ستّار محمودي* – خاص الناشر
التاريخُ يُكرِّرهُ بوتين. قبل أربعة عقود، زحف الاتّحاد السوفييتيّ -في خطأٍ استراتيجيٍّ- إلى أفغانستان، باعتباره قوّة عظمى في الشّرق، في محاولةٍ للحفاظ على نظامه الشّيوعي، ما عجّل في تفكّكه وتشرذمه. في حرب أوكرانيا، لم يُحقّق الجيشُ الرّوسي أهدافه أيضًا بسبب حصول أوكرانيا على أسلحةٍ غربيّة-أمريكيّة، ونتيجة لذلك، تضرّرت صورةُ البلاد الدوليّة بشدّة. إنّ عدم كفاءة الرّوس جعل المُحلّلين يعتبرون الحرب في أوكرانيا شبيهةً بالحرب في أفغانستان، ويتحدثون مرّة أخرى عن التفكّك الرّوسي. ومع ذلك، هناك أسبابٌ قويّةٌ تدعو الأمريكيّين إلى عدم تكرار التاريخ وتمزيق أوصالِ روسيا في حربها الحاليّة.
يجب على الأمريكيّين العِلم بأنّ النّظام الدّولي اليوم يختلفُ جوهريًّا عن النّظام الدّولي في زمان انهيار الاّتحاد السّوفييتيّ، ولم يعد منطق لُعبة «المُحصّلُ الصّفري» يحكم هذا النّظام؛ والّذي ينصّ على أنّ فوز أحد الأطراف (أمريكا) يعني بالضرورة خسارة الطّرف الآخر (السّوفييت). فمنطق لُعبة النّظام الحّالي يُخبرنا أنّ تفكّك روسيا لن يؤدّي إلى عدم انتصار الولايات المتحدّة فحسب، بل سيُضرُّ بهذا البلد على المدى الطويل. بعبارة أخرى، إنّ أفضل قرارٍ يُمكن أنْ تتّخذهُ أمريكا هو إضعاف روسيا والقضاء على قوّتها الهجوميّة، وليس إقصاءها من المُعادلة العالميّة.
تعزيز مزدوجٌ للصّين في النّظام الدّوليّ
السّبب الأوّل الّذي يمنع “سعي واشنطن إلى انهيار روسيا” هو التعزيزُ المُزدوجُ للصّين في النّظام الدّولي. فعلى رغم مجاورة الصّين وروسيا لبعضهما بعضًا، إلاّ أنّ علاقة البلدين يحكمها جوٌّ من عدم الثّقة. بالنظر إلى وضعهم الجيوسياسيّ، ونظرتهم التاريخيّة الخاصة اتّجاه الغرب منذ القرن السادس عشر فصاعدًا، حدّد الرّوس موقعًا مُتفوقًا على الصّين في النّظام الدّولي. فهم يَعدّون أنفسهم الحضارة الشرقيّة الوحيدة التي تمكّنت من الصّمود أمام الغرب، والحفاظ على تقاليدهم الشّرقية. وبناءً عليه، فإنّ الدّول التي تُخالف التّفكير الغربي ترى نفسها مُتماشيةً مع سياسات روسيا. بيد أنّ ناقوس الخطر الرّوسي قد دقّ، بسبب النّمو السّريع للصّين في العقود الأخيرة، والمُترافق مع نظرة صينيّة خاصة اتّجاه العالم.
قبل الحرب، سعى الرّوس إلى خلق مساحةٍ لإدارةِ سلوكِ بكين والدّول الحليفة اتّجاههُم. لكن في حالِ تفكّك روسيا، لن يكون أمام حُلفاء موسكو خيار سوى اللّجوء إلى الصّين، التي ستتلقى بدورها الدّعم السّياسي منهم، فاكتساب الصّين قوّة في النّظام الدّولي وازدياد حُلفائها لن يُفيد أمريكا بأيّ شكل من الأشكال.
تتنافس الصّين وروسيا أيضًا في مجال التّقنيّات العسكريّة والتّكنولوجيّة. فقبل اندلاع حرب #اوكرانيا ، لم تُبدِ #موسكو اهتمامًا كبيرًا بالتّعاون مع الصّين في هذا المجال، وبينما كانت بكين تبحثُ عن شراء مُقاتلات “سوخوي 35” وأنظمة “S-400″، كانت موسكو تُقابِل طلبها بالرّفض. وبسبب عدم تحقّق النجاح المنشود وإضعاف مكانتها في النّظام الدّولي، وافقت روسيا على تزويد الصّين بهذه الأسلحة المُتطوّرة. في حال استمرّ الوضع على هذا النّحو وحدث الانهيار، يُمكن للصّين الحصول على جزء كبير من التّقنيّات العسكريّة الرّوسية، مثل الصواريخ الباليستيّة والغوّاصات النوويّة وطائرات الجيل الخامس، عن طريق رشوة الجنرالات الرّوس والأوليغارشيّة، وهذا ما قد حدث سابقًا، ورُبما يُضيف ميزةً مُهمّة للغاية للصّين ضدّ الولايات المُتّحدة في الحرب بين القوى العُظمى.
في مجال الطّاقة، يمكن للصّين أن تستفيد بشكل كبير من انهيار روسيا، فتصبح مستقلةً في تأمين إمدادات الطّاقة إلى حدّ كبير؛ إذ تقع جميع حقول النّفط والغاز الرّوسيّة تقريبًا في الشّرق وبالقُرب من الصّين. فإن حدث الانهيار، ستكون حصّة بكين من هذه الحقول أكبر من حصة الدّول الغربيّة الأخرى المُنافِسة، وبالأخص الولايات المُتحدّة. كما تجدر الإشارة إلى أن الجزء الشّرقي من روسيا يقعُ أساسًا ضمن المناطق المُنحدِرة من أصول تركيّة ومنغوليّة، والتي لا يملك أصحابُها خبرةً كافيةً في بناء الدّولة والحُكم، ونظرًا لميزة قرب الصّين من هذه المناطق، فقد تضمُّها إليها، وتسدّ حاجتها من الطاقة. إنّ تأمين جزء من حاجة الصّين للطّاقة سيعني إزالة “عقب أخيل” من طريقها، وستفقد واشنطن إحدى أوراقها الرئيسيّة لاحتواء الصّين. لذا؛ إنْ أرادت أمريكا الحفاظ على مكانتها في النّظام الدّولي، فعليها أن تمنع تفكّك روسيا وتتجنّب تقديمها كهدية على طبق من ذهب إلى الصّين.
حلف شمال الأطلسي والنّفوذ الأمريكي في أوروبا.. إلى زوال!
المشكلة الأخرى التي يخلقها الانهيار الرّوسي المُحتمل للولايات المُتحدّة هي فقد ذريعة وجود «النّاتو» في أوروبا وتقليص نفوذ أمريكا هناك. فمن المعلوم أنّ “التّعامل مع التّهديدات السّوفييتيّة ضد أوروبا الغربيّة” كان السّبب الرئيسيّ لإبرامِ مُعاهدة «النّاتو»، ومنه اكتسبت أمريكا، التي كانت أحد مُؤسّسي هذا التّحالف، نفوذًا كبيرًا لدى الحكومات الأوروبيّة، من خلال التّحذير من تهديدات الاتّحاد السّوفييتيّ الهجوميّة ضدّ أوروبا على مدى عدة عقود. بعد انهيار الاّتحاد السّوفييتيّ واستبداله بـ «روسيا»، وتزامنًا مع نفس التّهديدات السّابقة، ولكن على نطاقٍ أصغر، احتاج الأوروبيّون مرّة أُخرى إلى مِظلّة داعمةٍ من حلف شمال الأطلسي وعلى رأسهِ أمريكا. بعبارةٍ أخرى، في السّنوات الّتي وجّه فيها بوتين المزيد من التّهديدات لأوروبا، تعزّز موقف أمريكا ونفوذها داخل الحكومات الأوروبيّة؛ إذ عَدّت “أمريكا” القوّة الوحيدة القادرة على إنقاذ أوروبا، مُعتمدةً على مواردها العسكريّة والاقتصاديّة، في حال نشبت الحرب مع روسيا. اليوم، وبعد استبعاد روسيا من المعادلات العالميّة، سيزول عامل خوفِ الحكومات الأوروبيّة، ولن تبقى مُنصاعةً للسّياساتِ الأمريكيّة.
حاليًّا، يبدو أنّ هناك أعضاء مؤثرين داخل «الناتو» قد فقدوا الرغبةَ في اتّباع السّياسات الأمريكيّة، ومنهم «فرنسا». نذكر مثالًا على ذلك ما حصل في عام 1966، إذ انتقد الرئيس الفرنسيّ “شارل ديغول”، سياسات الولايات المُتحدّة، وانسحب من القيادة المُشتركة لـ «الناتو»، وأعلن أنّه في حالة نُشوب صراعٍ مُحتمل بين الولايات المتحدّة والاتّحاد السّوفييتيّ، فإنّ بلاده لن تكون مُستعدة لتحمّل تكاليف الدّفاع عن مصالح الولايات المُتحدّة. ورغم انضمام فرنسا مجددًا إلى «الناتو» في عام 1999، إلّا أنّ همساتٍ مُتداولةً في الأروقة الفرنسيّة علَت لترك «النّاتو»، تحت إمرةِ “ماكرون”. فقد شبّه “ماكرون” النّاتو بشخص ميتٍ دماغيًا وحياته انتهت عمليًا.
ضربت تصريحات “ماكرون” الحادّة جذورًا في السّلوك الأمريكيّ اتّجاه فرنسا وأوروبا، فإبرام اتّفاقية «أكوس» الأمنيّة بين أستراليا وبريطانيا والولايات المتّحدة (بدون وجود أوروبا وأعضاء النّاتو الآخرين)، ثم إلغاء عقدٍ بقيمة 66 مليار دولار لشراء أستراليا غوّاصات من فرنسا، كانا سببين شجّعا فرنسا بقوة على امتلاك نظرة تشاؤمية بشأن “النّاتو”. في الوقت نفسه، علّقت صحيفة «نيويورك تايمز» على ما حدث بأنّ الفرنسيّين لن ينسوا الصّفعة الأمريكيّة أبدًا.
على الرغم من أنّ هجوم روسيا على أوكرانيا أخفى هذه الخلافات لفترة قصيرة من الزمن، لكن بعد الحرب، وفي حال لم يكن هناك خطر من قِبل روسيا، فإنّ فرنسا ستُصبح أوّل دولة تُغادر «الناتو». الدّولة الثانية ستكون “ألمانيا”، إذْ تعرّض الألمان لضغوط أمريكيّة شديدةٍ لإرسالِ دبّابات “ليوبارد”، ورأوا بأُمّ العين تدمير فخر صناعتهم في أوكرانيا. بعد خروج ألمانيا وفرنسا، ستنسحب بعض الدول الأوروبية من الناتو كالـ “دومينو”. والآن، إنْ أرادت أمريكا تقسيم روسيا وتدميرها، فستغدو المُسبِّب لموت «الناتو»، كما في خطاب “ماكرون”.
استخدام القنابل الذريّة التكتيكيّة وبدء الحرب النوويّة
إنْ أوشكت روسيا على الانهيار، فإنّ احتمال استخدام بوتين للقنبلة النوويّة سيكون مرتفعًا للغاية. فالهدف النّهائي لأيّ دولة في النّظام الدّوليّ هو الحفاظ على بقائها. في حال توصّل الرّوس إلى نتيجة مفادها أن أمريكا قررت تدميرهم، فسوف يبذلون قصارى جهدهم لمنع هذا الأمر. إنّ استخدام السّلاح النّووي هو آخر وأخطر قرارٍ يمكن أن يتّخذه الرّوس. في المرحلة الأولى، يُمكنهم استخدام القنابل النوويّة التكتيكيّة للانتصار في الحرب. تُعدّ هذه القنابل من بين الأسلحةِ التي تُستخدم في العمليّات الحربيّة العاديّة، وتتميّزُ بقوّة تفجيريّةٍ عالية. يُمكن للسّلاح النوويّ التكتيكيّ أن يكون بنفس قوّة القنبلة النوويّة التي أُسقطت على “هيروشيما” أو أكثر. تمتلك روسيا حاليًا ألفيْ قنبلة نوويّة تكتيكيّة.
سيُواجه الرّوس ردود فعل مختلفة بعد الانفجار النوويّ الأوّل، وردّ الفعل الأول: إعلان الحرب من قبل أمريكا والناتو، ولن ينتج عن هذا الإعلان سوى حربٍ نوويّةٍ بين القوى العُظمى. سيشنّ الرّوس هذه المرّة، كما أوضحوا في وثيقتهم الاستراتيجيّة الدفاعيّة لعام 2018، ضرباتٍ نوويّة أكبر للحفاظ على وجودهم، وسيشهدون هجماتٍ مُضادّةً أيضًا. هذا سيعني تدمير البشريّة والكوكب. ردّ الفعل الثاني لأمريكا قد يكون إنهاء الحرب وعدم الرّد على روسيا لمنع الحرب النوويّة. في هذه الحالة، وعلى الرّغم من بقاء روسيا، سيصبح هذا الإجراء إذنًا خطيرًا لاستخدام دول أخرى للقنابل الذريّة التكتيكيّة في النّزاعات الإقليمية. دول مثل باكستان والهند، وكذلك كوريا الجنوبيّة وكوريا الشماليّة، التي بينها عداوة عميقة، وستتّخذ مثل هذا القرار الخطير إذا شعرت بالانهيار. ولا يبدو أنّ الولايات المُتّحدة تُرحّب بالحرب النوويّة وتدمير البشريّة!
على أيّ حال، لا شكّ في أنّ الرّوس ارتكبوا خطًا فادحًا بهجومهم على أوكرانيا، ومنحوا أمريكا فرصتها التاريخيّة. لكن يجب على الولايات المتّحدة أن تعلم أنّ غرز الخنجر في قلب روسيا وانهيارها لن يفيدها بأيّ شكل من الأشكال، وبدلًا عن ذلك، يجب أن تسعى إلى إضعاف القوّة الهجوميّة الروسيّة، لأنّ هيكل النّظام الدّولي اليوم يختلف اختلافًا جوهريًا عن حقبة انهيار وتفكك الاّتحاد السّوفييتيّ. اليوم، لم يعد منطق لُعبة “محصّلتُها صفر”، في حقبة الحرب الباردة، يُهيمن على جوّ النّظام الدّولي، فأمريكا في النظام الحاليّ ليست القوّة العالميّة الوحيدة، فهناك منافس قويّ مثل الصّين يحاول تجاوزها. وبعد أنْ أُصيبت أوروبا بخيبة أمل شديدة من «الناتو» تحت هيمنة الولايات المتّحدة، ومع إزاحة روسيا، ستسعى بالتأكيد إلى الحدّ من نفوذ الولايات المتحدة. وأخيرًا، هناك احتمال في أيّ لحظة لبدء روسيا حربًا نوويّة للحفاظ على وجودها. أليست هذه الأسباب كافية للبيت الأبيض لتجنّب انهيار روسيا الكامل وتفكّكها؟
*باحث إعلامي إيراني