقاومة بما كان قد أسّسه الشهيد القائد قاسم سليماني، إذ إن المسيّرات والصناعات الصاروخية تتقدم بشكل مطرد، كما هو حاصل في اليمن وفلسطين ولبنان، وبطبيعة الأمر لدى الحشد الشعبي في العراق وفي سوريا، ولا يستبعد أن تكون التقنيات مدروسة ومتناسقة ويُعمل على التجارب في مختلف الجبهات، فأثبتت قدرتها وفعاليتها في مختلف المواقع الجغرافية والمناخية.
- أثبت حزب الله أنه أكبر من الساحة المحليّة، ولاعب حقيقي على مستوى الإقليم، ويستطيع أن يخاطب المنطقة بقوة حضوره ومقدراته التي تطال عمق الكيان المحتلّ وتشكل تهديدًا رئيسيًا بل وجوديًا له، ومن ورائه دول الخليج اللاهفة إلى التطبيع معه.
- جاءت عملية “حسان” لتشكل صفعة قوية للأميركي والإسرائيلي معًا، ومن معهما في الداخل اللبناني الذي وضع نفسه في نفس الخانة، واعتبرها أيضًا صفعة على وجهه لأنها تطال أهدافهم المشتركة.
- دخلت الطائرة المسيّرة “حسان” العملية الاستراتيجية كما دخلت عملية استيراد المازوت سابقًا، وكلاهما يشكلان تحدًّا واضحًا وعلنيًّا وكبيرًا لا لُبس فيه، لكل من الأميركي والإسرائيلي معًا، مع جرأة اختراق المجال الجوي فوق فلسطين المحتلة وما يمكن أن تستتبعه من أحداث قد تحصل كانت المقاومة جهزت نفسها لها.
- ضرب فخر الصناعة الإسرائيلية المتمثلة بالقبة الحديدية والدفاع الجوي، التي تعمل إدارة الكيان على تسويقها في المحافل الدولية، وهي الضربة الثانية لها بعد معركة سيف القدس.
- وصلت أصداء “حسان” إلى الجنرال ماكينزي بعدما أعلن عن عدم قدرته حماية الإمارات من القصاص اليمني، وها هو يقرأ أيضًا عدم حماية الكيان لنفسه ويثبت عدم مقدرة الصناعة العسكرية الأميركية والإسرائيلية على حماية الكيان من خطر حزب الله.
- أثبتت عملية “حسان” أن الكيان الصهيوني لا يستطيع حماية نفسه من عمليات حزب الله مع كل تفاخره بتقدم صناعته العسكرية، فضلًا عن عجزه عن حماية دويلة الإمارات الزجاجية، ما يفترض أن تعيد الأخيرة حساباتها في عدوانها على اليمن، أو الاستنجاد بالدفاعات الجوية الإسرائيلية إلا إذا كان الهدف منه لزوم التطبيع والدعم المالي للكيان المؤقت تحت ذريعة شراء منظومة الدفاع الجوي.
- وفيما يتعلّق برسم المعادلات، أثبتت عملية “حسان” انطلاقة معادلة جديدة، مفادها أن السماء مفتوحة للجميع، وطالما أن الإسرائيلي يتمادى باختراق الأجواء اللبنانية فإن للمقاومة حق الرد عليه بالمثل، والدخول إلى عمق فلسطين بمهام استطلاعية وتصوير المراكز وتوسيع بنك الأهداف بمصادرها الخاصة.
- باتت المقاومة تستطيع أن تعمل بحرية قرار دخول الأراضي المحتلة، لكن ذلك يخضع طبعًا للاعتبار الميداني والعملياتي، إلا أن القرار المركزي بالعمليات بات موجودًا.
- خلق حالة رعب دائم وقلق متواصل لدى قيادة الجيش الصهيوني، وإظهار حالات الفشل وتسليط الضوء عليها، وهذا حالها عند كل خطاب للسيد نصر الله أو أية عملية عسكرية أو أمنية نوعية للمقاومة.
- مزيد من تآكل هيبة الجيش الصهيوني لدى مستوطنيه ولدى الشعوب العربية، وهو يعمل جاهدًا على إعادة مفاعيلها لكنه يقع كل مدة من الزمن بإخفاق وفشل في برامجه الأمنية والعسكرية.
- أثبتت سرعة الردّ الإسرائيلي على عملية “حسان” بالاكتفاء بطلعات سلاح الجو والغارة الوهمية فوق الضاحية الجنوبية لا تتجاوز الدقائق المعدودة، على أنها في أضيق مساحة حقيقية للرد، فلم تستطع الردّ كما تتوعد في كل مرة نظرًا للمعادلة السابقة بكفّ يدها والجاهزية لضربة متناسبة مع أي عدوان إسرائيلي.
- إن سرعة اجتماع قادة الجيش الصهيوني وتدارس حالة الاختراق وإعادة النظر في مكامن الخلل في منظومة الدفاع الجوي تشير إلى تخبط وانكشاف ثغراته المستمر.
- أما من الناحية المالية، وقياسًا على تكلفة تصنيع طائرة “حسان” المالية، وما استنزفته من آلاف الدولارات من منظومة الدفاع الإسرائيلية لمواجهتها، استطاعت المسيّرة بطلعة واحدة تكبيد الكيان خسائر مالية فادحة، فكيف إذا تتالت عمليات التحليق في سماء فلسطين، وعلى مدار أيام متتالية أو حتى على مساحات جغرافية أوسع، او حتى إذا ما انطلقت عشرات الطائرات معًا؟ ومع كل هذا النزيف المالي، من إطلاق صواريخ اعتراضية وطلعات الطائرات الحربية وتحليق المروحيات، لم يستطع إسقاط طائرة “حسان”.
- يأخذنا مشهد دخول طائرة “حسان” إلى العمق الإسرائيلي لعمل استطلاعي في حالة هدوء الجبهات، وفي الوقت الذي يُعتبر جيش الاحتلال أنه على أهبة الدفاع عن كيانه المؤقت، فكيف حاله مع فتح الجبهات كلها وانطلاق عشرات المسيّرات من مختلف المحاور، وليس لعمل استطلاعي بل لتنفيذ هجمات عسكرية محددة ومرسومة ومخطط لها بدقة؟
لقد جاءت عملية “حسان” مترابطة مع المواقف والخطوط التي رسمها الأمين العام لحزب الله، فكان السياق الزمني والتجسيد في المواقف متناسقًا ومنسجمًا ومتكاملًا، لذلك لا يمكن فصل المواقف الكلامية عن المعادلات الميدانية.
ويتأكد يومًا بعد يوم، أن قوة حزب الله ومعه قوة محور المقاومة، تسير بخطى ثابتة نحو إزالة الكيان الإسرائيلي من الوجود، وما كل الجبهات التي تحركها الولايات المتحدة الأميركية في قبالة المحور إلا للاستفادة من الوقت ومحاولة وضع عراقيل له أو لنسفه عسكريًا، وهو ما لم تستطع تحقيقه حتى الآن، وينعكس هذا على الداخل الصهيوني، قيادات ومستوطنين، الذين باتوا يشعرون في كل يوم أنهم أقرب إلى الزوال من أي وقت مضى.
*باحث وكاتب سياسي