في خطوة تُعيد إلى أذهان البعض، الخطورة الوجودية للمشروع الصهيوني، أعلنت مجموعة من المغتصبين الصهاينة عن إطلاق حملة بهدف “الاستيطان” في جنوبي لبنان.
هذه الحملة تشابه نظيرتها التي أطلقتها سابقًا حركة “غوش ايمونيم” (بالعربية: كتلة الايمان)، وهي حركة صهيونية بعقيدة دينية يهودية متطرّفة، تتبنّى تشجيع الاستيطان، وتأسيس المغتصبات في الأراضي المحتلة، وكان للبنان نصيب من تلك العقيدة مع الاجتياح الصهيوني له في العام ١٩٨٢. لكن تلك الأحلام انهارت مع غرق جيش العدوّ في ما أسماه الصهاينة بـ”الطين اللبناني”، ومواجهته حرب استنزاف، لم تمنحه الاستقرار حتّى اندحاره في العام ٢٠٠٠.
ترى الحركات الصهيونية، ذات الجذور الدينية اليهودية، أن جنوبي لبنان جزء من أرضهم الموعودة، وهو أراضي سبطين من اسباط اليهود الاثني عشر، وهما: نفتالي وأشير، كما يظهر في الخريطة المرفقة إذ نرى امتداد أراضيهما، بحسب المخيال اليهودي، داخل جنوبي لبنان، وهي تتجاوز نهر الليطاني حتّى ما بعد مدينة صيدا.
أما بالنسبة للحملة التي أُعلن عنها منذ أيام فتحمل اسم “حركة الاستيطان في جنوبي لبنان”، وشعارها الفرعي “من أجل يسرائيل سوكول”، في إشارة إلى الإرهابي الصهيوني يسرائيل سوكول الذي قضى في العملية النوعية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية بتاريخ ٢٣ – ١ – ٢٠٢٤ ضدّ قوات الإرهاب الصهيونية المتوغلة في مخيم المغازي في المنطقة الوسطى من قطاع غزّة، ويومها أقرّ العدوّ بمقتل ٢٤ جنديًّا صهيونيًا وإصابة آخرين، ومن بين القتلى سوكول.
يذكر تقرير صهيوني أنه بالنسبة إلى سوكول فإن “هذه الحرب ليست حربًا ضدّ “الإرهاب”، أو من أجل “الوطن”، بل هي فقط حرب من “أرض اسرائيل”، وقلبها: جبل الهيكل”.
وينقل التقرير الصهيوني لسان حال سوكول: “لقد أطلقوا (مقاومو غزّة) على حربهم اسم “طوفان الأقصى”، ومبررها هو تحرير جبل الهيكل الذي بأيدينا. لذلك ما نقاتل من أجله هو عودة “أرض اسرائيل” إلى ابنائها الحقيقيين، ومن أجل انشاء الهيكل في قلبها”.
يُذكر أن عائلة سوكول نقشت على شاهد قبره عبارة “رأيتكِ يا غزّة في ظلّ أرز لبنان”. ويعلق الكاتب الصهيوني: “كلمات قليلة ذات وزن كبير”!!
الإرهابي الصهيوني يسرائيل سوكول
ويتابع التقرير الصهيوني أنه تبين للكيان أن أي أرض قرر الصهاينة الانسحاب منها فإنها لا تتوقف عن كونها “أرض اسرائيل”. ويرى أن أي أرض ينسحب منها الاحتلال فإنها تتحول إلى “دولة معادية من النوع الأكثر وحشية”، كما حصل في جنوبي لبنان وغزّة، وطبعًا بحسب التعبير الصهيوني.
ويورد التقرير تفاصيل ما حصل بعد اندحار العدو، عن لبنان وغزّة، من تنامٍ لقوى المقاومة، وتسلحها بترسانة تؤرق العدو، ووصولها إلى حدود فلسطين التاريخية، بل وتوغلها ابعد من تلك الحدود، كما جرى في “طوفان الأقصى”، وفي مرات عدة في لبنان.
ثم ينتقل التقرير إلى استعراض محاولة كيان الاحتلال انشاء “محمية” له داخل الحدود اللبنانية، بمساندة قوى محلية “عميلة”، منذ اواسط سبعينات القرن الماضي، لكنّها انتهت بحسب التعبير الصهيوني “كما نرى اليوم من واقع يقف فيه على عتبة بابنا الشمالي فصيل “إيراني” محصن مسلح بما يزيد عن ١٠٠ الف صاروخ ينتظرون الفرصة للانقضاض علينا كما حصل من غزّة… جنوب لبنان لم ينسَ “اسرائيل”، حتّى لو هي نسيته”! بحسب الكلام العبري.
ثم يفتح التقرير الباب على نظرة العدوّ إلى لبنان، فهو يرى أنه “ببساطة يمثل شمالي الجليل، والحدود الطبيعية الواضحة بين “اسرائيل” وجبال لبنان، وفيه نهر الليطاني، أكبر انهار لبنان، الذي قال عنه موسى: “أرض العيون التي تجري في الوادي والجبل”… حدودنا الحالية مع دولة لبنان، الدولة التي لا وجود لها ولا وظيفة لها في الواقع، نتجت عن “التجارة” الفرنسية في محاولة زيادة أراضي محميتهم المسيحية، على حساب الانتداب البريطاني (…) وهي محاولة ظالمة انتجت هيمنة السكان الشيعة، الذين حوّلوا لبنان إلى “جيب” إيراني (…) فعند مراقبة الحدود نجد أنه لا فرق بين راميا اللبنانية وشتولا “الإسرائيلية”، ولا فرق بين يارون اللبنانية ويرؤن “الإسرائيلية”، فهذه الحدود مصطنعة تمامًا مثل الجدار الذي بنته “اسرائيل”، على طول تلك الحدود منذ سنوات (…) لا يوجد شيء مقدس في اتفاقيات سايكس بيكو التي خلقت هذه الحدود (…) هي مجرد خط على الخريطة”.
وطبعًا لا حاجة للتذكير أن هذا الكلام بحسب المصدر العبري.
وحول التجارب الصهيونية في لبنان، وسبب فشلها يتابع التقرير الصهيوني: “لقد ادركنا مرات عدة أنه لا خيار أمامنا سوى غزو لبنان، من أجل ضمان امننا بدءًا من عملية احيرام عام ١٩٤٨، وعملية الليطاني ١٩٧٨، وحرب لبنان الأولى ١٩٨٢، مع حرب الشريط الأمني، التي استمرت حوالي ٢٠ سنة (….) كانت حاجتنا الأمنية واضحة! لكن لماذا تراجعنا في النهاية؟ ولماذا لم نتمكّن من الصمود ودفع الثمن؟ لقد انسحبنا لأننا لم نستقر، ولم نتعامل مع لبنان على أنه أرض “اسرائيل”. فلو أننا استوطنّا أرض جنوب لبنان مسبقًا، لما اقمنا حينها شريطًا امنيًا لا يمكن الدفاع عنه، ولما وصلنا إلى الوقوف على شفا حرب وجود، مع “دولة جنوب لبنان الشيعية” اليوم. لذلك علينا هذه المرة الاستعداد لحرب يصبح فيها جنوب لبنان ساحة معركة كبرى. هذه المرة علينا أن نصل إلى لبنان بمفهوم ورؤية واضحين: السيطرة الحقيقية على كامل المنطقة الواقعة جنوب الليطاني، وتضمينها “مستوطنات” يهودية مدنية، وهذا سيكون حافزًا لتفاني الجنود الذين سيقتحمون الجبل اللبناني، فلا يكون تحركنا عبثيا (…) إن مثل هذه السيطرة “الإسرائيلية” هي مفتاح الأمن الحقيقي الذي سينجم عنه النصر الفعلي”، بحسب المصدر العبري الذي يعود للحديث عن الإرهابي سوكول، فيقول: “كان سوكول يحلم لسنوات عديدة بمستوطنة في جبال لبنان، ويكون هو مؤسسها. كان يعلم أن ذلك سيأتي، تمامًا كما كان يعلم أن “الهيكل” سوف يُبنى. وحتّى عندما ذهب للقتال في غزّة، كان يعلم أن حرب الجنوب برمتها، لم تكن سوى مقدمة للحرب الكبرى في الشمال (…) ولتحقيق هذه الغاية تأسست حركة الاستيطان في جنوبي لبنان باسم يسرائيل سوكول (…) من أجل هزيمة الشر الإيراني، ومن أجل استقرار دولة “اسرائيل” لأجيال، يجب ان نضم لبنان إلى “اسرائيل الدولة، و”إسرائيل” الشعب، كما تنبأ إشعيا النبي: مجد لبنان أعطي له”.
وأعلنت هذه المجموعة الصهيونية أنها ستعقد مؤتمرها الأول في العاشر من هذا الشهر، في مغتصبة “ألونيم”، وسط فلسطين المحتلة، جنوب شرق مدينة حيفا المحتلة.
طبعًا هذا الكلام ليس طارئًا على المشروع الصهيو – غربي، بل هو جوهره ولبّه الذي قام عليه، وأسّس كيانه المغتصب، ولكن إعادة إعلانه في هذه الظروف يحمل دلالات، ورسائل متعددة، تؤكد على جوهر الصراع مع هذا العدو، وكونه صراعًا وجوديًّا، وليس مجرد صراع عابر يحتمل التسويف والتأويل، ويقبل التنازل، أو التصالح، وهو صراع لا يخضع لفكرة “الحلول الوسط”.
وفي المقابل يوجه رسالة إلى المستسلمين المطبعين، الذين ركبوا قطار هذا المشروع، تحت عناوين “السلام والواقعية والمصالح”، أنه لا مجال لأي من هذه المفردات مع هذا المشروع، ومع كيانه، وخاصة مع ما نراه من إبادة عرقية جماعية تبيد البشر في غزّة، وتدمر الحجر لتقتلع شعبًا يحمل بذرة التمسك بأرضه، ويتبنى فكرة مقاومة المحتل وسط غياب الضمير، وتآمر الاقربين قبل الابعدين.
الغاية من هذه الإبادة تذكرنا بتجارب بافلوف التي ترتكز على فكرة الاستجابة الشرطية، أو التعلم الشرطي وهي نظرية في التعلم الترابطي البافلوفي، وتعنى “رد الفعل التكيفى للكائن تجاه منبه خاص، ويكتسب هذا التكيف من وضع الكائن مكرّرًا في الموقف نفسه” أي بمعنى آخر فإن هذه الإبادة الجماعية ترمي باستخدامها أقسى الاساليب الوحشية في الإبادة والتدمير والقتل إلى ترسيخ فكرة أن ثمن المقاومة كبير جدا، وكلّ من تسول له نفسه أن يقدم على خطوة تشابه “طوفان الأقصى”، وأن يقاوم هذا المشروع سوف يدفع مثل هذا الثمن الكبير، وهذا للأسف لا يلقى صدى الا عند ضعاف النفوس والمرجفين السائرين، بشكل أو بآخر، في ركاب هذا المشروع.
علمتنا دروس التاريخ ان المقاومة ثمنها كبير، ولكنه ليس أكبر، على المدى البعيد، من ثمن الخضوع والاستسلام، وتسليم الرقاب والأزمّة إلى المحتل الغاصب الدخيل.
هو صراع وجود، وليس صراع حدود، يتجلى في تناقض هويتين لا تعايش بينهما فإمّا نحن وإمّا هم… وبالطبع نحن سنبقى في أرضنا وأرض أجدادنا وهم إلى زوال، بلا أدنى ريب.
(*) باحث مختص في الشؤون الصهيونية.