إذا أحطنا بمشهدٍ بانورامي يوضّح مسيرة أمّة حزب الله منذ انطلاقتها في أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ولغاية يومنا هذا، نجد أنّ المسار التصاعدي لهذه الأمّة لم يخفق يومًا، ولم يدل مؤشّر تنامي حركية هذا المجتمع بما يشير لمنعطفٍ سلبيّ بارز، رغم الكثير من التحديات الداخلية، إذ إنّ النظر لهذا التنظيم والأمّة التي تحتويه وترحّب بوجوده بما يحمله من أفكار وأيديولوجيا، لا بدّ من أن يكون في سياقِ الأهداف التي نشأ كلاهما على أساسها، والتي تختصر في مقولة قادة هذا التنظيم “إزالة إسرائيل من الوجود”.
هذا الهدف كان يستتبعه اتخاذ القرار بالمواجهة، مع العلم أنّ هكذا خيار سيثمر وجود تضحيات جسام كتقديم الشهداء والجرحى، وقد يخلّف في طيّات يومياته آثار الدمار والحرب، ولكن كما أنّ هذه الصورة ستكون حاضرة لدى قيادة وأمّة المقاومة عند اتخاذ القرار، فكذلك سيحضر في تصوّرها ونتيجة للاعتقاد الذي تحملانه، أنّ الدمار سرعان ما سيرممه النصر، والحرب وشقاؤها ستزيلهما صورة العدوّ المدحور من أرضها. وهذه الصور ليست خيالًا كان أحد قادة الأمّة يبالغ في تظهيره بشعاراتٍ وخطابات، وإنّما كانت حقيقة تعرضها “السنن التاريخية الحاكمة على المجتمعات” إذ تقول أنّ كل من يعتدي سيأتي له يوم يطرد ويهزم، بشريطة قيام المعتدى عليهم، وأن لا يبقوا سجناء الضعف والخمول والجلوس في أزقّة البيوت المحتلة.
أُخذ خيار المواجهة وبدأت عمليات التحرير منذ أوّل عملية في 1982م بتفجير مقر الحاكم العسكري الإسرائيلي في صور. وكانت هذه العملية تأشيرة الدخول إلى ساحة الجهاد، فالجهاد في نظر التنظيم هو أعم من القتال، الذي كان موجودًا بالفعل، فالأوّل يتعدّى كونه عملًا عسكريًّا فقط، وهو له خصائصه وبنيانه الخاص. ومنذ العملية الأولى وحتى يومنا هذا كانت جميع الأعمال –العسكرية أو غيرها- مبنية على الجهاد في سبيل الله.
كسر خطّ العدوّ الأوّل، ثمّ الثاني، وفتحت في وجه المقاومة كل الطرق المسدودة، ووصلت إلى آخر حبة تراب عام 2000م في جنوب لبنان لتحررها وتضمّها إلى باقي حبّات الوطن، ليكتمل بذلك عقد التحرير والاستقلال.
ما وصلت إليه المقاومة من النصر، كان مكلّلًا بعناصر أخرى غير الجهاد، أو لنقل كانت رفيقة الجهاد وأحد لوازمه لتحقق النصر الإلهي. وكان أوّل هذه العناصر الأخلاق، فالمقاومة لا تقوم بعملٍ لا تضمن صحته على المستوى الشرعي، لذلك تتوقف عملية مثلًا لوجود مدنيين كما حصل في الكثير من الأحيان.
العنصر الثاني كان وجود القائد، وهذا الأمر من أمّهات نجاح أي عمل لحزب صغير أو فريق، فكيف بأمّة لها مشروعها، ويطوّقها عدوّها؟ فيلحظ منذ تأسيس حزب الله، وولادة صحوة الأمّة، وجود قائد يوجّه مسارها، ويجمع رأيها. إلّا أنّ وجود هذا القائد لا بدّ من أن يتكامل بوجود من يعمل تحت إمرته، مطيعًا له، وهذا الأمر أيضًا رافق مسيرة أمة حزب الله، فلم تسجّل حالات تمرّد هنا أو هناك، بل الكل كان مجمعًا على خيار مواجهة الاحتلال وضرورة إنهاء وجوده، والكل كان مجمعًا على ممارسة الجهاد لله وفق التزامات الشريعة الإسلامية التي تفرض قيودًا لا بدّ من أن يلتزم بها أي مجاهد، وأوّلها طاعة القائد.
العنصر الأخير هو الروحية، فمن منّا لم يسمع كلام الحاج عماد مغنية: “اللي بتقاتل فينا هيي الروح”؟ وكلام الحاج هذا نابعٌ من الاعتقاد الديني الموجود لدينا والذي يعطي الجانب المعنوي هامشًا واسعًا في حركية الإنسان، بل ويعد أصلًا أساسيًا، يقدّم على المادة، طبعًا هو لا يلغيها، ولكن يتفوّق عليها، لأنّ سرّ الانتصار كما سبق ذكره يكمن بالجهاد، والجهاد له خصائصه كالإيمان مثلًا، ولذلك العمل العسكري وحده غير كاف، بل يحتاج لتلك الروحية الإيمانية.
وبالفعل، لولا هذه الروحية لما وصلت المقاومة لما وصلت إليه اليوم، ولكانت توقّفت عند أوّل منعطف تمر به، ولكن من يحمل الروح التي تتحمل جراح الجسد، يستمر حتى يبلغ الهدف ولا يتعب، ويسير بلا توقّف حتى يدرك زمن النصر، ولا يُدرك النصر إلّا بالروحية في زمن الحرب.
الجدير بالذكر أنّ الروحية تنتج روحية، حيث نشأت تحوّلات كبرى في المجتمع نتيجة مجموعة صغيرة اتخذت “قرار 1982م” فتحوّلت الروحية الأولى من جرّاء الشهداء والجرحى إلى ثورة ثقافية أحدثت تغييرًا هائلًا في عقل الأمّة. من ينكر مثلًا أنّ صحوة الأمّة لم ترتفع بعد عملية أحمد قصير؟ ومن ينكر أنّ سمير مطوط لم يزل غبار البؤس عن بعض القلوب والعقول الضعيفة، وأنّه أشعل فيها حب الحرية من جديد؟ ومن ينكر أنّ الحاج عماد مغنية وابنه جهاد صارا أيقونة مجتمعٍ بأكمله، بعد أن كان الشهيد صورة فقط تعلّق على حائط الحي؟
لقد انتصرنا بروحٍ تحمل البندقية…