رسالة إلى المدعو سمير جعجع..

تُفتتح الرسائل بالتحيّة عادة وبالسّلام، لكن هذا “البروتوكول” ليس ملزِمًا حين يكون المخاطَب أنت، بكلّ ما يرافق اسمك من مشاهد في الذاكرة. ولأنّ توجيه التحايا إليك سيكون نفاقًا، ولأن النّفاق ليس من شيم الكرام الأحرار الحافظين لذاكرة بلادهم وللتاريخ، فلا تحيّة لك ولا سلام عليك.

أما بعد، وبما أنّك بعد الحبس مدانًا بأحكام قضائية منشورة وموثّقة وقليلة نسبة للوائح ارتكاباتك كما يسردها العديد ممّن كانوا معك، امتهنت رفع الشّكاوى والدعاوى القضائية بحقّ الناس بغية إسكات الناطقين بالحقّ في ما يخصّ شكل ومضمون حركتك السياسية بعد العفو الذي لا يسقط عنك إدانة ولا يغسل عار تاريخك، وبما أنّك تحاول تظهير الخلاف السياسي الوطني الأخلاقي الإنساني معك وكأنّه مجرّد نزاع قانوني، وبما أنّك تسعى لصناعة مشهد ترهيبي عبر القضاء، بحيث تدفع الناس إلى اجتناب تتبّع خطواتك والتذكير بتاريخ هذه الخطوات وارتباطاتها القديمة-الجديدة، أو تعتقد واهمًا بأنّك ستخيف الناس بالدعاوى القضائية، على اعتبار أنّ ما يخيفك يُخيف الآخرين.

وبما أنّ حريّة الرأي هي أمر أقرّته الشرائع وحفظته الأديان وكفلته القوانين، ولا يُستثنى منها إلّا من استخدمها لتبرير الخيانة أو لدسّ سمّ الارتكابات الدموية في سياق عسلها، فيمكن القول بكل ثقة، أنّ مَن كان مثلك ينبغي أن يخجل حتى من ممارسة حرية الرأي، ومثلنا حرّ في توصيفك وفي تعرية مواقفك وفي تحليل ارتباطاتك التي مهما حاولت تلميعها وتجميلها، مكشوفة الدمامة والقباحة.

وبما أنّ الأمر بيننا كأحرار شرفاء وبينك، كمجرم مدان لم يكفّ ولم يتلُ فعل ندامة ولم يتراجع، ليس مجرّد نزاع قضائي على تفصيل ورد في مقال، أو على رأي حسبته جارحًا وهو أقلّ الواجب بحقّك وبحقّ من مثلك، أو على توصيف وجدته أو وجده محاموك ذمًّا لك بما ليس فيك، فكلّ المكتوب وكلّ ما قد يُكتب لا يفي جرائمك حقّها ولا يصل عتبة الوصف الدقيق لما ارتكبت وما ترتكب.

وكي لا نذهب عميقًا في الذاكرة، دعنا نقف عند الطيونة قليلًا. في الأرض دمنا المغدور، وعند الشرفة، أمّ منّا لم تعد تقف هنا لتنتظر باص مدرسة صغيرتها. ما بيننا، أيّها الجعجع، لحظات غدر تباهى بصناعتها رجالك، ولهول بهجتهم بما فعلوا فضحوك، أو ربّما دعوتهم إلى فضحك عسى تفلح بشدّ عصب داخل بيئتك أو بترهيب أحرارها أو بتبليغ معلّميك ومشغّليك أنّك لم تزل قادرًا على ارتكاب المجازر. على كلّ، المسألة في القضاء الذي لم يقل كلمته الأخيرة بعد بشأن الطيونة، والذي تريده ساحة نزاع بينك وبين من يعرّي ارتكاباتك.

وإن شئت عدم الخوض في حديث الدم، وعزله عن فحوى النزاعات التاريخية بين مَن مثلنا ومَن مثلك، واعتبار “الخلاف السياسي” هو خلفية النقاش “القانوني”، فالأمر، يا جعجع، أعقد من ذلك بكثير، “it’s complicated” على طريقة منصات التواصل في توصيف العلاقات المعقّدة.

مَن مثلنا ينزله الدهر كثيرًا حين يرد اسمه بمقابل اسمك ولو في ورقة قانونية. ومَن مثلنا، يمتلك من نور الشفافية ما يكفي ليكشف ظلمة خلفياتك. مَن مثلنا يدرك أنّ الحقّ الذي يُسكّت مرّة يفقد صوته للأبد، فلا نسكت. ومن مثلك يتوهّم أنّ سبل إسكات الحقّ تنجح في محو الذاكرة والتاريخ وتفيد في إخفاء معالم الحاضر. كلانا ينظر على بعد جيلين أو أكثر؛ أنت تريد جيلًا يصدّق أنّك “رجل سياسة” وأنّ ارتكاباتك المروية كانت حكاية اختلقها رأي آخر، ونأبى أن نسمح لأحد بالكذب على الأجيال. هو واجبنا ليس فقط كصحفيين، فمنطلقاتنا أعلى وأنقى: دوافعنا في كشفك بكل مناسبة هي دوافع أخلاقية، فالمرتكِب يُشار إليه بالبنان في كلّ حين، وهي دوافع إنسانية، فلا يرتقي المرء بإنسانيّته إلّا حين ينتصر للحقّ، ولو كان ثمن ذلك القتل، وليس فقط “دعوى قضائية”. وهي دوافع سياسية، لأنّ ما تسمّيه خطّك السياسي، تاريخًا وحاضرًا، والمتسم بالتبعية وباللا سيادة وباللا كرامة وطنية وبالغدر وبالدموية، لا يمكن أن يكون إلّا في الضفّة التي سنصوّب نحوّها كلّ كلماتنا.

قلتَ يومًا أن “القلم رْصاص” وقلمنا سيبقى رصاصًا موجّهًا نحو صدر خطّك ونهجك، رصاصًا تتكفّل بصون حقّ اطلاقه القوانين، التي لا نتخطاها، والتي أبدعتَ دومًا في تخطّيها بأبشع الأساليب.

اساسيالطيونةسمير جعجعلبنان