في مُجلّدات التاريخ الحديث، تمتلئ صفحات آسيا وإفريقيا وعالمنا العربي بعشرات الحركات الشعبية التي انتفضت كالنيران في وجه الاحتلال، بينما تندر نظيراتها في أروقة بلاد الغرب.
الجواب ليس بسيطًا، بل هو انعكاس لحقائق تاريخية عميقة. فالقوى الغربية، في جلّها، كانت يد الغازي نفسه لا ضحية الغزو، على مدى قرنين من الزمان، بسطت نفوذها، توسعت، استوطنت، وأرسلت جيوشها لترسم خرائط الهيمنة. لم تتجرع كأس الاحتلال الأجنبي المباشر أو غير المباشر، الذي يولد من رحمه شرارة المقاومة الشعبية. بعبارة أخرى، الغرب كان دومًا في عرش الغازي، لا تحت نير المُحتل، وهذا ما يفسر غياب معظم أيقونات المقاومة الشعبية في دول الغرب.
لقد شيّدت البنى السياسية الغربية الحديثة حصونًا منيعة أمام بزوغ هذه المقاومات، فعلى سبيل المثال لا الحصر؛ جيوشها المحلية كانت سياجًا قويًا، دولها المركزية أركانًا ثابتة، ومؤسساتها أذرُعًا قادرة على صد أي عدوان. لم تكن هناك أطماع أجنبية تهدد خيراتها، ولا فراغات سياسية تسمح بتفتح زهور المقاومة المجتمعية. واستثناءات كـ «المقاومة الفرنسية (1940-1944)»، التي يراها بعض المراقبين ظلًا للدولة في المنفى لا ثورة شعبية ضد احتلال استعماري طويل، أو «المقاومة اليونانية واليوغوسلافية ضد النازية» التي تحولت لاحقًا إلى جيوش نظامية، لا ترقى إلى مصاف الحركات الشعبية التي تنبض بروح التحرر من احتلال استيطاني طويل الأمد.
فالمقاومات الشعبية التي نرمي إليها، كما في فلسطين ولبنان والجزائر وليبيا والهند وفيتنام، لم تكن مجرد رد فعل، بل صرخة وجود في وجه احتلال يهدف إلى الهيمنة والاستيطان، لتحقيق أجندات سياسية واقتصادية، متسترًا خلف أقنعة التمدين، الحداثة، نشر الديمقراطية، أو حماية الأقليات… وغيرها. لكن جوهر الغاية كان دومًا السيطرة الجيوسياسية، نهب الثروات، وحماية المصالح العظمى، بالإضافة إلى حفظ وحماية الورم السرطاني الصهيوني، القاعدة العسكرية المتوحشة للغرب، الذي زرع في قلب العالم العربي والإسلامي، احتلالًا واستيطانًا.
نشأت هذه الحركات الشعبية من نسيج المجتمع المُستعمَر نفسه، دون وساطة من سلطة سياسية محلية. فحين يدرك أفراد المجتمع أنهم بلا درع أمني أو سياسي، وحين تغيب القوة الرسمية الرادعة، وتضعف أجهزة الدولة العسكرية والأمنية أمام أي اعتداء خارجي، فإنهم ينحتون مقاومتهم بأيديهم، وغالبًا ما تكون عسكرية مُسلحة. إنها ظاهرة جنوبية-شرقية بامتياز، لأنها وليدة علاقة غير متكافئة؛ الغرب المُنتِج للاحتلال، والشرق المُنتِج للمقاومة.
لذا، سعى هذا المحتل الغربي، الغازي عسكريًا وثقافيًا، إلى التغلغل في كيانات تلك الدول وحكوماتها، إمّا بإعادة تشكيل أو بتطويع المؤسسات المحلية الرسمية، لتصبح أدواتٍ طيعة في يده لتحقيق مطامعه، وتفريغ أجهزتها السياسية والأمنية من أي قوة مواجهة. ولاستكمال إحكام قبضته، كان لقمع الحركات الشعبية المُقاومة أولوية قُصوى لده، إما بالتحريض المُباشر لرفضها، أو باعتماد الحكومات مبدأ «الحياد» الزائف، وصولًا إلى فتن المواجهة الداخلية.
في غمرة هذه المواجهة، وبالاستعانة بالسلطة المحلية غالبًا، استُخدمت ترسانة من الأساليب الرادعة؛ أمنية، عسكرية، سياسية، مع اعتماد حرب نفس اجتماعية لـ «كيّ وعي» الشعوب المستعمَرة الحاملة للفكر المُقاوم على المدى الطويل. كان الترهيب هو المحور الأساس، لا سيما تجاه البيئة الشعبية الحاضنة. فكان السعي إلى ترويج مُصطلحات ومفاهيم مثبّطة، تهدف إلى غسل الوعي وتجريد المقاومة من شرعيتها، أو تقييد فعاليتها وتوهين عزيمتها، وهنا تتجلى مقولة «العين لا تقاوم المخرز»، وصولًا للقضاء على جذر الفِكر المقاوم واجتثاثه لصالح «الدبلوماسية» المزعومة، وهو ما تعمل عليه الإدارة الأمريكية حاليًا في منطقتنا العربية والإسلامية.
بعض الحكومات الضعيفة التابعة، التي تخشى زوال نفوذها في ظل الهيمنة والاحتلال، اختارت أن تقف سدًا منيعًا في وجه حركات المقاومة الشعبية، خوفًا على سلطتها أكثر من حرصها على حق شعبها. فأخذت تُروج لعبارات ومفاهيم يروجها الاحتلال نفسه، تظهر غالبًا في الخطابات الرسمية، الصحف، البيانات الحكومية وفي خطابات الأحزاب المتناغمة مع المحتل. هذه الأنماط تتعدد؛ التذرع بالسلام والاستقرار، تصوير المقاومة كمصدر اضطراب «يُهدد النظام»، التحذير من الفوضى والخراب، «شيطنة المقاومة» بأنها تهديد لـ «الأمن الاجتماعي أو اقتصاد البلاد»، الادعاء بالشرعية الرسمية للسلطة مقابل «الفوضى الشعبية»، وصف المقاومة بأنها غير شرعية، التحجج بالولاء الوطني، وتصوير المقاومين كـ «خونة أو أعداء للوطن»، التذرع بـ «الحياد» لتجنب المواجهة، وأن أي مقاومة «قد تستفز العدو»، وأخيرًا، التهديد بالقانون والعقوبات، والعمل جنبًا إلى جنب مع المحتل على تجفيف مصادر تمويلها.
لم تسلم معظم حركات المقاومة الشعبية وبيئتها الحاضنة من هذا الأسلوب مُنذ عقود، بل انتهجه المحتل منذ بدايات هيمنته، إلا أنها استطاعت مقاومة المحتل وهزيمته وصولًا الى طرده واستعادة الأرض وكرامة أبنائها. ففي إثيوبيا عام 1936، وقفت الحكومة المحلية على الحياد، مروجة لمفاهيم كـ «تجنب الأعمال التي قد تجلب الانتقام الإيطالي» أو «دع الدولة تتفاوض». وفي الجزائر، خلال ثورة المليون شهيد، روج بعض الأعيان المتعاونين بأنّ «أي مقاومة مسلحة تؤدي إلى خراب القرى». وفي مقاومة الريف المغربي، أرسل السلطان رسائل تحذر من «أي مقاومة خارج إطار السلطة المركزية». كل هذا، مع نسيان متعمد أو تغييب ودفن الأسباب الجوهرية لولادة المقاومات الشعبية المسلحة؛ إنها ردة فعل طبيعية على وجود أي احتلال خارجي لأرض الوطن في ظل عجز السلطة الرسمية عن ردعه أو تواطؤها معه. ومع اندحار الاحتلال واستعادة الأرض وبناء دولة وطنية قوية وقادرة وعادلة، تنتفي أسباب وجودها.
بالعودة إلى القضية المركزية في الصراع العربي الإسرائيلي، أي المقاومة الفلسطينية منذ عام 1920، سعت المقاومة الشعبية لاستعادة الأرض وطرد المحتل. بالمُقابل، وفي سبيل تقويض العمل المُقاوم، وجنبًا الى جنب مع العنف المُسلح، عمل الاحتلال على ترويج بيانات تحذر من «أعمال الشغب التي تهدد الأمن العام»، وعبارات مثل «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» وغيرها، بشكل مكثف في الإعلام الإسرائيلي وبعضه عربي، لتبرير القمع ضد الشعب الفلسطيني ومقاومته، وتقديم المقاومة كـ «إرهاب»، أو من خلال خطاب تحريضي يصف المدنيين والمقاومين بأنهم «خطر على النظام» أو «عصابات تهدد الأمن»، وذلك لتبرير القمع وتشويه المقاومة و «كيّ وعي» بيئتها الحاضنة، كما حصل ويحصل في غزة، وعند الحاجة الى إعادتهم سنوات الى الوراء، كمحاولة لتسكين غضب الشعب الفلسطيني والعربي، التلويح بـ «حل الدولتين» الذي يرفضه أصلًا العدو الإسرائيلي بالمطلق، وصولًا لتحويل مسألة «مقاومة الاحتلال الإسرائيلي» من «حق الشعب في مقاومة الاحتلال» إلى «قضية أمنية».
وفي واقعنا اللبناني، لم تسلم المقاومة اللبنانية، بجميع فصائلها ضد الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 1978، وفي طليعتها المقاومة الإسلامية. ففي ظل دولة لبنانية وحكومة منقسمة وضعيفة، اعتبرت نفسها في محطات تاريخية عديدة محايدة عن الصراع، وصولًا إلى حكومة نواف سلام ووزير خارجيته، وبعض أحزاب السلطة المتناغمة مع الهيمنة الخارجية كحزب «القوات اللبنانية» على سبيل المثال لا الحصر، هؤلاء كانوا رأس حربةٍ في مسألة «كيّ وعي» الشعب اللبناني، عبر إحياء سرديات عفا عليها الزمن في لبنان؛ «السلاح يجب أن يكون فقط بيد القوات الرسمية للدولة»، «حصرية السلاح بيد الدولة فقط»، «قرارات الحرب والسلم بيد الدولة وحدها»، «لن نبقى صامتين أمام وجود أي أسلحة خارج سلطة الدولة»، «دولة واحدة، قانون واحد، جيش واحد»، «الشعب اللبناني لا يريد حربًا»… وغيرها. كل هذا في ظل صمت مُطبق على إدانة انتهاكات العدو الإسرائيلي اليومية، واستباحته للأراضي اللبنانية، واغتياله للبنانيين هم أكثر لبنانية منهم، فضلًا عن وأد «القرار السياسي» للمؤسسة العسكرية في التصدي له.
يرى العديد من الخبراء العسكريين أن الجيش اللبناني، في صورته الراهنة، لا يمتلك بنية قادرة على مواجهة هذا العدو. فهو يعاني نقصًا واضحًا ومقصودًا في السلاح النوعي؛ لا منظومات دفاع جوي، لا قدرات صاروخية، لا بنية تكنولوجية متطورة، حتى مع امتلاكه الروحية والعقيدة الوطنية التي لا يشكك فيها أحد. إنه جيش نظامي كلاسيكي محدود التسليح والقدرات العسكرية، بسبب القيود الأمريكية، لهذا لا يستطيع التصدي وحده للانتهاكات الإسرائيلية. فكيف إذا تعرض لبنان لاجتياح واسع جديد؟ يبقى الجيش اللبناني قوة حفظ استقرار، لكن في ظل ظروف مادية صعبة وقرار سياسي مثار جدل، يجعله بعيدًا عن لعب الدور الفاعل لوحده ضد أي عدوان إسرائيلي، مهما كانت رغبته أو شجاعته. فالعقيدة القتالية لا تكتمل في غياب لافت للبنية القتالية السليمة والتقنية اللازمة والقرار السياسي الجاد والشجاع، وبالتالي عدم انتفاء الحاجة إلى وجود «مقاومة شعبية مسلحة» تقف بجانبه كحاجز أمام مطامع العدو. إلا أن سلطة نواف سلام، وعن سابق إصرار، عملت على إشاعة مهزلة «الدبلوماسية» لمواجهة هذا العدو الغاشم، في ظل دولة ما زالت غير قوية وغير قادرة على مواجهة توحش الاحتلال الصهيوني الذي يتربص بنا كل يوم قتلًا وتنكيلًا واحتلالًا، مُتّكئين فقط على «الإدارة الأمريكية كضامنة»، معتقدين عن قناعة مُزيفة أو جهل مُركّب، أنها ستضمن التزام العدو الإسرائيلي، ربيبتها في المنطقة وطفلها المدلل ومددها اللامتناهي و«ضوئها الأخضر» له، بتحقيق السلام العادل والشامل المزعوم، وبالتالي ضمان أمن وحماية واستقرار «لبنان»، ولكن أي «لبنان» ينشدون!