كانت أحداث وهجمات 11 أيلول أوّل مرّة تهاجم فيها أميركا بعد حرب العام 1812م، وكانت هذه الهجمات على مركز التجارة العالمي في نيويورك، ووزارة الدفاع (البنتاغون) في واشنطن، وكان في نية منفذي الهجوم استهداف البيت الأبيض أيضًا، إلا أنّ الطائرة التي أرادوها للهجوم سقطت في حقل بنسلفانيا. بعد هذه الأحداث خرج جورج بوش الابن الرئيس الأميركي وقتها ليعلن أميركا ضحية الشر البريئة. ومع هذا الإعلان بدأت وسائل الإعلام بالترويج إلى أنّ هذه الهجمات إنّما تستهدف الحريات الموجودة في أميركا، فهي “الفنار الأكثر سطوعًا للحرية والفرص في العالم”! في حين تجاهل المسؤولون الأميركيون أنّ هجمات كهذه تأتي في السياق الطبيعي لما فعلوه في العالم، سواء من نشرهم للكره والحقد بين الشعوب، أو تدخّلاتهم السافرة في شؤون الدول، أو إنشاؤهم للتطرّف والإرهاب.
لقد نسي الساسة في أميركا أنّهم ولسنين من الزمن كانوا مصدر قلق دائم لحكوماتٍ وشعوب، بل وسبب آلامهم كما هو الحال في كافة الدول التي دخلها الأميركيون محاربين متعللين بالحجج الواهية. فها هي فيتنام تتألم إلى اليوم، وكذلك مدينتا اليابان المسممتان، ولا ننسى نيكاراغوا والهندوراس وغيرهما.
في أحداث 11 أيلول 2001م وصلت الضحايا إلى 2900 قتيل، أما في أحداث هيروشيما وناكازاكي اليابانيتين فقد تم قتل 170 ألفًا من المدنيين اليابانيين، من الرجال أو النساء أو الأطفال، وذلك في لمحة عين بالقنبلتين الأميركيتين اللتين ألقيتا عليهم. فيما عانى من الموت البطيء ما يزيد عن ذلك بكثير، نتيجةً للتسمّم بالإشعاع طوال هذه السنين. طبعًا كل من يقتل بلا سببٍ سواء في أميركا أو اليابان فهو مظلوم، ولكن الفارق هو أنّ من يدّعي أنّه ضحية نتيجة تعرّضه لهجماتٍ هي وليدة ما صنعه من إرهاب وبثّه في العالم، لا يكيل بنفس المكيال في ما خصّ أفعاله التي بدأها منذ تاريخ نشأة بلاده حين نازع السكان الأصليين أرضهم، ولا في ما ارتكبه من جرائم بحق الإنسان حين رمى قنابله السامة والنووية على أناس عزّل، ولا حين أمضى ما يقارب 60 عامًا في زرع الفتن وإثارة النعرات والتحفيز للحروب.
بعد رمي القنبلتين، أُبلغ الرئيس الأميركي هاري ترومان بنجاح العملية، ونحن نتكلم عن إلقاء القنبلة الذرية الأولى على بلدٍ يسكنه آلاف الناس، بغرض الحرب وليس التجربة، هنا يبتسم ترومان ويقول: “هذا أعظم شيء حصل في التاريخ”.
بعد هذه الحادثة، جرى نقاش واسع حول أهمية رميهما وكونهما وضعتا حدًّا للحرب العالمية، والصحيح أنّ هذا ما روّج له الغرب وليس ما كان يجري على أرض الواقع، لأنّ الحرب كانت بالفعل على وشك أن تضع أوزارها، وكان اليابانيّ قبل هذه الحادثة على استعدادٍ تام للاستسلام، بل حتى قيل إنّه قد أعلن ذلك. كان وليام د. ليهي رئيس أركان الجيش الأميركي حينها من بين من شعروا بذلك، ليقول فيما بعد: “اليابانيون هزموا وهم جاهزون للاستسلام بسبب الحصار البحري الفعّال، والقصف الناجح بالأسلحة التقليدية”، وهذا بالضبط ما حاول قوله آيزنهاور الضابط الأميركي الذي أصبح رئيسًا لأميركا لاحقًا: “اليابان كانت تبحث عن طريقة للاستسلام بأقل خسائر لهيبتها… لم يكن من الضروري ضربهم بذلك الشيء (السلاح النووي)”.
إذًا ما هو الهدف من هذا العمل الإجرامي؟ هذا ما يرويه بيتر سكاون في كتابه “أميركا الكتاب الأسود”: “هناك دليل قاطع على أنّ التفجيرين لم تحتمهما الضرورة العسكرية بل بالأحرى الذريعة السياسية: ضرورة إرسال رسالة إلى قيادة الاتحاد السوفياتي التوسعية وبقية العالم، والرغبة بإقناع الكونغرس بأنّ المبلغ 2.6 بليون دولار الذي كرّس لتطوير القنابل النووية لم يذهب سدى”.
وعليه فإنّ عملية من هذا الشأن كان لها أبعاد يراد أن يتردد صداها للسنين القادمة، وأهمها هو الحضور الأميركي القويّ في الساحة العالمية، وذلك كان تعبيرًا صريحًا عن تبنّي القيادة الأميركية للمعيار الأخلاقي الذي كان سائدًا وشائعًا بين برابرة العصور الوسطى كما عبّر “دوايت آيزنهاور”.
من المعروف أنّ عملية هيروشيما كانت في 6 آب 1945م، وعملية ناكازاكي في 9 آب 1945م، ولكن ليس معروفًا للجميع أنّ قبل هاتين العملتين جرى استهداف طوكيو بقنبلة ذرية أيضًا راح ضحيتها 100 ألفٍ من المدنيين وذلك في شهر آذار من العام نفسه الذي شهد باقي الهجمات.
أما عن عملية هيروشيما فيروي بيتر سكاون: “استهدفت هيروشيما التي قطنها 350 ألفًا من السكان لأنّ حجمها وتخطيطها يعنيان أنّ جزءًا كبيرًا من المدينة سيتضرّر” فيما لو ضربت بالنووي. على المستوى الماديّ، يظهر هذا الأمر أنّ الضربة كانت بسابق تخطيط لاختيار المدينة الأنسب لاستهدافها، بحيث يكون ضربها ذا أثر واضح على المستوى الحسّي، الأمر الذي يُظهر قوّة أميركا للعالم من حجم الدمار الذي ستتركه هذه القنبلة. أمّا على المستوى الثقافي “فقد اختيرت كايوتو لأنّها كانت مركزًا ثقافيًا لليابان والناس هناك أكثر ملاءمة لتقدير أهمية هذا السلاح”. وهذه الجملة كانت من ضمن البنود التي جرى الاتفاق عليها في لجنة مشروع منهاتن لتطوير الأسلحة النووية في 10 و11 أيار 1945م.
بعد الهجوم خرج ترومان ليخاطب شعبه قائلًا: سيلاحظ العالم أنّ القنبلة الذرية الأولى أسقطت على هيروشيما وهي قاعدة عسكرية وذلك لأننا أردنا تجنّب قتل المدنيين. وهذا الكلام هو محض كذب لأنّ هيروشيما لم تكن مدينة عسكرية أو قاعدة كما عبّر ترومان، بل هي مدينة يقطنها عدد كبير من السكان المدنيين، ولم يكن فيها سوى 40 ألف عسكري. وكان الأجدر بترومان أن يخبر شعبه أنّ هذه المدينة فضلًا عن كونها كانت مدنية، فقد محيت بالكامل، كما أنّ بعض سكانها لم يعد لهم أثر!
بحلول العام 1950م كان ما يقدّر بـ350 ألفًا قد توفوا كنتيجة مباشرة للإشعاع النووي في هيروشيما وناكازاكي، نصفهم قتل فورًا، والنصف الآخر مات ببطء بالسرطان وغيره من الأمراض.
لا بأس من ذكر أنّ هذه القنبلة كانت سببًا مباشرًا في إدخال العالم في دوّامة الحرب الباردة، حيث كان الاتحاد السوفياتي أمام إنذار لبداية صناعة ترسانته العسكرية لينافس أميركا، وليشهد العالم سباق تسلّح كما لم يحصل من قبل. كما وضعت القنبلة أميركا أمام إشكالية أخلاقية كبرى، وفوق كل هذا فإنّ هذا العمل سيبقى وصمة عار في التاريخ الأميركي، سيبقى عملًا وحشيًا كان فاتحة الأعمال الوحشية الأخرى التي جرت في العالم لأجل أهداف سياسية طائشة، بمعزل عن مرتكبها.
ربّما كلمة “هنري ستيمسون” وزير الحرب الأميركي حينها، والمسؤول عن توجيه الضربات النووية، تفي بوش إذا كال بالمكيال الموزون، حيث صرّح بعد قيام القوات الجوية بتدمير المدينتين بالكامل: “لم أرد أن تكون لدى الولايات المتحدة الأميركية سمعة تفوق هتلر في الأعمال الوحشية”، ولكن هذا ما حصل.