حمزة الأمين – خاص الناشر |
حكيت عنك كثيرًا، سمعت الكثير، وكتبت القليل، بفرح المُحبِّ ولوعة الفاقد، ولهفة المُشتاق للقاء. لستُ بوارد الكتابة عن جوانب شخصيتك، ولا عن مآثرك وما صنعته، الليلة أجدني ناعيًا، ناعيًا فقط، حتى أقسى صنوف النعي.
كيف أكتبها قصتي معك؛ أنا الذي بحثتُ عنك كثيرًا ولم أجد سوى القليل منك، ولا زلت أبحث، كيتيمٍ متشرّد، دلّوه على وطنهِ بإيماءة رأس، أو إشارة سُبابة مُبهمة الاتجاه، قالوا له: “والدك على هذا الكوكب”، وما أعطوه سوى كوفيّتِهِ التي فيها عبقُ طيبه، وشيءٌ من دموعهِ وعرقه، وكثيرٌ من الصور.
كيف يكون بحثُ الولد عن أبيه، الولد المسجون في فسيح هذه البلاد، المُقيّد بالمسافات؟ أراني أرفعُ يديّ كل ليلة لعناق، أصرخُ: “أبي”، ولا يرد الصدى “بُنيّ!”. أضمّ طيفك الحاضر في كل مكان، أفك يديّ الملتصقتين في الخلف وأسبلهما مهزومًا، أُقبّل صوتك الذي لا ينطفئ، حتى تشقّقت شفتاي لكثرة ما قبّلت الهواء الجاف. أجالسُ غيابك، أغرق وإياه في الحديث عنك؛ نشرب الشاي، والقهوة، والموسيقى، ونفرغ فنجانك بعد أن يبرد ونعيد ملأه، هكذا حتى تنام النجوم، هكذا حتى أفيق على أناتٍ تردني من سماء بغداد.
أنا الذي يأسرني سحر الأماكن، صرتُ أُسمّي أحلاها باسمك، وأنا المُتيّم بمُدن الشرق، أضفتكُ معلمًا إلى معالمها. أعرضتُ عن الكُتب التي تحكي تاريخها وفتحتُ كتابك، وحيثُ عثرتُ على أثرٍ لك، بقيتْ شذراتٌ من روحي وعُدْتُ منها حزينًا. وأنت، لم أستطع حتى الساعة أن أُسميك، ولم أجد مفردةً أختصرك بها لأُجيبَ سائلًا عما يشغلني.
قاسم، الحاج، الحاج القاسم، الحاج قاسم سليماني، الشهيد!
تلك الأخيرة استبعدتها مباشرةً، لقصور فهمي لها لا لقصور معناها. أنت تمنيتها وسعيت إليها، بل استسلمت لجمالها حين أغوتك، وأنا الذي لا زالت الدنيا تبهرهُ أُزايدُ عليك بالبقاء! هل أغبطُك؟ لا، لست بهذا المقام، ولا بمقامٍ يُقاس. أنا بمقام المُتحسّر على غيابك، الفاقدِ لمن لم يمسك بيدهِ مرة، ولم يُقبّل له رأسًا أو كتفًا.
حاجّ قاسِم، اسمك هذا مع اللقب المرتبط بشعيرة تؤدى إلى بيت الله، أُحبّهُ، وأجدني أردّده بسرور، وأجدهُ الأقرب إليك، أنت الذي طُفت حول الأرض لأجل أهلها، وسعيت بين صياصي الجبال ومناكب الهضاب، لتحفظ بيوت الله وأوليائه وأحبابه من الفقراء والمُستضعفين، ولتحفظ أوطان النبوة من مكائد القتلة. أراك أدّيت المناسك، وحين التضحية فرَيت جسدك المُتعَب، وبالغت!
صرت كعبة، وصارت أيامنا موسمًا دائمًا للحج، للجهاد، والشهادة. والطواف بين عينيك وجبينك لا ينتهي. ديننا أنت، أصولًا، فروعًا، ونهارات جهاد، وليلَ نُسّاك يعرجون إلى السماء بحبّك، وبراءةً من أميركا إلى يوم يبعثون، وللرجم موعدٌ ننتظره، نحمل مشعلك ونمضي، رغم شراراته التي تقرّح أيدينا نحمله، ونمضي إلى حصاد ما زرعت.
هلّ سمعتني أناديك بـ”أبي”؟ أتحسبني أرجو انتماءً إليك، أو طامعًا في حمل اسمك؟ رُبما يكون ذلك، لكن الحقيقة ليست بهذا اللطف، أنا عرفتك أبي لحظة رحيلك، رحيلك الذي أعلنني يتيمًا بلا مقدمات الناعين. وبعد رحيلك كيف سأخبر الناس أنّك أبي، وليس بيدي دليل انتسابي؟ هل أخبرهم أنني عرفتك من الجنون الذي أصابني؟ من قلبي الذي توّقف ثم عاد للنبض ببطءٍ مُخيف؟ أم من يدك المقطوعة التي امتدت لكبدي واقتطعت منها ما ادعت أنه خاتمٌ؟ ثم كيف تكون أبي أنا وحدي ومذ رحلت يصطف الآلاف في ميدانك معلنين الانتساب إليك!