حركت القوات اللبنانية الشارع المسيحي إثر حادثة اختفاء أحد محازبيها وقبل معرفة تفاصيل ما جرى، فمنذ اللحظة الأولى للجريمة غابت لغة العقل والمنطق وسقطت كل المعايير الوطنية قبل القانونية، ووجّهت الاتهامات إلى حزب الله تحديدًا ،بعد أن حيكت سيناريوهات تدعو للفتنة، تحرص على حرب أهلية ليست جديدة على تاريخ اليمين في لبنان وأهدافه، وصولًا إلى نشأت القوات والكتائب، تجهيزًا وتدريبًا عند العدو الإسرائيلي الذي يعمل دائمًا لتوتير الداخل اللبناني وإشغال الساحة بفتن داخلية تنتقل إلى الشارع.
وأتت “التجربة القواتية” للفتنة، بعد أشهر من حرب إعلامية ومعركة استهداف سياسي وافتراء وتحريض على المقاومة مع مواقف تقاطعت مع العدو إلى حد تطابق الأهداف، خاصة بعد عملية طوفان الأقصى وما تركته من آثار على الداخل اللبناني، الذي لم يكن موحدًا يومًا على قضية وطنية، خصوصًا سلاح المقاومة، الذي أثبت جدواه الاستراتيجية ونقل لبنان من القوي بضعفه، للقوب بمقاومته، مقررًا على أي طاولة تسوية وليس طَبقًا عليها، مسقطًا جدوى نظرية “حياد لبنان” أو “النأي بالنفس”.
بالعودة إلى اختفاء المواطن باسكال سليمان، وهو أحد مسؤولي القوات اللبنانية في جبيل، لم يتأخر كثيرًا كشف الجريمة، دوافعها وأسبابها، ليبيّن وفق كل التحقيقات وتعاون أجهزة الأمن السورية التي سلمت الموقوفين، أنها الحادثة ملف جنائي بحت، وأن الضحية باسكال سليمان قاده حظه العاثر إلى عصابة هدفت سلبه سيارته، استفردت به بعد فرار سيارة قبله، وهي عصابة امتهن أفرادها سلب السيارات لتهريبها خارج لبنان، إلى تركيا أو العراق عبر الأراضي السورية. وسريعًا سقطت العصابة نتيجة جدية الأجهزة السورية بالملاحقة واحترافية بالتحقيق للمخابرات اللبنانية وتقاطُع المعلومات الأمنية بين الأجهزة، تعاون فيها جميع اللبنانين الذين رفضوا الجريمة، حتى المهربين على الحدود.
وانجلت كامل خيوط الجريمة التي يبدو أن كشفها لم يرق لقادة القوات، وعطل هدفهم بتوتير الداخل اللبناني، ليجددوا اتهامهم المقاومة جذافًا، مطلقين العنان لعصبية اجتاحت شارعهم الغارق بعنصرية دفع ثمنها النازح السوري، الذي أقامت له القوات وحلفاؤها سابقًا حفلات استقبال ومهرجانات دعم منذ بداية الأزمة السورية، محاولين استخدامهم ورقة ضغط في الداخل اللبناني للنفخ في بوق فتنة طائفية سنية شيعية، للتحريض على بيئة المقاومة.
وفي لحظة الفتنة، ذهب كل هذا الدعم المزيف أدراج الرياح وطُمست معالمه أمام واقع جديد، ترسم معالمه حرب غزة، وانتصار المقاومة فيه، والانفتاح العربي على سوريا التي صمدت محافظة على ثوابتها القومية والعروبية، وبدأت تستعيد دورها السياسي على الساحة الدولية في قلب عالم جديد بتوازنات ما بعد حرب أوكرانيا، وما أرخت على العالم، بخاصة منطقة الشرق الأوسط التي تبدلت معالم القوة فيها، ودخلت المقاومة بمحورها مقررًا على المسرح السياسي والعسكري، يتعاطى معهم الأميركي بواقعية وهي الدولة العظمى المحكومة لسياسية المصالح، بعد تيقن أميركا وتسليمها بحقيقة سقوط “إسرائيل” – الدور بهذه المرحلة؛ وسعي إدارة الرئيس بايدن للمحافظة على الكيان، لترميم واقع يمنع خروج “إسرائيل” من المشهد السياسي كاملًا، نتيجة فشل قيادتها، وسوء إدارة نتنياهو وحكومته حربًا تخسر فيها “إسرائيل” عسكريًا كل يوم، وتخسر سياسيًا بخسارة تعاطفا دوليا تخسر معه إدارة ترامب من جمهورها وهي على أبواب انتخابات توصف بالأصعب بتاريخ أميركا، وتُعتبر حرب غزة أبرز ناخبيها.
كل هذا يحكم السياسة الأميركية الحالية ودبلوماسيتها التي تعمل للحد من خسارة “إسرائيل” لدورها في الشرق الأوسط. ففي آخر لقاء جمع الأسبوع الماضي وفد المعارضة اللبنانية بنائب مساعد وزير الخارجية الأميركية للشرق الأدنى، سمع الوفد كلامًا لم يرضيه، عن تسوية قد تنسحب على المنطقة بأكملها بما فيها لبنان وملف الرئاسة فيه. وقد شكّل هذا الكلام صدمة كبيرة وإرباكًا للمعارضة وتوترت القوات وقائدها، الذي حضر أمامه مشهد بداية تسعينات القرن الماضي، وكيف انتهى به المطاف في زنزانة!
فهل سيعيد التاريخ نفسه ليتقمص حاكم معراب من جديد دوره السابق في مجلسه الحربي ويحرك جحافل شعبية في الشارع المسيحي، ومجموعات صدم قواتية تعتدي على المواطنين السوريين، بهدف الإطباق على الشارع المسيحي الذي يعاني فراغًا سياسيًا منذ مدة، برغم وفرة القيادات المتنافرة، التي لا يجمع معظمها إلا مشروع استعادة امتيازات لم تعد قابلة للحياة، عدة وعديدًا، ونظام دولي جديد، لن يكون في لبنان بموجبه دولة عميقة ولا وكالات حصرية ولا شركات امتياز ، ولن يفرض كبير معراب لنفسه كانتون سقط لحظة سقوط حالات حتمًا، وانتهى مع نهاية حلم حدوده التي انتهت في قفص الإدانة قبل نهاية دولة مليشياته من كفرشيما إلى المدفون.