مجحفٌ هذا الزمن وظالمٌ بحقِّ الإمام المغيَّب موسى الصدر، ذاك القائد الذي غُيِّب في غياهب سجون الرجعية العربية الظالمة. رجلٌ تآمرت عليه دولٌ وأنظمة ومنظمات وقوى وأحزاب حتى ضاعت قضيته بين القبائل. ومؤلمٌ تغييب هذه القامة الإسلامية الفريدة بشخصيتها وعلمها وفكرها وثوريَّتها وحضورها الإسلامي والعربي واللبناني. حمل قضايا الوطن ومعاناته وجال فيها دولًا واقطارًا واجتمع بقياداتها ومسؤوليها مستعرضًا المخاطر المحدقة بلبنان وبالأطماع الصهيونية فيه أرضًا ومياهًا وخيرات في البرِّ والبحر دون كللٍ أو ملل.
كنت لا أزال فتىً في العاشرة من العمر وذلك في العام 1977م حين سمعنا يومًا بعض الكبار يخبرون بعضهم بعضًا أنَّ “السيِّد موسى” سيحضر إلى حسينية الإمام الحسين(ع) في برج البراجنة وسيلقي كلمة هناك في إحدى المناسبات، وفي وقتها وبسعادة الأطفال ركضت وبعضًا من رفاقي مسرعين نحو الحسينية آملين أن نراه وأن نسمع صوته وكلماته، وعلى باب تلك الحسينية وقفنا برهبةٍ ولهفة، رهبة الدخول ونحن صغار في السن ولهفة الرؤية لتلك القامة المهيبة والمشرقة للإمام الصدر. انتهى خطاب “السيد” وأوصى وصاياه. خرجت جموع الناس وهو بينهم كالطود الشَّامخ بابتسامته اللطيفة يوزعها بعطفٍ وحنوّ على المحيطين به كبارًا وصغارًا. وبعد اختطافه وتغييبه لطالما شاركتُ في الاعتصامات والتظاهرات والمسيرات الشعبية وأولها كان في مدينة الزهراء(ع) في خلدة (الجامعة الإسلامية حاليًّا) وغيرها من الفعاليات التي جرت في السنوات اللاحقة التي طالبت بالكشف عن مصيره.
في قراءة ليوميات الإمام الصدر وحركته السياسية والدينية والاجتماعية منذ قدومه إلى لبنان وفقًا لمراكز صحفية وإعلامية ودراسات أحصتها ودوَّنتها وأرشفتها حين جاء مبلِّغًا وداعيًا ومرشدًا أواخر خمسينيات القرن الماضي وعاملًا على إنشاء المؤسسات الدينية والثقافية والصحية والاجتماعية والتربوية والمهنية وأهمُّها المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى في العام 1969م رغم محاولات العرقلة والتعطيل، مرورًا بالأحداث السياسية والأمنية والاجتماعية التي مرت على الوطن خلال السنوات اللاحقة ولقاءاته وجولاته ومواقفه التي أطلقها في محاريب المساجد وعلى منابر الكنائس وصولًا إلى الحرب الأهلية في العام 1975م، كان الرجل في حركة دؤوبة بين القيادات والزعامات والمناطق المختلفة بقاعًا وجنوبًا، ساحلًا وجبلًا عابرًا خطوط الحرب والتَّماس الملتهبة، وعند الضرورة كان ينتقلُ إلى الدول العربية للقاءِ قياداتها ذات النفوذ والتأثير على القوى المتصارعة في لبنان.
كان دائم النشاط لا يكل ولا يهدأ يطفئ الحرائق ويقرّب وجهات النظر ويزيل الخلافات والمشاحنات بين القوى الحليفة أو المتخاصمة، يفكُّ الحصار عن بعض المناطق ويحرِّر المخطوفين عند الإمكان ويحذِّرُ من الخطر الصهيوني على الوطن ونزعات التقسيم والكنتنة والفدرلة التي كانت أحلامها تدغدغ زعامات اليمين الانعزالي في تلك الأيام والتي للأسف ما زالت تراودهم حتى في يومنا الحاضر، وهو القائل فينا “نؤمن بلبنان وطنًا عزيزًا وسيِّدًا كريمًا ونريده للإنسان ..”. عمل على مساعدة المقهورين والمظلومين والمهجرين في أرضهم والنازحين عنها بسبب العدوان الإسرائيلي المتكرر على الجنوب متفقدًا أحوالهم في مخيمات النزوح أو في القرى الأمامية المدمَّرة ومناطق حزام البؤس الناشئة حول العاصمة بيروت بسبب الحرمان والتهميش التاريخي ومشاريع الكانتونات التقسيمية في الداخل.
لقد عمل ليلًا ونهارًا بصبرٍ كبيرٍ وجهد استثنائي من أجل الحوار الداخلي حجبًا للدماء والآلام ومنعًا لإثارة الغرائز الطائفية وتخفيفًا لمعاناة اللبنانيين. وتكشف لك تلك اليوميات خلفيات تآمر الجميع عليه لأجل إخفائه وإقصائه وإسكاته من أحزابٍ ومنظماتٍ من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ومعهم الإقطاع بوجوهه المختلفة، كلُّ ذلك بسبب صلابته وموقفه الحازم أمام كافة مشاريع الهيمنة والتسلُّط والتقسيم ومحاولات الإمساك بالقرار الوطني وتضييع بوصلة البندقية المقاومة لأجل فلسطين.
أيامٌ وتهلُّ علينا الذكرى الخامسة والأربعون لاختطاف الإمام موسى الصدر ورفيقيه الشيخ محمد يعقوب والأستاذ عباس بدر الدين وتغييبهم عن ساحة جهادهم ومقاومتهم دون أن يُعرف سِرّ هذا التغييب القسري الظالم والمتمادي بدايةً على أيدي نظام القذَّافي المقبور في ليبيا ومن أتوا بعده لاحقًا من ميليشيات وعصابات وأشباه الدولة الذين لا يكلِّفون أنفسهم القيام بأي جهد بالبحث عن الإمام أو تقديم أية معلومات أو تفسيرات أو حتى السعي لإماطة اللثام عن هذه القضية وكأنَّ المخطوف لا أهل له ولا طائفة ولا وطن.
قضية الإمام الصدر ورفيقيه (أعادهم الله سالمين) ستبقى جرحًا مفتوحًا وعميقًا في وجدان المخلصين من أبنائه ومحبِّيه وتلقي بظلالها على واقعنا الإسلامي والعربي واللبناني حتى الكشف عن مصيره، فهو شخصية استثنائية وطنية وإسلامية وعربية ودولية وهو من علَّمنا ألف باء المقاومة في وجه الاحتلال والعدوان الصهيوني والدفاع عن المحرومين والمستضعفين “ومقاتلة إسرائيل بأظافرنا وأسناننا وسلاحنا مهما كان وضيعًا” وأنَّ “الدفاع عن الوطن ليس واجب السلطة وحدها، وإذا تخاذلت السلطة فهذا لا يلغي واجب الشعب في الدفاع ..”، وزرع فينا حُبَّ فلسطين وقضيتها ومقدَّساتها وأهلها وأكَّد لنا “أن شرف القدس يأبى أن يتحرّر إلا على أيدي المؤمنين الشرفاء”.
في ذكرى تغييبك المحزِن ونحن نعيش فرحة الانتصار الإعجازي التاريخي الإلهي في تموز وآب 2006 ننبيك يا إمام المحرومين أن مقاومتك التي زرعت أُسُسَها كبُرَت وأينعت وتجذَّرت ويحسب لها ألفُ حساب وأنت القائلُ في مجاهديها: “أمّا أنتم يا شبابنا، يا من شرّفتم بسلوككم تاريخ بلادكم، الذين قُتلوا في سبيل اللَّه والذين دافعوا عن الإنسان، أنتم شرفنا، دماؤكم وثيقة وأمانة في أعناقنا”. هذه المقاومة بشهدائها وجرحاها ومقاوميها وأهلها انتصرت وحررت معظم الأراضي اللبنانية المحتلة وهزمت “إسرائيل” وجيشها في أكثر من ميدان، واليوم تردعها خلف الجدران الإسمنتية والأسلاك الشائكة خائفة مذعورة، مقاومة رسمت وترسم كلَّ يوم المعادلات المرعبة لأصل وجود وديمومة هذا الكيان الغاصب في فلسطين وتزعزع ثقة المستوطنين المستعمرين من شذاذ الآفاق بالأمن والأمان وتزرع الخوف والرعب في قلوب الجنود الصهاينة وجنرالاتهم وتضرب أسس الحافزية والاستعداد والقدرة على المبادرة والإقدام لديهم. ننبيك سيّدي أننا ملتزمون وصيتك بأنَّ “الدفاع عن الوطن وحرية الإنسان والموت من أجلهما هو دفاعٌ عن الله ..”، وأنَّ زمن الهزائم قد ولَّى وجاء زمنُ الانتصارات بإذن الله، ونحنُ ما زلنا بانتظارك.