الدولة في تعريفها تنظيم سياسيّ يكفل حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من الناس تعيش على أرض معيّنة. وهي في فلسفة هيغل أرقى الأشكال التي يمكن أن تصل إليها الروح، التي تصل في نهاية مسيرتها الحضاريّة إلى تحقيق حريّتها من خلال الاتّحاد بالدولة. والدولة برأي هيغل هي التحديد الذاتيّ؛ وهذا التحديد الذاتيّ يعبّر عن المسؤوليّة النابعة من الذات الواعية الساعية إلى تحقيق حريتها، وليست فرضًا من سلطات عليا خارجة عن الذات.
حينما نتحدّث عن وطن مستقلّ فإننا نعني به ثلاثة عناصر مكوّنة له هي: الأرض، والشعب، والسلطة، ورابطة العلاقة بين الشعب والسلطة هي ما يمكن أن نعبّر عنه بالنظام. وقد تعددت الأنظمة الاجتماعيّة والسياسيّة عبر تاريخ المجتمعات البشريّة، وشهدت مجتمعاتنا المعاصرة تعدّدًا في الأنظمة الاجتماعيّة من الليبراليّة إلى النيوليبراليّة، فالاشتراكيّة والشيوعيّة.
قام التباين بين هذه الأنظمة على الاختلاف على محوريّة الفرد وموقعيّته من الجماعة، وفي هذا الخصوص طرح العديد من الفلاسفة وعلماء الاجتماع من أمثال ماركس وفيبر مشكلة ما هو الأسبق الوعي الفرديّ أم الوعي الجماعيّ؟
قامت الأنظمة الليبراليّة على مفهوم الحريّة الفرديّة بأبعادها المتعددة: الاجتماعيّة، الاعتقاديّة، الاقتصاديّة والسياسيّة؛ فللفرد الحريّة في اعتقاداته وممارساته الخاصّة، وله الحريّة في أن يتملّك ما يشاء بقدر ما يشاء. فيما قامت الشيوعيّة على تهميش حريّة الفرد لصالح الجماعة، وإلغاء الملكيّة الخاصّة؛ فالملكيّة هي ملكيّة الدولة، والفرد لا يتملّك إلّا بقدر ما يحتاجه.
بناءً على ما سبق، يأتي السؤال: أيّ من الأنظمة السابقة هو السائد في لبنان؟ هل النظام اللبنانيّ ليبراليّ أم اشتراكيّ أم شيوعيّ أم دينيّ؟
ليس من السهل تحديد طبيعة النظام اللبنانيّ، وهل هو نظام يكفل حقوق الفرد وحريّته الخاصّة بأبعادها كافّة، أمّ أنّه يذيب الفرد في الجماعة ويجعل الفرد في خدمة الدولة، ومن غير الواضح إن كان نظامه علمانيًّا أم دينيًّا.
المتابع للواقع اللبنانيّ يجد أنّ نظامه عبارة عن مركّب هجين من عناصر متنافرة غير متآلفة، يختلط بعضها ببعض. ويعود هذا الأمر إلى نشأة الكيان اللبنانيّ المعروف بدولة لبنان الكبير، برعاية فرنسيّة من خلال إلحاق المناطق التابعة للولايات بجبل لبنان الذي كان زمن العثمانيين يعرف بالمتصرفيّة.
هذا التركيب الذي حصل بوصاية خارجية كانت له نتائجه السلبيّة التي لا تزال آثارها إلى الآن، وربما تستمرّ إلى زمن أحفادنا وأحفاد أحفادنا. ومن أبرز تجليّات هذا التركيب أنّه جعل من الشعب اللبنانيّ شعوبًا في شعب واحد؛ هذه الشعوب أو المكوّنات الشعبيّة غير متوافقة على هوّية لبنان، هل هي عربيّة أم فينيقيّة؟
ونتيجة هذا الخلاف جاء ميثاق 1943 ليكرّس أنّ لبنان ذو وجه عربيّ. وهذا الإعلان الرماديّ هو تعبير عن الصراع الموجود بين مكوّنات لبنان على الانتماء والهويّة، وهو أيضًا تعبير عن عدم قدرة مكوّن على التغلّب على المكوّنات الأخرى.
نتيجة الواقع الذي ذكرنا، يشدّد الجميع في لبنان على مفهوم التعايش؛ هذا المفهوم الذي لا يعبّر عن وطن، إنّما يعبّر عن كيان يضمّ إثنيّات ومكوّنات متعددة ومختلفة في الرؤى والأيديولوجيا، ولأنّها توجد على أرض واحدة فإنها تحتاج دائمًا إلى أن يتعايش بعضها مع بعض، وأن يسود التفاهم والحوار فيما بينها، وإلّا فالمصير هو الحرب الأهليّة كما حصل في عام 1975. وبناءً عليه، فإنّ المجتمع اللبنانيّ محكوم دائمًا بهذا الهاجس.
يبحث الكثير من المحللين في الواقع اللبنانيّ محاولين الكشف عن حلول للأزمات التي تفرض نفسها على اللبنانيّ، إلّا أنّ هذه المحاولات تبقى قاصرة عن تقديم رؤية بديلة لما هو قائم؛ وذلك لأنّها تتستغرق في القشور، من خلال تحليل الممارسات السياسيّة والاجتماعيّة اليوميّة لمختلف الأفرقاء السياسيين، فيما الصواب هو أن نتجاوز القشور للبحث في الجوهر. والأجدر بنا أن نتناول المشكلة اللبنانيّة من ناحيتين: أنطولوجيّة ومعرفيّة، محاولين أنطولوجيًّا الكشف عن حقيقة هذا الكيان وطبيعته الوجوديّة، ومعرفيًّا نحاول معرفة طبيعة العلاقة بين عناصر هذا الكيان مستخدمين منهج التحليل التاريخيّ، عسانا نصل إلى جوهر المشكلة، بغية وضع العلاج المناسب لها.