اليوم تقاتل غزّة وقِطاعها عن كلِّ فلسطين من البحر إلى النهر، عن كلِّ حاراتها وبياراتها وحواريها ودساكرها، عن ليمونها وزيتونها، عن مساجدها وكنائسها، عن كل مقدَّساتها، بل عن كل عربيٍّ ومسلمٍ وحرٍّ شريف على هذه الكرة الأرضية يرفض الظلم والعدوان والقتل والإجرام الذي مارسه ويمارسه العدو الصهيوني بحقِّ الأبرياء والمظلومين والمستضعفين من أهلها أمام سمع ونظر العالم أجمع الشاهد الزّور على جرائم تُرتكب ضد الإنسانية، أمام عالمٍ لا عدالة فيه مليء بالكذب والخداع والقيم الزائفة حول حقوق الإنسان وحماية أرواح المدنيين الآمنين.
غزّة اليوم تُقدِّمُ دمها قربانًا للحُريَّة والاستقلال والتحرير وتضخُّهُ في شرايين الأمّة من جاكرتا إلى نواكشواط، تُعيدُ جريان الدَّمِ في عروقها، في نيلِها وفُراتِها، في ليطانِها واليرموك، تملأُ طبريا والحولة وصفد والنقب وحيفا ويافا وأريحا ونابلس وعسقلان والقدس وأقصاها وبيت لحم ومهد السيد المسيح فيها بالعزَّة والشّموخ والكبرياء، تُعيدُ للقسَّام مجد ثورته، وتُشرِقُ بدمِ أشلاء أطفالها على المتوسِّط منارةً للحرية والعنفوان والمقاومة.
غزَّة اليوم تختصر أوجاع الأمّة وآلامها ونكبتها وتشريدها في الشتات، تغسلُ عار الأنظمة الرجعية المتخاذلة عن نصرة فلسطين وقضيتها، تكشف زيف وخداع المتشدِّقين باسم الدين والقومية والاشتراكية والعروبة والوطنية، وتمسحُ الغشاوة عن أعُينِ المتردِّدين عن إدانة جرائم “إسرائيل” وحثالة القتلة وشذّاذ الآفاق من قطعان مستوطنيها.
غزَّة اليوم تدفع ثمن أحقاد التاريخ وثارات خيبر وبني قريظة والقينقاع، وتدفع أيضًا ضريبة الثورة في العام 1920 وثورة يافا 1921 والبُراق 1929 وانتفاضة الشيخ عز الدين القسّام المسلّحة في العام 1935م ونكبات الأمَّةِ ونكساتها، بل تدفعُ ثمن انتصاراتنا المُدوِّية على الصهاينة ورعاتهم الغربيين منذ أول طلقة أطلقت في صدر مشروعهم الاستيطاني في قلب فلسطين وحتى يومنا هذا.
غزة اليوم وفي كل يوم، شهداؤها الأطفال يحلقون ببراءتهم كالطيور في سمائها، يضيئون ليلها الدامس بوجوههم المنيرة كالكواكب، يمسكون أيدي بعضهم البعض ويرفرفون بأجنحتهم الملائكية فوق رياض الشُّهداء الذين دفنوا دون غسلٍ أو تكفين، تُناغيهم أمهاتُهم الثكالى بشدوٍ حنونٍ عُصارة قلوبهم المفجوعة على طفولةٍ قُتلت دون ذنبٍ اقترفته بأيدي وحوشٍ برابرةٍ قُساة قلوبٍ ظالمة نِتاج تلموديَّة حاقدة وبغيضة.
غزَّة اليوم بدماء شُهدائها المظلومين تُلطِّخ جبين عرب الردَّة والتطبيع المتخاذلين عن نصرتها والمتآمرين عليها، تُدينهم ولا يبرأون، وستبقى لغزَّة العِزَّة، لصمودها الأسطوري الملحمي، لشهدائها ولجرحاها، للثكالى والأيامى، للبيوت المدمّرة فوق رؤوس ساكنيها، للشُّهداء والأحياء الذين ما زالوا تحت أنقاضها، ستبقى غزَّة هي “الاسم الحركي” لفلسطين كُلّ فلسطين، إلى يوم يُبعثون.