الحرب النفسية تأخذ شكلها الخاص في كل تجربة، فتتأثر بحسب المستهدف، وتأخذ شكله ومضمونه ليكونا هدفًا، والمتلقي للحرب يتأثر بها بحسب ثقافته ورؤيته ومشروعه السياسي، فاختلاف ثقافة المرسل عن ثقافة المتلقي في الحرب النفسية يؤدي إلى استجابة قد تختلف عما أراده المرسل، خصوصًا وأن تلك الاستجابة تتخللها عملية دفاعية نفسية وذهنية تتأسس على طبيعة المتلقي.
في لبنان قدمت المقاومة نموذجها الخاص في استخدام وتصريف القوة، ومارست ضبطًا للنفس غير مألوف لدى المنتصرين، كما أنها التزمت بواقعية دقيقة في السياسة الداخلية تختلف كثيرًا عن الطموح المتجاوز للوقائع وموازين القوى في سياستها التحررية تجاه الخارج، ومن الواضح أنها نجحت في ساحة الطموح أكثر مما أنجزت في تعقيدات الواقع الداخلي.
انشغل الأميركي وحلفاؤه الداخليون والخارجيون، وخصوصًا بعد حرب تموز 2006، بالبحث في قضية حزب الله من جميع الجوانب، سعيًا لتخطي حواجز الاختلاف الثقافي التي وقفت حاجزًا أمام نجاح البرامج الأميركية ولا تزال. لقد أحبطت المشاريع الأميركية السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مواجهة المقاومة في لبنان بفعل جهل الأميركي وأدواته بنقاط القوة ونقاط الضعف الحقيقية في تموضع المقاومة وفي بيئتها، بحيث لم تفلح البرامج الإستراتيجية التي صرفت عليها المليارات في تحقيق إنجاز جوهري، وإن كان قد نتج عنها إشغال للمقاومة في مواجهات متعددة ومتنوعة لفترات متمادية.
في سياق تلك الجهود البحثية والعلمية، عقد في شباط 2018 مؤتمر بعنوان “تفكيك شيفرة حزب الله”، إنها شيفرة غامضة بالنسبة لهم ولا تزال، سر ملتبس يحتاج إلى كشف وتمحيص كبير. شارك عشرون باحثًا ومختصًا في عملية التمحيص هذه، وأحد المشاركين هو ابن الضاحية الجنوبية لقمان سليم، الذي يعبر بشكل واضح عن حالة الالتباس، ويقدم نفسه كخبير لصيق بالبيئة وقادر على فك شيفرتها الخاصة. نقطة مركزية في مداخلته هي تغيير النظرة إلى حزب الله، وإعادة تعريفه على أنه إحدى نتائج الحرب الأهلية، وليس نتيجة فعل المقاومة ضد المحتل، يقول: “هو وريث الحرب وهو ابن الحرب الأهلية وإنما يزكيه اليوم على إخوته من أبنائها من شاخ منهم ومن انقرض، وما توفر له من ظروف محلية وإقليمية حفظت له أسباب البقاء والحيوية”. لهذا الإدعاء على ما يبدو من سياق كلام لقمان سليم خلفيتان، الأولى معرفية، تتعلق بتأطير حزب الله ضمن العقلية المادية الليبرالية والنفعية بحيث تسقط حالة الغموض عنه ويصبح حالة عادية، والثانية سياسية، تتعلق باستهداف الصورة التي قدمها حزب الله كحركة تضحي لأجل القيم، التضحية التي لا يمكن للأميركيين وأدواتهم أن يفهموها أو يدركوها حتى من الناحية التحليلية. يكمل لقمان كلامه قائلًا: “من باب السذاجة أو من باب المجاملة أو شر من ذلك، نزولًا عند داعية الاستقامة السياسية، بأن حزب الله ابن المقاومة لا ابن الحرب، في أن يتحول حزب الله إلى هذا اللغز الذي لا يزيده غموضًا إلا التغاضي عن نسبه”. إذًا يحتاج العقل الليبرالي إلى إسقاط حالة المقاومة المثالية وتحويلها إلى إحدى نتائج الحرب الأهلية، وهذا يكشف ما يضمره لقمان، وما يشتغل عليه الأميركي في أماكن كثيرة، من السعي إلى إدخال الحزب في الحرب الأهلية، لإفقاده صفات النزاهة والمسؤولية والمصداقية والأخلاقية المثالية، التي تعد عنصر الاستقطاب الجوهري لديه.
بعيدًا عن الدخول في استطرادات تحليلية تتعلق بكلام لقمان، نعود إلى الواقع الحالي، حيث تتعرض المقاومة إلى حرب إعلامية شاملة تستند إلى حصار اقتصادي مطبق يعطيها مادة فعالة، وتتمحور كل المعركة حول فكرة أن حزب الله هو جزء من منظومة الفساد، ويتحمل بالتالي نتائج الحصار الاقتصادي، مثله مثل سائر الأحزاب الأخرى، وهكذا نجد التطابق بين فكرة لقمان سليم وبين الحرب الجارية حاليًا، وإن كان كلام لقمان يميل إلى تحديد نسب حزب الله، فيما تعتمد الحرب الحالية على الواقع الحالي، لكن الغاية واحدة وهي إخراج حزب الله من عباءة المقاومة والمثالية الأخلاقية وإغراقه في الواقع اللبناني الفاسد والمتعفن، بحيث يتلوث ويصبح في نظر الجمهور حزبًا فاسدًا مثل سائر الفاسدين.
يراد من هذه الحرب غايات أكثر عمقًا، فالمستهدف ليس فقط الجمهور الرمادي أو المؤيد أو الذي ينتخب ممثلي حزب الله، بل يراد أن تتغير القناعات داخل البيئة اللصيقة للحزب، بل حتى داخل الحزب نفسه، وبغض النظر عن وجود طموح لدى المشغل الأمريكي بتحقيق هذا الهدف أم لا، فإن تداعيات الرسائل النفسية جارية بشكل طبيعي وتستهدف هذا العمق، حيث إن إسقاط صفة المثالية والنقاء الأخلاقي من القناعات والاعتقادات، هو هدف نهائي وممكن بحيث إن نزع الاعتراف وتحقير الإنجاز، بما يولده من الإحباط، يمكن أن يؤدي بالإنسان إلى التخلي عن الطموح وعن القيم التي يعتنقها.
الحرب النفسية الجارية، ووسم حزب الله بالفساد وبالتغطية على الفساد أو حتى السكوت عنه دون تعليل ذلك السكوت، رغم أنه لم يستفد من هذا الفساد، سوى بالحفاظ على إمكانية الدفاع عن لبنان، تستفيد هذه الحرب الآن من الأزمة المعيشية، لتحويل هذا الاتهام إلى حالة غاضبة وإلى موقف شعبي يحمل المقاومة مسؤولية الأزمة. ليس هذا موضوعنا، والتركيز حول الحرب على الأخلاقية الخاصة بالمقاومة، فهذه الرسائل الخبيثة تريد تدمير مجموعة من المباني: تدمير الاعتقاد بإمكانية المثالية الأخلاقية في زمن تندر فيه حالة احترام القيم والتضحية لأجلها، تدمير الاعتقاد بوجود النموذج الاجتماعي الفعلي والتطبيقي الملتزم بالأخلاق، تدمير الاعتقاد بإمكانية استمرار الحالة القيمية والأخلاقية مع مرور الزمان وتقلب الظروف، وتدمير الاعتقاد بامكانية شمول السلوك الأخلاقي المجالات المختلفة العسكرية والسياسية والداخلية والخارجية.
يدفع المشغل الأميركي وشركاؤه من الفاسدين في هذا الاتجاه مجموعة من الدوافع، فأولًا تفضح المثالية الفاسد والعميل التابع للخارج وتسقطه في عين الجمهور، وثانيًا المثالية الأخلاقية محفز هائل للفطرة الإنسانية الإلهية وتوجد الدوافع التي تحرك الكوامن وتفعّل الطاقات الفردية والجماعية وتوجد حالة تفاعلية من دورات التضحية والخدمة والبذل بفعل تأثير النماذج الأخلاقية الفردية في نطاق وصولها الاجتماعي، وثالثًا تمنع الممارسة الأخلاقية الفعلية والملموسة الاستهداف السياسي وتحرس الجماعة المضحية من سهام الافتراء، ولذلك لا بد من تأطير الحزب ضمن الحالة اللاأخلاقية، ورابعًا الحاجة لكسر نقطة القوة في النزاهة والمصداقية والتي تعطي المقاومة فائضًا من القوة الجماهيرية والسياسية.
يتم تحميل هذه الرسائل بكثافة مرتفعة، مع تكرار واستدامة متواصلة ومن منصات لا تحصى، مع تضليل يقوم على ربط الوقائع والاستنتاجات بشكل غير صحيح، ويتم تغليف الافتراءات بلغة تحميل مسؤولية المظلومية، وفي المستوى التالي تتضمن الرسائل الاتهام بادعاء النقاء وأن الرسائل تكشف عن النفاق، وذلك لإسقاط الدفاعات النفسية، ومنع التفكير الواقعي والثقة بالنفس من مواجهة سيل الأكاذيب.
الغاية النهائية التي يراد لهذا البرنامج الإعلامي أن يحققها، إلى جانب استهداف ثقة الجمهور المؤيد والرمادي وصلته بالمقاومة، هناك غاية تمتد كما أشرنا إلى تغيير القناعة بضرورة وإمكانية الممارسة الأخلاقية. تبدأ هذه التاثيرات في المتلقي المنتمي والمؤيد للمقاومة عبر التشكيك ومراجعة الذات، وصولًا إلى تراجع الشعور بالمصداقية والنزاهة وإمكانية وجود سلوكيات غير سوية. إلى جانب هذه الهواجس التي يتم نشرها وتكريسها وفرضها بالقوة من خلال التكرار والموجات الإعلامية، هناك الإحباط الذي يولده عدم احترام الآخرين للمثالية الأخلاقية التي اتسمت بها سلوكيات المقاومة وبيئتها، وبالتالي يشعر المتلقي بعدم وجود مقابل ولا فائدة للتضحية والسمو الأخلاقي، وبالتالي يحصل التشكيك في جدوى المثالية، ولاحقًا القبول بانعدام وجود المثالية أو عدم ضرورة وجودها، وهذا يؤدي بشكل تلقائي إلى تفكيك الثقة الاجتماعية وتغيير قواعد العلاقات الفردية والاجتماعية والسياسية، وبالتالي تتراجع الدافعية الأخلاقية ويؤدي ذلك إلى تراجع الفعالية والاستقطاب والمصداقية، وبالتالي يتم تغليب الوهم المصطنع على الوقائع التاريخية الملموسة.
أفضل وسيلة لمواجهة هذا البرنامج هو كشف سبل تسلله إلى الأذهان والأنفس، وبالتالي معالجة آثاره من خلال الوعي بالحقائق وإسقاط الأوهام والالتفات إلى تأثيراتها النفسية والسلوكية، بحيث يتم استبدال الحالة الوهمية بالعقلانية الصادقة، فالصراع هنا صراع معرفي بشكل أساسي.