في عالم قائم على أسس التغير الدائم والمفاجئ، وفي واقع اقتصادي عالمي متقلب ومتبدل على نحو مستمر، يقع الدولار كما غيره من “العملات الصعبة” في حلبة الصراع ما بين الصعود والانخفاض، ما بين استمرارية الهيمنة على التبادل التجاري العالمي وتراجع هذه الهيمنة، في حالة من المنافسة الشرسة مع العملات الأخرى التي تحاول بين الفينة والأخرى التفلّت من قيود هذه الهيمنة.
وفي هذا الإطار، فإنه من الطبيعي والمنطقي أن تكون التحليلات والآراء الاقتصادية حول مستقبل الدولار الأميركي مختلفة في الكثير من الجوانب، وبالتالي في النتائج والتوقعات، إذ فيما يجزم البعض أن مؤشر الدولار الأميركي مقابل العملات الأجنبية الأخرى هو في تراجع مستقبلًا، يرى البعض الآخر عكس ذلك، وأن زمن الهيمنة لم ينته بعد، بل هو مستمر وفي مرحلة صعود.
النظرية الأولى: الهيمنة “الدولارية” مستمرة على الساحة العالمية
لم تتوحد التحليلات والمعطيات الاقتصادية الصادرة عن الجهات الأميركية وغير الأميركية في إعطاء رأي حاسم متعلق بمستقبل “الورقة الخضراء”، وبالتالي فإن احتمالية تصاعدها وسيطرتها لا تزال فعليًا قائمة.
في هذا السياق، يعزو العديد من الخبراء والاقتصاديين هذا التوقع إلى عوامل عديدة، يأتي في مقدمتها شاهد أساسي، ألا وهو أن جميع عملات مجموعة العشرة، وهي الدول ذات الاقتصادات الكبرى والعملات القوية، شهدت خلال الفترة الأخيرة تراجعًا حادًا مقابل الدولار الأميركي، وأبرز هذه العملات كان “اليورو والفرنك السويسري”.
بالإضافة إلى ذلك، يلجأ هؤلاء الخبراء إلى عوامل أخرى لتدعيم آرائهم، ومنها أن قيام البنك المركزي الأميركي بمواصلة رفع الفائدة سيكون عاملًا أساسيًا في مواصلة صعود الدولار أمام العملات العالمية الرئيسية، نظرًا لزيادة الطلب عليه المتوقع حدوثها، فضلًا عن أن ضعف الاقتصادات العالمية مقارنة بالاقتصاد الأميركي سيكون من أهم العوامل التي ستدعم قوة الدولار، لأن المستثمرين من أنحاء العالم سيتدفقون لشراء الأصول الأميركية بحثًا عن العائد الدولاري.
ومن جهة أخرى، يرى الخبراء أيضًا أن الدور الذي يلعبه #الدولار في احتياطات البنوك المركزية يشكل عاملًا أساسيًا داعمًا له، إذ إنه صاحب النصيب الأضخم في احتياطات هذه البنوك بالعملات الصعبة، وقد ارتفعت حصة الدولار من إجمالي احتياطات البنوك المركزية إلى 6.63 تريليونات دولار، في نهاية الربع الثالث من العام الماضي 2022.
ويضيف الباحثون أيضًا عاملًا مهمًا، وهو الدور الذي يلعبه الدولار كعملة “ملاذ آمن” في أوقات الحروب والأزمات المالية والاضطرابات السياسية، ومثالًا على ذلك، هروع المستثمرين إلى حماية أموالهم من الخسائر بشراء الأصول الدولارية حينما اندلعت الحرب الروسية في أوكرانيا.
النظرية المقابلة: سطوة الدولار نحو التراجع والهبوط
على خلاف الرأي السابق، يرى خبراء ومحللون اقتصاديون آخرون، أن زمن تراجع الدولار قد بدأ فعليًا، وقد انطلق هؤلاء في تحليلاتهم من عوامل عديدة ومصادر متشعبة.
ووفقًا لأصحاب هذا الرأي، من المرجح أن يتجه الدولار الأمريكي إلى الانخفاض في عام 2023 بعد أن سجل ارتفاعات قياسية مقابل كل العملات الرئيسية في العام السابق، مع تعافي الأسواق الناشئة وتراجع التضخم، فضلًا عن أن الظروف في الأسواق الناشئة تتحسن مع تخفيف قيود كوفيد في الصين، كما أن تحسن العلاقات بين أوروبا والصين، إلى جانب الاقتصاد الياباني القوي، ستدعم أيضًا الأسواق الناشئة.
ووفق تصريح صادر عن المجموعة المالية “هيرميس”، فإن” العقوبات الأمريكية ضد روسيا قد تستخدم في المستقبل ضد دول أخرى، مما يدفع البعض إلى عدم الاحتفاظ بالدولار الأمريكي”.
بالإضافة إلى ما ذكر، فإن ما نشهده حاليا من مشاريع إيجاد بديل عن الدولار الأميركي في المعاملات التجارية بين الدول، بإمكانه أن يهدد عرش الدولار مستقبلًا، فقد قامت كل من البرازيل والأرجنتين، روسيا وإيران، الإمارات والهند، والصين منفردةً بإيجاد أو بالعمل على إيجاد عملات جديدة خاصة بها في المعاملات والتبادلات التجارية القائمة بينها، “كالروبية الهندية، اليوان الصيني”، فضلًا عن العملة المشفرة المدعومة بالذهب التي تسعى روسيا وإيران إلى اعتمادها مستقبًلا.
أمام كل هذه المعطيات لم تتضح الصورة بعد إذًا، إذ في الوقت الذي يرى فيه البعض أن عرش الدولار الأميركي لا يهتز بسهولة ولا تحت أي تأثير، يجد آخرون أن التخلص من هذه الهيمنة ممكن جدًا، في ظل وجود بدائل قادرة على تفكيك الارتباط بالدولار الأميركي، واعتماد عملة موحدة بين جميع الدول، والأهم من كل ذلك، التخلي التام عن كون العملة الأميركية هي المرجعية الأساسية لها.