فساد “الاشتراك” من فساد “الدولة”

فرضت المعاناة مع احتضار “كهربا الدولة” منذ سنين، الحاجة إلى مصدر بديل للكهرباء: المولدات الخاصة بالمباني، والأكثر انتشارًا “مولدات الأحياء” أو ما يُعرف بـ”الاشتراك”.
“الاشتراك” المكلف والذي بدأ منذ تسعينيات القرن الماضي، أي بعد انتهاء الحرب الأهلية، اعتمد كحلّ مؤقت لتقنين كهرباء الدولة في الضاحية. وإن كان يشكّل في تلك الأيام ترفًا كماليًا بالنسبة للبيوت، فهو اليوم حاجة ضرورية وملحّة وحيوية. فالحاجة للكهرباء لم تعد مرتبطة بالإنارة فقط، والتي قد تُستبدل تلبيتها بالشموع أو بالإضاءة عبر “لمبة فليوريسان” وبطارية سيارة، بل تتعلق اليوم بكلّ تفاصيل الحياة، ولا سيّما في ظل الأزمة المعيشية الراهنة والتي تجعل من تلف المتبقي من “وقية لبنة” في للبراد مشكلة حقيقية، أو في ظلّ موجات الحرّ والرطوبة المعتادة صيفًا، والتي تزيد من احتمالات الإصابة بنوبات الحرّ والاختناق لمن يعانون من مشاكل تنفسية وحساسية. هذا بالإضافة طبعًا إلى الحالات المرضية التي تستلزم ماكينة أوكسيجين أو غيرها من الألات الطبية التي تعمل على الكهرباء، والتي تصبح حياة مستخدميها في خطر بسبب انقطاع الكهرباء، وغياب “الاشتراك”.
طال احتضار كهرباء الدولة، ومعه توسعت بقعة انتشار مولدات الأحياء لتبلغ معظم قرى الجنوب والبقاع. مع الإشارة إلى نجاة “كهرباء زحلة” من مرض الطاقة وإلى تميّز بيروت الإدارية بتقنين “مدلّل”، فكانت قبل الأزمة تبلغ فيها ساعات التغذية عشرين ساعة في اليوم ما ينفي حاجتها إلى مولدات اشتراك.
منذ دخول الأزمة في لبنان إلى مرحلة الخنق المتواصل، وبين شحّ مادة المازوت والجشع الفظيع العابر لمافيا المولدات الخاصة، يواجه الناس الانقطاع المستمر للكهرباء، سواء خطوط “الدولة” المتقطعة والتي تختفي نهائياً في بعض الأيام، إلى خطوط “الاشتراك” الخاضعة لابتزاز بعض أصحاب المولدات أحيانًا، رغم ارتفاع تسعيرتهم بشكل هائل في الأشهر الأخيرة والتي كادت تعادل الحدّ الأدنى للأجور شهريًا.. رضي الناس بالزيادات المفاجئة في نهاية كلّ شهر، وما رضي الكثير من أصحاب المولدات! لا شكّ أن أزمة غلاء المازوت في السوق السوداء لها حصّة كبيرة في خوف القطاع الخاص “الكهربائي” المستحدث والمقنّع على أرباحه. إلّا أن الزيادات على فاتورة الاشتراك يغطي التكلفة ويحفظ هامش الأرباح وإن بشكل أقل نسبيًا ممّا قبل الأزمة. والفجّار عادة لا يقبلون بأي نقص في الأرباح ولا سيّما أن التعاون والتنسيق سابقًا فيما بين معظمهم جعلهم يتبادلون خطوط كهرباء الدولة وبيعها للناس باسم “كهربا الاشتراك” وبالتالي كانوا يوفرون كميات هائلة من المازوت وساعات كثيرة من استهلاك المولدات عبر لعبة تبادل الخطوط. اليوم ومع الغياب شبه التام لكهرباء الدولة، صار لزامًا عليهم الاستهلاك “الفعلي” للمولدات ولمادة المازوت والتي يتقاضون أثمانها كاملة، قبل اشتداد الأزمة والآن. وهنا، ومع اعتياد بعضهم تحقيق الأرباح الكبيرة بكلفات رمزية، لم يعد يرضى جشعهم بأرباح منطقية وتشغيل فعلي لمولداتهم.
هو عمل مافياوي بامتياز، لا سيّما مع استعادة بسيطة لصوت الرصاص الذي اعتدنا سماعه في كثير من الأيام ومصدره “الاشتراك الفلاني”، ناهيك عن إخضاعهم الأحياء إلى الخيار الوحيد في وجهة “الموتير” إذ يتقاسمون في ما بينهم البيوت والشوارع، بحيث تحلّ الويلات على رأس زبون حاول تغيير مصدر “الاشتراك” إلى منزله لسبب أو لآخر.

“الاشتراك” في بعض المدن اليوم يشكّل نموذجًا مسخًا عن آلية عمل القطاعات الخاصة الهامشية، والتي فرضت وجودها من خلال استثمار الأزمات. هذا الحلّ البديل عن الكهرباء المحتضرة، وجد في بعض القرى شكلًا من التنظيم المرتبط بالبلديات مما يحمي الناس من جشع بعض أصحاب المولدات “الفجّار”، بينما لا يزال اللبناني واقعاً بين سندان “الدولة” ومطرقة “الاشتراك”.

اساسياشتراكالفسادكهرباءلبنان