“أتمنى أن تطلبوا وقفًا لإطلاق النار وأن تتركوا حزب الله يرفضه… بدلًا من ذلك أنتم تحوّلون حزب الله إلى أبطال، حزب الله يقول للّبنانيين أن يصمدوا أسبوعين إضافيين وسيحقق لهم النصر الكامل”. يختصر كلام وزير الخارجية السعودي الأسبق سعود الفيصل للسفير الأميركي في الرياض جيمس سي. اوبرويتر، خلال اجتماعهما في 30 تموز/يوليو 2006، الدور الذي اضطلعت به المملكة السعودية إبان عدوان تموز. لم تكن مملكة آل سعود تلعب دور المتفرج على قتل اللبنانيين في بيوتهم وقراهم، بل كان أمراؤها يشاركون تل أبيب وواشنطن عدوانهما على لبنان من قصورهم في الرياض وجدة.
مبكرةً كانت السعودية تعلن اصطفافها بين طرفي الصراع بعد اندلاع عدوان تموز 2006. بين المقاومة و”إسرائيل” لم تفكر السعودية مرتين، حيثما تحل مصالح واشنطن، تجد أمراء آل سعود يلمّعون لها البلاط. بعد يوم فقط من اندلاع العدوان على لبنان، خرج الموقف الرسمي للمملكة في بيان نشرته وكالة أنبائها الرسمية (واس)، جاء فيه أن “السعودية تودّ أن تعلن بوضوحٍ أنّه لا بد من التفرقة بين المقاومة الشرعية والمغامرات غير المحسوبة التي تقوم بها عناصر داخل الدولة ومَن وراءها، من دون رجوع إلى السلطة الشرعية في دولتها، ودون تشاور أو تنسيق مع الدول العربية، فتوجد بذلك وضعًا بالغ الخطورة، يُعرِّض جميع الدول العربية ومنجزاتها للدمار، دون أن يكون لهذه الدول أي رأي أو قول”. وعلى وقع الموقف الرسمي السعودي، أتت صياغات المواقف العربية الرسمية في غالبها تصطف في خندق المملكة، والأردن ومصر والموقف الرسمي لجامعة الدول العربية، وكل من صُنف من يومها ضمن محور “الاعتدال” -كما سمّى نفسه-. هكذا اعتادت السعودية أن تتعاطى مع دائرة حلفائها ترسم هي السياسة، وعلى الباقين أن يلتحقوا بها.
تحميل المقاومة المسؤولية، وإطلاق يد المؤسسة الدينية في إصدار الفتاوى التي تأتي غب الطلب الرسمي لتحريم التعاطف مع المقاومة في لبنان، وتنفيذ اعتقالات كانت الاولى من نوعها على مستوى الدول العربية طالت متظاهرين مؤيدين للمقاومة في لبنان، سلة إجراءات سعودية كان يرافقها كلام دبلوماسي بين الحين والآخر فرضه الغضب العربي العارم إزاء المجازر والقتال الملمحي الذي كانت صوره وأخباره تتناقلها الفضائيات العربية.
لم يكن الموقف الرسمي السعودي صادماً للوعي الجماهيري، ولم يكن غريباً على متتبع مسار السياسة السعودية منذ نشأتها كمحمية انكليزية حتى انتقالها للعهدة الأميركية، وصولاً إلى محطة هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2011، وما فرضته من تبدلات وجدها السعوديون ملحة بعدما انكشف تورط سعوديين في تنفيذ الهجمات التي هزت الولايات المتحدة من الداخل، ووظفتها الادارة الأميركية لتصفية حساباتها مع الخارج، فكان على حكام السعودية استرضاء الأميركيين الذين لم ينفكوا يحركون ورقة انتهاك المملكة لحقوق الانسان وتهميش دور المرأة. كما أن صراعات أجنحة الحكم في الداخل كانت دافعاً لاسترضاء الأميركيين في كل محطة، لتثبيت نفوذهم بوجه المنافسين والخصوم.
هي الصورة الحاكمة لمسار بيت الحكم السعودي، حيث يقدم كل أمير أوراق الاعتماد لضمان استمراريته أو تعبيد طريقه إلى العرش. هكذا فعل عبد الله بن عبد العزيز، في سياسة توارثها عن أسلافه، وثبتها لمن تبعه وصولاً إلى عهد طموح محمد بن سلمان بأن يكون أول ملوك الجيل الثاني من أبناء عبد العزيز آل سعود.
الظروف التي قادت عبد الله بن عبد العزيز لإطلاق ما سُمي بـ “مبادرة السلام العربية” عام 2002، تكاد تكون مشابهة للظروف التي دفعت لأن يكون محمد بن سلمان عراب التطبيع الخليجي الخفي مع تولي دونالد ترامب الرئاسة الأميركية. الأول طمع بالعرش الذي كان يصارعه عليه الجناح السديري من أخوته، والثاني يطمع به أيضاً أمام جيش من المنافسين من أمراء العائلة من عمومة وأبناء عم.
يسترضي السعوديون واشنطن، بالاعتراف بـ “إسرائيل”، التي يلفظها العرب ومعهم المسلمون. وبينما كانت السعودية تمرر مبادرتها للتطبيع مع العدو عام 2002 بشروط لم تحمل جديدا لكن أرادت منها أن تحفظ ماء وجهها أمام الجمهور الاسلامي والعربي، اختارت في العام 2020 أن ترمي بحلفائها أولاً على سكة تعبد لها الطريق، في وقت كانت التقارير الاعلامية تنقل الضغوط القصوى التي تمارسها السعودية على باكستان وماليزيا للانضمام إلى الركب. وفشلت الضغوط، تماما كما فشلت تلك التي مورست على السلطة الفلسطينية لجرها لتصفية قضيتها بالكامل من خلال القبول بصفقة القرن، ما يجعل الاعتراف بالاحتلال والتعاطي معه من قبل الرياض أمراً لا مفر منه بعنوان الأمر الواقع. وبعيداً عن الاستغراق في الرعاية السعودية الرسمية لمسار التطبيع، تكمن الفكرة في كون التصدي الرسمي السعودي لقيادة عملية التطبيع لم يكن جديداً، والمدقق في ما تثبته الوثائق البريطانية سيجد أن التواصل بين السعودية والعدو يعود إلى عهد عبد العزيز.
في العام 2006، وبينما كانت عمليات التدمير والقتل الإسرائيلية تعصف بلبنان، جنّدت السعودية دبلوماسيتها ومؤسستها الدينية وآلياتها الاعلامية لرجم المقاومة محملة إياها المسؤولية. ماذا كانت النتيجة؟ تظاهرات عارمة في الميادين والساحات تهتف باسم المقاومة وتلعن “اسرائيل”، وأطفال تُنجب في العراق ومصر والسودان وموريتانيا تحمل اسم “نصر الله”، ليبدو أن الجمهور على ضفة مقابلة تماماً خارج عن سيطرة الدعاية السعودية يومها.
في العام 2021، وبعد 15 عامًا لم تتوقف فيها عمليات شيطنة المقاومة لبنانية كانت أم فلسطينية وتجريم التعاطف أو التعامل معها، كل ما امتلكته السعودية من إمكانيات وظفته لتشويه صورة المقاومة وجماهيرها، ولخوض الحروب والحصار والتجويع التي راهنت عليها عبثا، كانت الآلة الاعلامية السعودية تشيطن المقاومة، وولي عهد السعودية يلتقي سرًا بالشيطان نفسه، بنيامين نتنياهو، ويُفتح المجال الجوي السعودي للرحلات الاسرائيلية، بعد توقيع اتفاقيات تطبيع وقعت عليها الامارات والبحرين كخطوة سعودية باتجاه اعتراف علني بالعدو.
كل ما لم يتوقعه العرب والمسلمون فعله هؤلاء وربما أكثر: صُنفت المقاومة ارهابًا، وزُج بممثليها في السجون السعودية، ولم تكتف الفتاوى السعودية بتحريم التعاطف مع المقاومة، بل ذهب بعضها للافتاء بامكانية الاستعانة باليهود لمحاربتهم. وبرضا سعودي لا لبس فيه احتفلت الامارات بيوم اعلان قيام “اسرائيل” على جثث الفلسطينيين، وعلى الشاشات كان سفيرها إلى كيان الاحتلال يطلب بركة حاخامات الاحتلال. كل هذا وعمليات شيطنة الفلسطيني، مقاومًا أم لاجئًا أم حتى جنينًا لم يبصر النور بعد، كانت تمضي بسياسة رسمية ممنهجة.
وفي وقت كانت وحشية الاحتلال وجرائمه تفعل فعلها في القدس وغزة والضفة والداخل المحتل، كان خليجيو التطبيع يبتلعون ألسنتهم، ولا يكتفون بالوقوف موقف المتفرج، فتخرج الامارات في أوج العدوان لتؤكد على أن اتفاقية التطبيع مع العدو لا تزال قائمة، وكما تعلن الامارات يردد الأمراء في البحرين، أما السعودية فتهرب من إعلان موقف علني إزاء الجرائم في فلسطين بفتح معارك مع لبنان، وتمنح اعلامها الضوء الأخضر للمضي في استهداف المقاومة معنوياً، بتحميلها مسؤولية المجازر، أو بتوهين انجازاتها.
فعلت السعودية وحلفاؤها كل ذلك، سرًا وعلانية، ثم ماذا؟ ثم كانت كلمة المقاومة هي العليا، تهدد وتتوعد العدو وتفعل. تدك تل أبيب، وتستهدف مستوطناته، وتفرض عليه ان يبادر هو لوقف عدوانه بلا شروط. وماذا أيضًا؟ تلتحم الساحات الفلسطينية كلها، وتهب الشوارع الاسلامية والجماهير في الدول العربية والغربية، تصرخ باسم لا يروق للسعودية والامارات ابدًا: محمد ضيف، وتلعن التطبيع وأمراءه ألف مرة.
يكرر التاريخ نفسه، يغرق ملوك ومشيخات التطبيع في وحل الخيانة ويصرفون لها كل امكانياتهم، ثم تكون الساحات مجندة أكثر وأكثر لتكون فقط حيث تكون المقاومة.