تعج وسائل التواصل الاجتماعي على اختلافها اليوم بحسابات “اللايف كوتش”، إذ وأثناء تصفح هذه المواقع، تظن نفسك للحظة أنك في عيادات نفسية افتراضية، تنهال عليك المحاضرات والنصائح والاقتراحات والتوجيهات من كل ناحية وصوب، بعضها قد يهمك أحيانًا وقد لا يهمك أحيانًا كثيرة.
“مدرب الحياة” مهنة جديدة غزت عالم التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة، واتخذت منه أرضًا خصبة للنشوء والانتشار، حتى بات لها أعداد هائلة من المتابعين والمتدرّبين، في مجالات الحياة كافة، بسرعة مخيفة وبتأثير كبير، يطرح بحد ذاته أسئلة عديدة عن حقيقة الكثير من هؤلاء “اللايف كوتش” وعن مؤهلاتهم وأهليتهم في “التدريب” ومدى تأثيرهم وجودة هذا التأثير على الرأي العام المتابع لهم.
الفجوة كبيرة بين الواقعية والافتراضية
يعرّف اللايف كوتش أو مدرّب الحياة مهنيًا بأنه “الشخص المؤهل علميًا ومهنيًا لتمكين العميل من تحقيق الذات، من خلال عملية التدريب، ويعمل على مساعدة العميل على تحديد هدفه والتدريب للوصول اليه، وتحسين ادائه عن طريق الاستماع والانصات الفعال، وطرح الأسئلة العميقة التي من خلالها يبدأ المستفيد في تحديد الطرق المناسبة له لتحقيق غايته”.
هذا التعريف الدقيق لمهنة “مدرب الحياة” يضعنا عند مفترق طرق، ويدفعنا فعليا للقيام بمقارنة حقيقية بين ما تعنيه وتتطلبه هذه المهنة وبين ما نشهده من ممارسة لها في العالم الافتراضي.
لا شك أن اللايف كوتش، هي مهنة متعددة الفوائد على المستوى الشخصي والمهني والاجتماعي والنفسي للأفراد والجماعات، ولا أحد يلغي دورها الفعال في توجيه ومساعدة وتدريب المهتمين للوصول إلى أهدافهم على اختلافها، ولكن الحقيقة الأدق أنه لا يمكن إطلاق هذه الصفة على كل من وجد نفسه توّاقًا لهذا المجال!
في بادئ الأمر، شهد هذا المجال إقبالًا كثيفًا من قبل جملة مدربين حصلوا على دورات وشهادات عن بعد من جهات معلومة ومجهولة، فحشدوا الجماهير حولهم ملوِّحين لهم بمفاتيح السعادة والنجاح، وقدموا لهم الحلول السريعة الجاهزة، جاعلين منها مصادر دخل لهم.
بعد ذلك توسعت مجالاتهم، وحققوا انتشارًا هائلًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وبالتالي شهرة كبيرة قائمة في الكثير من الأحيان على الوهم والخديعة، دون وجود أي شهادات علمية أو تراخيص من الجهات المعنية أو حتى مهارات شخصية ومعايير تتناسب مع ممارسي هذه المهنة. والجدير بالذكر أن العديد من هؤلاء المدربين، يطلبون أرقامًا مالية كبيرة “بدل أتعابهم” مقابل كل جلسة يقدمونها للمتدرب، الأمر الذي يأخذنا أيضًا إلى الجماهير الغفيرة المتماشية مع هذا الأمر، وإلى مستوى الوعي والنضج والإدراك الموجود لديها، والذي يدل في الكثير من الأحيان على السذاجة والسطحية واللا وعي وغياب النضج الفكري في التعامل مع هذه الظاهرة.
“اللايف كوتش” تتطلب معايير وشروطًا.. ووعيًا!
لا يمكن إنكار فكرة أن مهنة “مدرّب الحياة” لها أهلها وروّادها الذين أثبتوا عن علم ومهنية وكفاءة أن لهم تأثيرهم الإيجابي الفعال والصحيح على الرأي العام، وأن تسابق الجماهير للحصول على دعمهم ونصائحهم وإرشاداتهم هو أمر جيد ومهم في ظل ما يقدمونه من محتوى قيّم.
وفي هذا الإطار، وجب التمييز إذًا بين هذه النخبة من المدربين المتميزين، وبين غيرهم ممن يدّعون أنهم مدرّبون، فقط لمجرد امتلاكهم الوسائل والإمكانيات المادية وقدرتهم على الوقوف أمام الكاميرا والتحدث بعبارات مكررة ومتناولة من هنا وهناك. وهذا الأمر يتطلب مجموعة من الضوابط والإجراءات المرتبطة بالطرفين، بالمرسل والمتلقي، باللايف كوتش وبجماهيره.
في الشق الأول، لا بد من أن يخضع كل مدرّب لمجموعة من المعايير والشروط التي يجب أن تتوفر لديه للسماح له بممارسة هذه المهنة، أقلها الشهادة العلمية والدورات التدريبية المرخصة والمصادق عليها رسميًا فضلًا عن الكفاءة والخبرة اللازمة في هذا المجال. وفي هذا السياق لا بد من وجود لجان خاصة -إذا ما أردنا الحديث عن نقابة- قادرة على تقييم أداء كل من يريد خوض هذا المجال وإعطاء الموافقة له أو عدم إعطائها.
ومن جهة أخرى، تقع المسؤولية أيضًا على الجماهير التي بات معظمها يتماشى وينجرف مع السيل، جاعلًا من هؤلاء “اللايف كوتش” قدوة ومرجعًا لهم في أيٍّ من شؤون حياتهم وفي كل المجالات دون استثناء، دون وعي وإدراك لمدى صحّة هذا الأمر، وبالتالي خطورته في الكثير من الأحيان على قرارات الأفراد وحياتهم، وحياة الأسر والمحيط والبيئة وبالتالي المجتمع ككل.
إن حياتنا وقراراتنا ومصيرنا تحدد بإرادتنا، ووعينا ومصلحتنا الذاتية قبل كل شيء، وما نشهده اليوم ما هو إلا تفويض افتراضي لأفراد غير معروفين، كي يوجهوا حياتنا بطريقة توهمنا بالسعادة، وتسلب ما في جيوبنا، لذا كونوا على قدر من الوعي، وإن أردتم أن تطلبوا توجيهًا ودعمًا وتطويرًا لحياتكم وأهدافكم، فإطلبوها من أصحاب الخبرة والجدارة، لا ممن يبني لكم أحلامًا افتراضية.