لم تكن المقاومة ضدَّ “إسرائيل” يومًا موضع إجماعٍ وطني، بل كانت جزءًا من الخلاف الحاد والانقسام العمودي الدائر على مساحة الوطن منذ انطلاقة هذه المقاومة عام 1982 وبدء عملياتها الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلي وعملائه في لبنان. ولطالما كان السجال يدور حول جدواها في ظل الظروف الدولية والإقليمية التي عاشتها منطقة الشرق الأوسط وتقدّم مشاريع التسوية بين العرب و”إسرائيل” انطلاقًا من مؤتمر مدريد مرورًا باتفاقية أوسلو ووادي عربة في الأردن.
لم تكن المقاومة يومًا تبحث عن مشروعية لها أو تعبأ بالأصوات التي كانت ترتفع متعرِّضة لدورها وسلاحها. وساهم اتفاق الطائف في حينه، والذي أنهى الحرب الأهلية في لبنان، بإضفاء المشروعية الدستورية للعمل المقاوم بوجه الاحتلال ضمن نصوصه المكتوبة بعد إقرار حلِّ الميليشيات اللبنانية المسلحة والإبقاء على سلاح المقاومة ضد “إسرائيل” خارج النقاش والجدال الدائر في البلاد. واستمرت عمليات المقاومة بوتيرة متصاعدة تكبِّدُ الاحتلال الخسائر والهزائم، وتتالت البيانات الوزارية المؤكدة على مشروعية هذا السلاح وأهميته في مقاومة الاحتلال وعملائه قبل التحرير في العام 2000 وما بعده. وقد أكّدت التجربة المريرة مع عدوان “إسرائيل” وأطماعها في عدوان تموز وآب 2006 على لزوم وضرورة التمسّك بهذا السلاح وحمايته وتطويره ليكون جاهزًا وملائمًا لأية تهديدات ومخاطر قادمة.
بعد الاضطراب الكبير الذي عاشه لبنان بعيد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري في العام 2005 والانقسام السياسي الذي ساد في البلاد وخروج الجيش العربي السوري من لبنان، انتهزت بعض القوى السياسية الفرصة وبخبثٍ في محاولة لحصار هذه المقاومة وحلفائها وتوجيه الاتهامات الباطلة والظالمة لها بما جرى وتحميلها مسؤولية الانهيار الحاصل في البلاد على المستوى الاقتصادي والاجتماعي والسياسي مرورًا بكل الاستحقاقات الوطنية على مدى ثمانية عشر عامًا، وفاتهم أنهم كانوا في صف العدوان على لبنان في العام 2006 وجزءًا من محورٍ دولي وعربي ومحلي وعلى رأسه أمريكا والرجعية العربية مساندًا ومشجّعًا لـ”إسرائيل” بوجه المقاومة ومحاولة هزيمتها وكسر إرادتها.
اليوم يتوالى المبعوثون من الخارج بإيعازٍ صهيوني وبدبلوماسية متعددة الوجوه تحمل رسائل التهديد والوعيد للبنان في محاولة لتحقيق إنجازٍ ما في الحرب الدائرة على الجنوب اللبناني وتقديم سيناريوهات لترتيبات وإملاءات تهدف إلى تنفيذ القرار الأممي 1701 ولرفع المخاطر والتهديدات التي يواجهها العدو الإسرائيلي في تلك الحرب بفعل ثبات واستعداد وقدرات المقاومة وتضحياتها التي تمنعه من تحقيق أيٍّ من أهداف عدوانه، وفاتهم أنَّ تهديداتهم ومشاريعهم المشبوهة في حسابات المقاومة وقيادتها هي أضغاث أحلام أشبه بحلم إبليس بالجنَّة.
في ذات الوقت يُمعِنُ البعضُ ممن يدّعي القداسة والحكمة والسموّ وعند كل استحقاق وطني دقيق وحسّاس ويصرون أن تتصاعد رائحة العفن الطائفي بشدّة من خطابهم الممجوج والكريه في سعيهم الدائم لمواكبة تلك الضغوطات، ويواصل الحمقى منهم البقاء في زواريب السياسة الضيِّقة واستعلاءهم على شركائهم في الوطن مظهرين طائفيتهم الكريهة من خلال خطابهم التحريضي والسفيه تاركين الشتَّامين التافهين من أزلامهم ومناصريهم على شاشات التلفزة وصفحات الجرائد وفوق منصَّات التواصل الاجتماعي يتناولون كرامات الناس ومقدساتهم وطقوسهم ورموزهم السياسية والدينية، بل وإهانة تضحيات أبنائهم والاستخفاف بدماء شهدائهم ذودًا عن الأرض والسيادة والكرامة الوطنية.
فوق كلِّ هذا تعاني المقاومة أيضًا من بعض الساسة لغياب الرؤية الإستراتيجية لديهم لأحداث المنطقة والصراع الوجودي الدائر فيها، مع ضيق أفقٍ في التحليل والتفكير ونفاد الصبر وغشاوة البصيرة في ظلِّ الظروف التي يمرُّ فيها لبنان وفلسطين والإقليم بأكمله ويسوِّقون للزوم النأي بالنفس عن قضايا العرب والمسلمين في استرجاع لمقولة باليةٍ عفّى عليها الزمن “قوّة لبنان في ضعفه” وعدم مواجهة العدوان الإسرائيلي وتركه يسرح ويمرح ويعتدي ويستبيح دون حسبٍ أو رقيب، ويدعون للجوء إلى المحافل الدولية والعلاقات الدبلوماسية مع عواصم القرار للجم “إسرائيل” التي استباحت لبنان منذ إنشائها على أرض فلسطين في أربعينيات القرن الماضي وتوسّعها من خلال العدوان والاحتلال وارتكاب المجازر في المنطقة كلها. “إسرائيل” هذه التي داست بأقدامها كل قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن التي تدين عدوانها واحتلالها، وأعداد تلك القرارات العاجزة التي طواها الزمن طويلة ومخزية، ممعنةً في سياسة الطرد الجماعي والتهويد والاستيطان والاحتلال البغيض بقوة النار والحديد والقتل والاعتقال.
يستسهل البعضُ تعليق فشل سلوكه وخياراته السياسية على عاتق المقاومة وأهلها بل وأيضًا سقطاتهم المتكرّرة وقراءاتهم السطحية لمجريات الأحداث، هذه المقاومة التي كانت دائمًا معيارًا للأخلاق والقيم والمبادئ في العمل السياسي الوطني والتي أُسِّست عليها وأعلنتها بوضوح منذ “الرسالة المفتوحة” في شهر شباط من العام 1985 ومارستها بصدق وشفافية كاملة، والتي ترجمتها في محطات مفصلية حساسة من الواقع اللبناني وتركيبته الطائفية في علاقتها مع القوى السياسية المختلفة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وما بينهما وكانت أنموذجًا يحتذى ونهجًا راقيًا في الإخلاص وفي السلوك السياسي والاجتماعي والإنساني، وأظهرت فيها قيم المدرسة الأخلاقية الإسلامية الصادقة التي تنتمي إليها منذ انطلاقتها والتي ستبقى منهاجًا لها حتى قيام الساعة.
اللغة العربية فيها الكثير من المفردات والصفات والنعوت التي يمكن للمتحدث بها استخدامها بما يتيح له القدرة على التعبير بأسلوب سلسٍ وهيِّنٍ بعيدًا عن الفظاظة أو الكراهية وبلباقةٍ دون السقوط في متاهات اللغة الخاطئة الدالة عن مكنونات العقل والقلب والثقافة وأخلاقية المدرسة السياسية التي ينتمي إليها دون توهينٍ أو تشكيكٍ واتهام. وفي هذا قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع): “لسان العاقل وراء قلبه، وقلب الأحمق وراء لسانه”، وكُثرٌ هم الحمقى في أيامنا الذين تسبقهم ألسنتهم قبل عقولهم وأسوأهم على الإطلاق الأحمق الكارهِ الطائفي والمذهبي الذي يتحدَّثُ بلغةٍ “عبريَّةٍ” لا عربية يخدم فيها العدو ويساعده على فرض علوِّه وهيمتنه وغطرسته.
نحن اليوم بحاجة إلى العقلاء الذين يترجمون ما في قلوبهم من محبَّةٍ وصدقٍ في الشراكة الوطنية تجري على ألسنتهم من خلال مواقف موزونة وحكيمة، تجمع ولا تفرِّق في أكثر الظروف دقَّة وحساسية، وصدق الشاعر حين قال: ” وَظُلمُ ذَوي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ”.