بدأت تتبلور مرحلة جديدة في حالة الصراع مع الكيان الصهيوني،. ولا شك أن هذا الكيان لا زال يمتلك أصولًا عسكرية هامة وضخمة إلا أن الجولات الحربية التي خاضتها أمّة المقاومة معه منذ ما قبل تأسيسه إلى اليوم قد صقلت زنود وعقول اهل هذه الأرض وطفن على السطح زبدة هذه الأمة التي أخذت أشكالًا مختلفة واتحدت تحت عباءة جامعة اسمها محور المقاومة.
ذات يوم كان هذا الكيان القوة الأكبر في منطقتنا، وذات يوم هزم هذا الكيان خمسة جيوش عربية مجتمعة، أما هذا اليوم فلم يعد بقدرة هذا الكيان القتال بأريحية كما كان يفعل على جبهة صغيرة جغرافيًّا كجبهة غزة.
شكل تكوين القدرة في قطاع غزة قوة طاردة ورادعة لها شعاع يرسمه العدو نفسه بمسافة 60 كلم، ويحدد الدوائر بألوان مختلفة، وحتى من دون أن تطلق المقاومة في غزة أي صاروخ فإن عامل الاستقرار الأمني في ما يسمى غلاف غزة أصبح مفقودًا بدرجة عالية لدى المحتلين الذين يسكنون تلك المناطق.
لم يدرك العديد المعنى العميق لمصطلح الصمود، فالصمود الذي قادته العباءة الجامعة لقوى المقاومة ومع سير الزمن وتأسيس القوة التي لا يمكن التخلص منها بضربات جوية، ولا باجتياح بري، ولا باستجلاب عقوبات دولية، ومقاطعة اقتصادية، وهجمات إعلامية.
بحساب نتيجة الصمود الطويل للقوى المقاومة في الإقليم أنتج تشكيل حلف يمتلك إدارة دقيقة للمعركة المستمرة مع العدو في مقابل تفكك الحلف المقابل وضعفه وتراجعه، ففي يوم ما من تموز عام 2006 كان للحلف الأمريكي ـ الإسرائيلي أركان عربية اتهمت المقاومة بالمغامرة ومولت الجيش الصهيوني في عدوانه على لبنان أما اليوم فإن هذا الحلف تفكك بعد عقدين من محاولة ربطه بالقوة وحضور عسكري أمريكي قوي في المنطقة، إلا أن الصمود الذي اتخذ في جولاته الأخيرة طابعًا هجوميًّا، وإن كان محدودًا، حوّل قوة الكيان الصهيوني إلى عجينة يعاد تشكيلها وتحديد قوتها على يد قوات محور المقاومة.
لم يعد الحديث حول كيفية التعاطي مع هذا العدو وكيانه المؤقت موضوعًا استراتيجيًّا، فإستراتيجية التحرير قد كتبت ورسمت وأصبح سيناريو العشاء الأخير لقادة الكيان واضحًا لهم، وأما ما تبقى من الحراك الذي نشاهده اليوم فما هو إلا حراك تكتيكي بحت بانتظار ساعة الصفر الأخيرة.
رسم الكيان المؤقت حول نفسه حقولًا من التوابيت والجدر لأنه أدرك أن حالة التغول العسكري واليد المنفلتة لتنفيذ عدوانيته اللامتناهية انتهت، وتحول التخطيط العسكري عنده إلى المحافظة على الكم الأكبر من الهدوء، والتعايش الإجباري مع غابة الصواريخ التي تحيط به مع عدم الذهاب إلى الإفراط في أي عمل عسكري يشنه من ناحية إيقاع عدد كبير من الضحايا المدنيين، فأخرج من ذهنه أن سياسة إمساك المقاومة بيدها التي تؤلمها أي المدنيين العزل لم تعد تؤتي أكلها عندما تحول الخوف عند شعب المقاومة إلى عنصر محفز ويطالب بضرب العدو والرد عليه بعد كل مجزرة، وثانيًا عندما أصبح لدى قوى المقاومة يد صاروخية طولى تستطيع ضرب كل المدن المحتلة على كامل الخريطة الفلسطينية وضرب المستوطنين في الأماكن التي كانوا يعتبرونها آمنة، وخاصة بعد ظهور الصواريخ التي ضربت حيفا عام 2006 ولاحقًا صواريخ غزة التي ضربت تل أبيب والقدس والتي لم يكن يتخيل أحد أن تصل الصواريخ إليها أو يجرؤ أحد على قصفها، فحيفا كانت أول باب خلع عام 2006 ثم سمعنا الجواب في تل أبيب خاصة في معركة سيف القدس.
أن إدراك العدو أننا امتلكنا القدرة في حربه أولًا والجرأة في ضربه ثانيًا جعله في حالة قتال تراجعي ودفاعي بحيث إن كل المعارك الأخيرة من حرب تموز الى المعركة الجارية حاليًّا أعطت خلاصه واحدة وقبل بها قادة الكيان وتحدثوا عنها وهي أنهم فقدوا المبادرة وفقدوا ما كانوا يستطيعون فرضه بالسابق عبر قوتهم النارية وتحالفهم العالمي الداعم، فالقوة النارية يقابلها قوة ناريه ولو كانت غير متساوية بالحجم إلا أن تنقيط الصواريخ من غزة فقط وبمديات مختلفة يُدخل الكيان من شماله الى جنوبه مع مطاراته وموانئه بحالة شلل نصفي، بحيث أصبح لغزة مفعول قوي في وضعية توازن الرعب مع العدو، وليهرب رئيس وزراء العدو من الإشارة لهذا التوازن أدخل في مؤتمره الصحفي بعد عملية اغتيال القادة من الجهاد الإسلامي موضوع النووي الإيراني وقال إنه لن يسمح لإيران بامتلاك السلاح النووي محاولًا تحويل النظر عن نوعية المعركة ومحاولة القول إن عدو “إسرائيل” هو دولة قوية كالجمهورية الإسلامية وليست غزة وفصائل المقاومة فيها.
ما ظهر إلى الآن أن كل ما حصل ويحصل شبيه بأن نتنياهو يصفع نفسه وأن جيش الكيان يضرب رأسه بحائط غزة، ولا طريق له في فرض أي معادلة في فهو لم يستطع انتظار رد المقاومة في غزة لأكثر من ساعات فافتتح الجولة في محاولة لإنهائها بأسرع وقت لأنه وقع بين نارين نار الاستنزاف الصامت أو نار الصواريخ والشلل الكامل مع المخاطرة بتدحرج المعركة الى كامل الداخل الفلسطيني، والمغامرة بتدخل الجبهات المحيطة.
في العودة الى التقارب الزمني بين الجولات المتعددة في المعارك مع العدو الذي كما يبدو أنه يضغط عليه، ولا زال العدو يستطيع الهروب والتهرب من معارك كبيره وطويلة ويعمد لإنهائها بإدخال الوسيط المصري وغيره بشكل مباشر، وفي كل مرة يعطي ضمانات للوسطاء ويتنصل منها مع كل حدث جديد، ويعود بشكل أساسي للحديث عن سياسة الردع، وتعزيز الردع. وبينما يرى بعينه النمو المتزايد والمتسارع لقوى المقاومة في غزة، ودخولها الى ساحة الضفة تمويلا وتفعيلا وحماية فإنه لم يجد ما يفعله سوى أن يتحدث عن سياسة الردع التي أصبحت مهلهلة ولا تأتي بأية نتيجة تحسب تكرار التصادم مع قوى المقاومة، ومحاولة تحييد كتائب القسام عن دخول المعركة بشكل مباشر خير دليل، فقد أصبح معنى الردع الإسرائيلي بشكل مباشر هو تقصير زمن الجولة، ومنع سقوط إصابات بين المستوطنين والاختباء أو الاختفاء عن نظر ورمايات المقاومة على تخوم غزة.
السمة العامة لهذه الجولة التي ربما تنتهي سريعا أو تمتد أياما تميزت بالهدوء الدقيق لدى قادة المقاومة، وبالاطمئنان لدى الجماهير المقاومة ليقينها أن الصفعة سترد بأقوى، وأن الجميع رغم الانتظار كان يظهر عليهم الهدوء بينما رأينا حالة التشظي والانفعال اللاعقلاني عند الصهاينة لأنهم عرفوا وأدركوا أن أبوابهم خلّعت وتكسر زجاج نوافذهم وأن ردعهم المزعوم أصبح بمقدار المخزون المستنزف للقبة الحديدية.