عباس محسن زنجي – الناشر |
لقد هربنا إلى قبرص مباشرة بعد انطلاق صفارة الإنذار الأولى يوم السبت، أخبرني حدسي أن هذه لم تكن مجرد جولة أخرى، وكانت أعصابي متوترة لمدة 10 أشهر بسبب هذا البلد الذي جن جنونه علينا” هذا ما جاء في شهادة أحد الفارين في تحقيق لصحيفة هآرتس بعنوان “قاتل حماس أو اهرب”.
فمفاعيل طوفان السابع من أكتوبر تشير إلى تآكل بنية وجود “إسرائيل” من خلال هروب الإسرائيليين الكثيف إلى الخارج تحت وطأة المشاكل الداخلية العويصة أيضًا ونبوءات متوارثة ومخيفة عن زوال قريب.
لم يَعهد الإسرائيليون “النزوح”، كان هذا مصطلحًا خاصًّا بالفلسطينيين والعرب في الأماكن التي تطالها الاعتداءات الإسرائيلية، وبعد 7 أكتوبر بات الإسرائيليون ينزحون أيضًا، حيث أعلن الجيش الإسرائيلي أن 500 ألف نزحوا داخل “إسرائيل”، وهم مستوطنون مهاجرون في الأصل، فيما أخليت مدينة سديروت بالكامل، وهي تضم نحو 20 ألف مستوطن، كما تم إخلاء كل المستوطنات القريبة من الحدود الشمالية مع لبنان.
ويشير دخول الإسرائيليين إلى دائرة النزوح وسقوط صواريخ المقاومة في تل أبيب وجنوب القدس وتعطيل جلسات أعضاء الكنيست وهروبهم إلى الملاجئ بالصورة القاتمة إلى زيف مقولة الأمن والاستقرار، ويعطي انطباعًا للإسرائيليين عما قد يحصل مستقبلا، فباتوا يتفقدون جوازاتهم البديلة المكتسبة بحكم جنسياتهم الأصلية القديمة أو تلك التي حصلوا عليها لاحقًا لاستخدامها عند الضرورة.
وظهرت مشاهد الازدحام غير المسبوق في مطار تل أبيب -الذي تعطل بعد قصف المقاومة في ذلك اليوم- والمطارات الأخرى أكبر من أن تفسر بسياقات السفر العادية، فمعظم من يخرجون باتوا لا يعودون، ويضرب كل ذلك عمق العقيدة الصهيونية التي تقوم على عنصر الإحلال والاستقرار وتشجيع الهجرة المكثفة إلى “أرض الميعاد”، والذي كان هاجس الوكالة اليهودية منذ تأسيسها عام 1922.
لا استقرار على الأرض
لم تعد “إسرائيل” بالنسبة للكثيرين دولة آمنة ولا يتوفر فيها عنصر الاستقرار الأمن ومبررات البقاء والمستقبل الذي ينشدونه مع التآكل المتسارع لنظريتها الأمنية، وذلك تبعا لما يلي:
– لم تعد المواجهات العسكرية محدودة، بل أصبحت ضربات المقاومة تستهدف كل “إسرائيل” وبشكل موجع شمالاً و جنوبًا.
– أصبحت المواجهات متواترة، والخسائر الإسرائيلية في ارتفاع تدريجي.
– عدد القتلى والجرحى في ازدياد متواصل، ولم يعد أحد بمنأى عن ذلك.
– لم تعد القوة العسكرية أو الاستخباراتية الإسرائيلية قادرة على تجنيب الإسرائيليين الموت.
– فقد الجيش الإسرائيلي قدرة الردع، وظهرت حقيقة ضعفه.
– قتلت إسرائيل آفاق السلام الذي كان مشجعا للبعض على البقاء أو القدوم.
– زيادة قوة “الحزام المعادي لإسرائيل”، حيث أصبح يشكل تهديدًا وجوديًا لها.
– تفاقم المشاكل الداخلية الإسرائيلية سياسيًا وانعكاسها على الوضع الاقتصادي والأمني.
– سيطرة اليمين على مفاصل السلطة واعتماد سياسة عنصرية متطرفة مثّلا عنصرًا طاردًا.
-أدت الأوضاع الداخلية والخارجية إلى زيادة منسوب التشاؤم والإحباط لدى الإسرائيليين.
لم يعد “المشروع الإسرائيلي” حتى بأبعاده الدينية التاريخية مغريا وعنصر جذب لليهود للبقاء، كما أن عنصر استقرار السكان على الأرض باعتباره من عناصر تكوين الدولة لم يعد قائما بحكم الضغوط الأمنية والعسكرية الخارجية وعدم اليقين في مستقبل الدولة ذاتها، وبالتالي فإن فكرة الرحيل أو الهجرة العكسية كانت البديل بالنسبة للكثير من السكان.
لعنة الزوال
تؤمن أغلبية القيادات الإسرائيلية والجمهور الإسرائيلي بلعنة
عقد الثمانين، حيث تشير الروايات الإسرائيلية إلى أن أغلبية ممالك بني إسرائيل بعد النبي سليمان انهارت خلال العقد الثامن، فيما سيحل هذا العقد الثامن سنة 2027، أي أن عمر “إسرائيل” لن يدوم أكثر من 80 عامًا وسيكون قبل 14 أيار 2028، إذ تأسست “إسرائيل” يوم 14 أيار 1948.
ويشير رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك نفسه إلى ذلك بقوله في مقال بصحيفة يديعوت أحرونوت “على مر التاريخ اليهودي لم تعمّر لليهود دولة أكثر من 80 سنة إلا في فترتين: فترة الملك داود وفترة الحشمونائيم، وكلتا الفترتين كانت بداية تفككها في العقد الثامن، ويتوجب استخلاص العبر من التشرذم والانقسام اللذين عصفا بممالك اليهود السابقة، والتي بدأت بالاندثار على أعتاب العقد الثامن”.
وإذا كانت هذه النبوءة تعيد الانهيار إلى أسباب داخلية فإن الأزمة غير المسبوقة التي تشهدها المؤسسات الإسرائيلية في ظل حكومة بنيامين نتنياهو المتطرفة والانقسام غير المسبوق في المجتمع الإسرائيلي وحالة التوتر والإحباط والخشية من “تفكك الهوية” والقلق الوجودي، إضافة إلى الحرب بمفاعيلها غير المسبوقة تدفع الإسرائيليين إلى البحث عن ملاذات أخرى آمنة، ومن المرجح أن ترتفع موجات الهجرات العكسية بوتيرة غير مسبوقة بناء على تلك النبوءات التي تثير رعب الإسرائيليين والتي يعززها الواقع.
ويشير الباحث الفلسطيني جورج كرزم في كتابه “الهجرة اليهودية المعاكسة ومستقبل الوجود الكولونيالي في فلسطين” إلى أن “أكثر من نصف اليهود الإسرائيليين قد أعلنوا في ظروف سلمية أنهم يفكرون بترك “إسرائيل” ، وأن نحو 70% من الإسرائيليين يتوجهون للحصول على جنسية أخرى أو فكروا في ذلك”.
أما في ظروف الحرب -كتلك التي تجري حاليا- أو في ظروف مواجهة طويلة الأمد مع “إسرائيل” وفقدان أسباب البقاء فإن هذا العدد سيتضاعف، وفي حال نفّذ نصف العدد المذكور فكرتهم في الهجرة العكسية فإن “إسرائيل” ستفقد عمليًا ربع سكانها على الأقل، مما يعني تآكل إسرائيل وتفوق عدد السكان العرب تدريجيا بفعل الزيادة السكانية المرتفعة لديهم.
و على الرغم من المجازر التي ترتكبها “إسرائيل” بالشعب الفلسطيني من إبادة جماعية وتطهير عرقي إلّا أن عملية”طوفان الأقصى” نجحت في كشف عوامل القصور والضعف في بنية “إسرائيل” بتهشيم الواجهة الهشة التي كانت تعتمد عليها، وبفعل صدمة 7 أكتوبر الجاري العسكرية وتفاقم المشاكل الداخلية ونزيف الهجرة العكسية تذهب “إسرائيل” إلى الفراغ، فلا استقرار ولا أمن ولا ازدهار يدعو للبقاء، وفي ذلك زيادة لعوامل الانهيار الداخلي لبنية وجودها الأساسية.