أسطورة الموساد بين الحرب الناعمة والحقيقة الميدانية: تفنيد رواية الضاحية

د. أكرم شمص – خاص الناشر |

منذ استشهاد الأمين العام لحزب الله، الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله، لم تفوّت الغدة السرطانية “إسرائيل” فرصة لنسج هالة استخباراتية حول عمليتها، محوّلة الحدث إلى ما يشبه فيلمًا هوليووديًا عن “البراعة الأمنية” و”اليد الطولى” للموساد. آخر هذه الروايات ما نشرته صحيفة “يديعوت أحرونوت” عن تسلّل عناصر صهاينة إلى قلب الضاحية الجنوبية تحت القصف وزرع أجهزة تعقّب في المنشأة المتواجد فيها سماحة السيد نصر الله، تمهيدًا للغارات الجوية التي أدت الى استشهاده.

لكن عند التدقيق، يتضح أن القصة أقرب إلى الخيال الدعائي والحرب النفسية منها إلى الحقيقة الميدانية. لم يُسجَّل أي تحرّك على الأرض، ولم يكن هناك قصف قبل الاغتيال أصلًا، فيما تكشف الوقائع أن العملية كانت جوية بحتة اعتمدت على بنك أهداف معدّ مسبقًا، لتبقى هذه الرواية مجرّد حلقة جديدة في سلسلة الخداع الإعلامي الصهيوني، حيث تختلط القوة الصلبة بالقوة الناعمة لتضخيم إنجازات وهمية.

الخداع الإعلامي الصهيوني وأهدافه
ما وراء الترويج لرواية التسلّل يتجاوز تفاصيل العملية إلى أهداف سياسية وإعلامية أوسع. تسعى الغدة السرطانية “إسرائيل” إلى خلق صورة عن تفوق أمني يعوّض إخفاقاتها العسكرية، وضرب الثقة بقدرات حزب الله لدى بيئته، وتقديم نفسها للعالم كقوة استخباراتية خارقة لا تُقهر.

الإعلام العبري، بتنسيق مباشر أو غير مباشر مع الموساد، يضخّم دائمًا “اليد الطولى” لـ”إسرائيل” عبر روايات بطولية خيالية تشكّل جزءًا من الحرب الناعمة المكمّلة للقوة الصلبة. لكن هذه الدعاية تنهار مرارًا أمام الحقائق الميدانية التي تثبت أن الكاميرا والميكروفون عند تل أبيب ليسا سوى سلاح إضافي في معركتها النفسية، لا دليلًا على إنجاز استخباراتي حقيقي.

تاريخ طويل من الأساطير الإعلامية
لدى “إسرائيل” تاريخ طويل في تضخيم بطولات الموساد وصناعة أساطير استخباراتية وهمية. فبعد كل عملية كبيرة، تحبك تل أبيب روايات درامية تُبرز الموساد كجهاز خارق القدرات.

1 – عملية فردان 1973: اغتيال قادة فلسطينيين في بيروت قُدّم كاختراق أسطوري، قبل أن تكشف الوقائع اعتماد العملية على معلومات قديمة وتسببها بكوارث أثناء الانسحاب.

2 – حرب لبنان 1982: صوّرها الإعلام الصهيوني كنصر حاسم، قبل أن تتوالى ضربات المقاومة الوطنية وتكشف عكس ذلك.

3 – اغتيال الحاج عماد مغنية 2008: رُوّج له كإنجاز للموساد وحده قبل أن تتضح مشاركة الاستخبارات الأميركية فيه، ما فضح هشاشة الرواية الإسرائيلية.

4 – حروب غزة المتكررة: دائمًا ما وصفتها تل أبيب كـ”انتصارات كاسحة”، لكن الوقائع الميدانية كشفت عجزها عن تحقيق أهدافها المعلنة أو إنهاء المقاومة.

حتى في عملية أنصارية 1997 وحرب تموز 2006، تهاوت الدعاية الصهيونية أمام كشف حزب الله لتفاصيل العمليات وقدرته على امتصاص الضربات والردّ عليها. هذه التجارب تؤكد أن الإعلام الصهيوني لم يكن ناقلًا للحقائق، بل سلاحًا نفسيًا يُضخّم الإنجازات ويُخفي الإخفاقات، بهدف التأثير على الوعي الجمعي ورفع معنويات الداخل الصهيوني وضرب ثقة بيئة الخصم بقدراتها الدفاعية والأمنية.

الحرب الناعمة في فكر الشهيد الأسمى السيد حسن نصر الله
كان الشهيد الأسمى السيد حسن نصرالله من أوائل القادة الذين حذّروا من خطورة الحرب الناعمة، واعتبرها الوجه الأخطر للحروب الحديثة، لأنها لا تستهدف الأرض فقط، بل تستهدف الوعي والإرادة والثقة بالقيادة والمقاومة.

وأوضح مرارًا أن العدو يلجأ إلى القوة الإعلامية والسياسية والنفسية بالتوازي مع القوة العسكرية، ليعيد تشكيل وعي الشعوب ويقنعها بتفوّقه وعجز خصومه، بحيث تصبح المعركة على العقول والقلوب لا تقل خطورة عن المعركة على الجبهات.
هذه الحرب تسعى لصناعة صورة ذهنية للعدو كقوة لا تُقهر، عبر روايات بطولية مضخّمة تخفي الهزائم وتبالغ في الإنجازات، ليغدو الإعلام عنده سلاحًا مكمّلًا للصاروخ والطائرة في تحقيق الأهداف السياسية والعسكرية.

وفي هذا السياق، تمثّل رواية “يديعوت أحرونوت” عن تسلّل عناصر الموساد إلى الضاحية الجنوبية وزرع أجهزة تعقّب قبل اغتيال السيد نصر الله نموذجًا صارخًا لهذا التداخل بين القوة الصلبة والناعمة: فالغارات الجوية والقنابل الموجّهة (القوة الصلبة) رافقتها أسطورة إعلامية عن “كوماندوس تحت النار” يتحرّك بحرية في قلب الضاحية (القوة الناعمة)، ليظهر المشهد وكأن الغدة السرطانية “إسرائيل” حققت نصرًا عسكريًا واستخباراتيًا ونفسيًا في آن واحد.

لكن الحقيقة أن هذا الاستخدام المزدوج للقوة العسكرية والدعاية الإعلامية يكشف طبيعة الحرب النفسية المركّبة التي حذّر منها الشهيد الأسمى السيد نصر الله، والتي تهدف إلى زعزعة ثقة البيئة المقاومة بنفسها قبل أن تغيّر أي واقع ميداني على الأرض.

فشل الحرب الناعمة أمام صمود الوعي والميدان
رغم كل الاستثمار الصهيوني في الدمج بين القوة الصلبة للقصف العسكري والقوة الناعمة للدعاية والإعلام، فشلت هذه الحرب في تحقيق أهدافها الجوهرية. فالوعي الجمعي في بيئة المقاومة لم يعد يتأثر بالدعاية الصهيونية، والتجارب المتراكمة من حروب 2006 وغزة وسوريا أثبتت أن الأساطير الإعلامية تنهار سريعًا أمام الحقائق الميدانية وصمود المقاومة وقدرتها على امتصاص الضربات ومراكمة القوة، ما جعل الحرب الناعمة أداة فقدت فعاليتها أمام واقع سياسي وعسكري لا يمكن تزويره بالكاميرا والميكروفون.

الخاتمة: بين الأسطورة والحقيقة
ما جرى في الضاحية لم يكن سوى عملية جوية مركّزة استندت إلى بنك أهداف معدّ مسبقًا ومعطيات استخبارية تقنية، وليس مغامرة ميدانية خارقة كما يحاول الإعلام العبري تصويرها. لكن تل أبيب، كعادتها، استثمرت هذا الحدث في صناعة أسطورة استخباراتية هدفها تعويض محدودية الإنجاز العسكري بسردية إعلامية تعطي الموساد صورة “اليد الطولى” التي تخترق كل الحصون وتصل إلى كل الأهداف، في محاولة لإرباك الداخل اللبناني ورفع معنويات الداخل الصهيوني وتضليل الرأي العام العالمي.

إلا أن الحقائق الميدانية والمنطق العسكري يكشفان بوضوح أن لا التوقيت صحيح، ولا البيئة الأمنية تسمح بمثل هذا التسلّل، ولا الوقائع على الأرض تدعم فكرة تحرّك كوماندوس تحت القصف في قلب الضاحية. وما جرى عمليًا كان حربًا نفسية موازية للعدوان العسكري، تختلط فيها القوة الناعمة للدعاية الإعلامية بالقوة الصلبة للقصف الجوي، بهدف ترسيخ صورة الغدة السرطانية “إسرائيل” كقوة لا تُقهر، بينما الوقائع من لبنان إلى غزة تؤكد أن هذه الروايات تنهار سريعًا أمام صمود المقاومة واستمرار حضورها العسكري والسياسي رغم الاغتيالات.

إن ما يروّجه الاعلام العبري عن بطولات الموساد الخارقة ليس سوى جزء من حرب الروايات التي قد تصنع ضجيجًا إعلاميًا، لكنها لا تغيّر موازين القوى ولا تمحو حقيقة أن المقاومة ما زالت قائمة، وأن الردع المتبادل لم يتبدّد، وأن العدو الصهيوني يلجأ إلى الكاميرا والميكروفون لتعويض ما عجز عن تحقيقه بالصواريخ والدبابات.

اسرائيلالسيد حسن نصر اللهالضاحيةالموساد