عبد المنعم سمارة* – الناشر |
تتباين الآراء في الأوساط السياسيّة والإعلامية وحتى الشعبية العربية حول الأردن وموقفه من الحرب الدائرة حالياً، بين من يراه موقفً متقدمًا وأكثر حدّةً تجاه الكيان الإسرائيلي قياسًا لما سبق، وبين من يرى الأردن في الخندق الأميركي بغض النظر عن التقلبات الشكلية.
والواقع أن من يتمحص أكثر في الأردن سياسيًّا واجتماعيًا يرى أن القضية أعمق مما يتضخح للعيان، فالالتزامات الأردنية واتفاقياتها مع أميركا والاتحاد الأوروبي والمُساعدات التي تقدم للأردن أكبر مما يُنشر. يكفي فقط التطرق لاتفاقية التعاون الدفاعي بين الأردن والولايات المتحدة التي تتيح للأخيرة استخدام كافة المواقع الـ15 المتفق عليها في الاتفاقية للعمل بكامل حريته دون أن يكون للأردن الحق في مُسائلة الولايات المتحدة ماذا تفعل وتنقل من قواعدها لـ”إسرائيل”، وبالتالي فإن هذه الاتفاقية أقحمت الأردن في الحرب بشكل أو بآخر، وتلعب، بطبيعة الحال، دورًا في إسناد القواعد الأميركية والتواجد الأميركي – الاسرائيلي في سورية والعراق!
أضف أن الجغرافيا الأردنية منخرطةٌ في الحرب حتى وإن لم تطلق رصاصة في الأردن، فالأميركيون يتحركون في الجغرافيا الأردنية بحُرية، ومن الممكن أن تطرح مرة أخرى المخاوف من ضرب للقواعد الأميركية على الأراضي الأردنية من قبل العراق واليمن، خصوصاً بعد تصاعد الدور اليمني والعراقي في الأحداث باستهداف الكيان الصهيوني عبر الأجواء الأردنية سواء في ايلات أو البحر الميت، وما يُحكى عن اعتراض الأردن لأكثر من صاروخ ومسيّرة من العراق واليمن في مجاله الجوي يبرره الأردن على أنه حماية لمجاله الجوي والتزامهم بالاتفاقيات الأمنية مع “إسرائيل”.
أما الموقف الشعبي الأردني الذي يبدو صارخًا وواضحًا إلى جانب المقاومة الفلسيطينية بالمُطلق، وحملات المُقاطعات تجتاح كل الماركات والمُنتجات الأميركية والغربية التي تدعم جيش الاحتلال بشكل أو بآخر، مضافًا إلى جهود الدبلوماسية الأردنية وتصريحاتها على أعلى مستوى سياسي كانت قويّة ولافتة بعض الشيء، فإنه لم يترجم إيجابيًا على ارض الواقع في خضم هذه الحرب المسعورة، إذ ارتفعت وتيرة علاقة الأردن مع أميركا والاتحاد الأوروبي وازدادت المساعدات والمنح والقروض من الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي، سواء الـ 900 مليون يورو من الاتحاد الأوروبي، أو 1.2 مليار دولار كـ قرض من صندوق النقد الدولي.
الأردن بشكل عام مُكبّل باتفاقيات عديدة لا تقف عند اتفاقية وادي عربة أو اتفاقية التعاون الدفاعي مع أميركا، فالارتهان لصندوق النقد الدولي والمؤسسات الدولية بالقروض ومشاريع وبرامج المساعدات والديون التي أثقلت كاهلة الخزينة أكبر من المعقول فهو لا يستطيع أن يغامر بذلك كله، أيضًا نسب البطالة العالية في الأردن تؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد الأردني والمجتمع ككل! إضافة إلى أن المساعدات التي تأتي تعود بالفائدة على المؤسسات العسكرية والأمنية والدوائر والمؤسسات الحكومية، لكنها تُرى من زاوية البطالة المقنعة حتى ولو أنها تحرك جزء كبير من عجلة الاقتصاد والمجتمع الأردني.
ولا بد من الإشارة إلى أن هنالك أصوات تتردد داخل النخب السياسية الأردنية بأن العلاقة مع “إسرائيل” استراتيجية وهامّة، مثل اتفاقيات الماء والكهرباء والغاز والطاقة عمومًا، فهي تدخل بعلاقة اعتماد عميقة على الكيان الاسرائيلي وبشكل جاد، ولم تتأثّر هذه الاتفاقيات مع الكيان الاسرائيلي سوى بسحب السفير الأردني وإبلاغ الكيان بمنع اعادة سفيرهم للأردن! لذلك لا يمكن النظر تجاه الأصوات التي طالما تعالت ونادت بوقف التطبيع وإلغاء ورفض الاتفاقيات مع الكيان الاسرائيلي بأنها مجرد شعارات رافضة للتطبيع، بل هي تحركات نابعةٌ من الاحساس بالخطر الحقيقي على الأردن الذي يمكن أن يسبب لها كارثة حقيقية لا مفر منها مثل قطع الماء أو الغاز والكهرباء عن الأردن عند أول صدام بالرّؤى الأردنية – الاسرائيلية حول القضية الفلسطينية، وهذا ما يحدث الآن من اختلاف ولو بشكل جزئي!
ولا يجب أن نغفل أن الأردن عانى في السنوات الأخيرة من الاحتجاجات والاضطرابات تحت وطأة المشاكل الاقتصادية والاجتماعية ما يجعله غير مهيّأ لأي تصعيد قد يفضي الى حرب، فاقتصاده غير قادر على استيعاب تبعات هكذا سيناريوو ولا الصمود بوجه تبعاته، بل إن المجتمع الأردني نفسه غير قادر على تحمل حرب حقيقية لأن عموم المجتمع الأردني مجتمع استهلاكي يميل للنّسق الخليجي المُرفّه نوعًا ما، عبر القروض والاقساط المسيرة والارتهان للبنوك التي تتحكم بجزء لا يستهان فيه من شكل المجتمع وسياسيات الحكومات المتعاقبة في التعامل مع الشأن الداخلي الأردني.
بالتالي، يصعب مقارنة المجتمع الأردني بالمجتمع السوري على سبيل المثال، الذي نراه متأقلمًا ومتعايشًا، ولو بصعوبة، مع الحصار والحرب فرضت على البلاد على امتداد أكثر من 12 عامًا، ولا حتى بالمجتمع الاسرائيلي المهيّأ دائمًا وأبدًا للحروب عبر اقتصاد الحرب وبرامج الاحتياط والخدمة العسكرية وتسليح المستوطنين والملاجئ المجهزة بالكامل ليعيش فيها الاسرائيلي لأشهر! المقصد من هذا الحديث أن العوامل الاجتماعية والاقتصادية في الأردن غير مساندة أو مهيئة ليكون لديه مجتمع حرب واقتصاد حرب.
نشعر أحيانًا أن الأردن لا يرغب بتصفية المقاومة في غزة في كلام وزير الخارجية الأردني أيمن الصفدي: “حماس فكرة والفكرة لا تنتهي”، لأن القضاء على المقاومة في غزة يمنح الاسرائيلي ارتياحًا كبيرًا من الممكن أن يفضي الى استفراده بالضفة الغربية والذي من الممكن أن ينتج عنه سيناريو التهجير والوطن البديل والتوسع في بناء المستوطنات وتدنيس المقدسات. وقد تصاعدت وتيرة تصريحات وزير الخارجية الأردني ورئيس الوزراء والملك، والمواقف المعلنة للأردن الرسمي، ثم تَلاها اجتماع الملك عبدالله الثاني مع قائد الجيش والأجهزة الأمنية في خلية الأزمات للتأكيد على الموقف الثابت للأردن منذ سنوات برفض التهجير وتغيير شكل الضفة الغربية ووقف الاستيطان والوطن البديل الذي يعتبر خط احمر بالنسبة للأردن وما إلى ذلك. ثم حاول الأردن الرسمي عبر علاقات الملك عبدالله الثاني الشخصية مع الغرب لإيقاف الحرب وحشد موقف دولي ضد الحرب الهمجية والجرائم التي ترتكبها “إسرائيل” سواء بجولة الملك على الاتحاد الأوروبي وحلف الشمال الأطلسي، أو محاولة عقد مؤتمر مع بايدن في عمّان قبل أن تحصل مجزرة مشفى المعمداني، ثم نسقت الاردن منذ اليوم الأول للحرب مع مصر في ملف رفض التهجير وتصفية القضية الفلسطينية وحماس على حسابهم أو بشكل عام، وتلاها أيضًا اجتماع سداسي لوزراء الخارجية مع بلينكن في عمان، لكن هذه المرة لم تنجح هذه المحاولة في إيقاف الحرب أو تغيير الموقف الغربي والأميركي من الحرب وما تفعله “إسرائيل” بل إن الموقف الغربي والأميركي ازداد في دعم “إسرائيل” والمضي قدمًا في العدوان الوحشي على غزة لأن الحسابات هذه المرة كانت مختلفة، ويعود ذلك في حقيقة الأمر إلى أن “إسرائيل” شعرت بتهديد وخطر وجودي حقيقي استغرق شهرًا كاملًا حتى استوعبت أنها بدأت تتقلّص هذه المخاوف والخطر واستعادوا توازنهم قليلاً في الداخل.
أما فيما خص علاقة الأردن بمحور المقاومة ككل فيمكن إدراجها تحت بند التنسيق الأمني وتحييد الأردن عن الصراع الدائر في المنطقة، ودفع الخطر العسكري والمادي عن الأردن بالتنسيق العسكري الاستخباري والقنوات الدبلوماسية، فسياسة تدوير الزوايا الحادة للأردن هي من أنجع أساليبها السياسية في إدارة الأزمات وعند أي تهديد تشعر به على أي جبهة من الجبهات. أما قضية تهريب السلاح للضفة الغربية عبر الأردن من قبل سورية، فهنالك سيناريوهات عديدة محتملة، منها أن الأردن حقيقة لم تعد قادرة على ضبط أمن حدود الكيان الاسرائيلي، أو أنها تغض الطرف أحيانًا عن دخول السلاح من سورية إلى الضفة الغربية عبر أراضيها كي تدفع بخطر التهجير والتوطين والوطن البديل وتثبيت الصراع داخل الضفة قبل أن يفور الصراع ويصل إلى الأردن، لذلك هي ورقة بيد الأردن ولا نعلم حقيقة ما يجري فيها.
إذًا، يميل الأردن بالطبع للإبقاء على الوضع القائم قبيل الحرب الأخيرة على غزة فهو يشعره بالاستقرار ويعود عليه بالفوائد، بل ويميل إلى بقاء وضع المنطقة الراهن ككل على ما هو عليه، لذلك لم نر طموحًا أردنيًا لتوسع باتجاه ضم أراضي عراقية أو سورية أثناء استعار الحرب في سورية أو العراق، ونجد أن الأردن لا يقبل بتغيير الشكل الحالي للمنطقة والقضية الفلسطينية من خلال الخطاب الرسمي ومعظم النخب السياسية الأردنية في رفض الوطن البديل والتهجير والحديث مِرارًا وتكرارًا على مبادرة السلام العربية وحل الدولتين والسماح للفلسطينيين ببناء دولة وزيادة المنفعة الاقتصادية وتمتين العلاقات مع السلطة الفلسيطينية التي من الممكن حينها أن تنتج فرص اقتصادية وسياسية جديدة وهامة للأردن، ورغم أن هذا الحل قد انتهى عمليًا على أرض الواقع إلا أنه ما يزال مدخلًا إجباريًا لا مفر منه بالنسبة للأردن ولا حل للقضية الفلسيطينية والمنطقة سواه.
بالمحصلة، هذا هو موقف الأردن وخطابه، خطاب عالي لكنه سلمي، خصوصًا أن الأردن شريك استراتيجي هام للغرب وأميركا ويمتلك مصداقية عالية لديهم، وهذا ما يفسره ارتفاع وتيرة التصريحات الشديدة نوعًا ما لوزير الخارجية الأردني سواء في الأمم المتحدة أو غيرها. لكن بعد كل ذلك الحراك الدبلوماسي والتصعيد في التصريحات لم يتغير شيء على أرض الواقع.. والأيام حبلى بالعديد من الوقائع والسيناريوهات المحتملة، فلننتظر ونرَ.
*كاتب أردني