لا يوجد فرق كبير بين استمرار الحرب أو انتهائها على اقتصاد إسرائيل. فحتى لو انتهت الحرب في صيف العام 2024، بات هناك قناعة بأن إسرائيل لم تعد «مكاناً آمناً». والواقع أن الاقتصاد لن يسجّل نمواً لافتاً، ولن تنخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي، ولن تتراجع معدّلات الفائدة أقله في المدى القريب. إذ قد يعاني الاقتصاد الإسرائيلي من ركود وهجرة عكسية وتقشّف لسنوات، وبما يذكّر بـ«العقد الضائع» من النمو الذي عاشته إسرائيل بعد حرب أكتوبر في العام 1973.
هذه الخلاصات يستعرضها تقييم أجراه معهد دراسات الأمن الوطني الإسرائيلي لما قد تؤول إليه سيناريوهات مختلفة من الحرب على الاقتصاد الإسرائيلي. بمرور أكثر من 10 أشهر على بدء حرب الإبادة الجماعية على غزّة، يقول معهد دراسات الأمن الوطني الإسرائيلي إن دولة الاحتلال «تقف عند مفترق طرق، فإمّا أن تستمرّ في حربها المحصورة على قطاع غزّة، أو تتوسّع ضدّ إيران ومحور المقاومة… ولكلّ خيار عواقب اقتصادية كبيرة ومختلفة، ستعاني إسرائيل من أضرار اقتصادية طويلة الأجل، والانخفاض المتوقع في معدّلات النمو في جميع السيناريوهات سيؤدّي إلى تفاقم خطر الركود الذي يذكّر بالعقد الضائع بعد حرب يوم الغفران (حرب أكتوبر 1973)».
ثلاثة سيناريوهات للحرب
يبني «معهد دراسات الأمن الوطني» الإسرائيلي استنتاجاته على ثلاثة سيناريوهات لاستكشاف التأثيرات المحتملة على اقتصاد إسرائيل. في السيناريو الأول تواصل إسرائيل حربها في قطاع غزة بدرجات متفاوتة من الشدّة، ويستمر القتال على الجبهة الشمالية في شكله الحالي، بمعنى استمرار تبادل إطلاق النار اليومي ولكن دون أي تصعيد كبير. أما في السيناريو الثاني فيحصل تصعيد في جبهة الشمال حصراً – من دون فتح جبهات أخرى – لفترة قد تستمر لشهر. وفي سيناريو يتم التوصّل إلى اتفاق لوقف إطلاق نار يتضمّن إطلاق سراح الأسرى وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزّة، وبالتالي وقف القتال على الحدود الشمالية. على أن يتبعه في الأمد القريب اتفاق ينسحب بموجبه حزب الله إلى ما وراء نهر الليطاني، ما يسمح لسكان شمال إسرائيل بالعودة إلى منازلهم.
لكلّ من هذه السيناريوهات آثار استراتيجية واقتصادية مختلفة وفي المجمل، تأتي جميعها بنتائج عكسية. يقيّم المعهد الآثار الاقتصادية للقتال في كل من السيناريوهات الثلاثة، مع الأخذ في الاعتبار أربعة متغيرات اقتصادية رئيسة وهي: النمو الاقتصادي، وعجز الميزانية، ونسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وعلاوة المخاطر التي تضاف إلى معدّل الفائدة.
استمرار الحرب في غزّة
في السيناريو الأول، يتوقّع خبراء المعهد تسجيل نمو بنسبة 1% فقط في العام 2024. يعتبر هذا المعدّل أقرب إلى ركود، فهو يقل عن التوقّعات التي افترضتها موازنة العام 2024 والبنك المركزي الإسرائيلي (1.9%). كما يعدّ أقل من معدل النمو السكاني في إسرائيل (2%)، ما يعني بالتالي انخفاض حصّة الفرد من الناتج المحلي الإجمالي. علماً أن النمو المنخفض سوف يستمرّ في العام 2025.
وينطبق الأمر نفسه على عجز الموازنة الذي سيرتفع إلى 8% بالمقارنة مع 5.2% كما كان متوقعاً في الموازنة، وبالتالي ستزيد نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي وصولاً إلى 70% على أن يستمرّ هذا المنحى في العام 2025، لتصل نسبة الدين إلى الناتج المحلي إلى 75% بما يضرّ أكثر بالتصنيف الائتماني لإسرائيل. أما فيما يتعلّق بعلاوة المخاطر التي تضاف إلى معدّل الفائدة فقد قدّرها المعهد بنحو 1.75%، علماً أنها مرشّحة للارتفاع في السنوات المقبلة بسبب تصاعد نفقات الأمن واستمرار زيادة العجز والدين العام.
وبحسب المعهد «سوف تصبح إسرائيل بالنسبة إلى الخارج دولة غير مستقرة اقتصادياً ومتورطة في حرب لا نهاية لها، ما سيقلّل من جاذبية الأصول الإسرائيلية المعرضة للمخاطر، وكذلك ستزيد المخاوف من الاستثمار فيها ولا سيما في قطاع التكنولوجيا. فضلاً عن حدوث هجرة عكسية من إسرائيل والنسبة الأكبر منها بين العاملين في القطاعات العالية الإنتاجية».
وللحرب المستمرّة تداعيات خارجية وداخلية، يقول معهد دراسات الأمن الوطني إن «مكانة إسرائيل الدولية سوف تستمرّ في التآكل. وعلى الصعيد الداخلي، سوف تشتد الخلافات السياسية والاجتماعية بشأن استمرار الحرب، والفشل في إعادة الأسرى، وعدم مساءلة القيادات السياسية والعسكرية عن أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر، فضلاً عن إغلاق المزيد من شركات القطاع الخاص وبالتالي زيادة البطالة بسبب الدعوات الإضافية للخدمة الاحتياطية».
شهر من الحرب العنيفة في الشمال
يقول معهد دراسات الأمن الوطني الإسرائيلي إنه «من الصعب التنبؤ بكيفية تطور الحرب ضد حزب الله في لبنان، وما إذا كان من الممكن احتواؤها في شهر واحد وساحة واحدة فقط». ولكن في ظل سيناريو يفترض استمرار الحرب الموسّعة لمدّة شهر واحد ضدّ حزب الله وحده «ستكون العواقب كبيرة، وفي كلّ الحالات يعتبر هذا السيناريو غير مألوف في إسرائيل. وتقليل أضراره يعتمد على قدرة إسرائيل على اعتراض التهديدات التي قد تلحق بالمرافق الاستراتيجية والبنية التحتية».
ينظر هذا التقييم في حرب تبدأ في الربع الثالث أو الرابع من هذا العام. في أسوأ سيناريو لحرب عنيفة قد تتسبّب في أضرار بالبنية التحتية، قد ينكمش الاقتصاد الإسرائيلي بنسبة 10%. أما في أفضل السيناريوهات، بمعنى إذا تمكّنت إسرائيل من تحييد جزء كبير من التهديدات وتقليل الأضرار، فقد ينكمش الناتج المحلي الإجمالي بنحو 2%.
إلى ذلك، قد يرتفع العجز المالي إلى 15% بسبب ارتفاع نفقات الحرب وما يترتّب عنها من إنفاق لدعم الاحتياجات اليومية، بما في ذلك إمدادات الغذاء والنقل، والملاجئ. إن انكماش الناتج المحلي الإجمالي بالتوازي مع تضخّم الإنفاق الحكومي من شأنه أن يرفع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 80% أو 85%. كذلك من المتوقع أن ترتفع علاوة المخاطر بنسبة 2.5%، ما يصعّب إمكانية الاستدانة لتمويل نفقات الحرب.
أما بالنسبة إلى العواقب الاقتصادية الطويلة الأجل فمن المهم الإشارة إلى: (1) إن أي زيادة في علاوة المخاطر تؤدي حكماً إلى ارتفاع مدفوعات الفائدة على الدين العام الإسرائيلي. على سبيل المثال، تؤدي زيادة بنسبة 1% في سعر الفائدة على الدين العام إلى ريادة مدفوعات الفائدة بنحو 10 مليارات شيكل سنوياً، وهو ما يوازي معظم ما يتم إنفاقه على الرعاية الاجتماعية حالياً؛ (2) إن خفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى 60%، تبعاً للمعايير الموصى بها، لن يكون مهمة سهلة، وقد يستغرق أكثر من عقد من الزمان. المرة الأخيرة التي تجاوزت فيها نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي في إسرائيل 80% كانت في خلال الانتفاضة الثانية، عندما وصلت إلى 93% في العام 2003، ولم تنخفض النسبة إلى 60% إلا في العام 2017.
بالنظر إلى العام 2025، قد يسجّل نمو اقتصادي نمواَ بسبب زيادة الإنفاق الحكومي على إعادة الإعمار على افتراض انتهاء الصراعات في الجنوب والشمال. وهذا ما يفسّر العجز المالي الذي قد يصل إلى 10% بسبب رفع الإنفاق العام. وفي حين يحمل رفع الإنفاق العام إيجابيات على معدّل النموّ، إلا أنه قد يأتي أيضاً على حساب الاستهلاك الخاص، نظراً إلى حاجة الحكومة لرفع الضرائب وتقليص أشكال كثيرة من الدعم المباشر لمختلف الفئات السكانية.
إطلاق الأسرى والانسحاب من غزة وهدوء على الحدود اللبنانية
نظرًا لأن الحرب استنزفت حتى الآن 8 أشهر من العام 2024، فإن الانسحاب الفوري من غزة لن يكون له تأثيرات كبيرة في تحسين مؤشرات العام 2024. من المتوقع أن يسجّل نمو بنسبة 2%، ما يعني أن حصة الفرد من الناتج المحلي لن ترتفع وستبقى على حالها (معدّل النمو السكاني يساوي 2%). في حين لن يشهد العجز المالي (7%) أو نسبة الدين إلى الناتج المحلي (69%) انخفاضاً كبيراً بالمقارنة مع سيناريو استمرار الحرب لأن نفقات الأمن سوف تبقى مرتفعة في المستقبل المنظور. وحتى مع وقف إطلاق النار، سيحتاج الجيش إلى بناء قوة جديدة للصراعات المستقبلية المحتملة.
أمّا بالنسبة إلى علاوة المخاطر، فمن غير المرجّح أن تعود إلى مستوى ما قبل الحرب في وقت قريب. إن إدراك حقيقة أن إسرائيل أصبحت أقل أماناً واستقراراً مما كانت عليه قبل الحرب، من المرجح أن يبقي علاوة المخاطر بين 1.3% و1.5%، بالمقارنة مع 0.8% قبل الحرب.
وبافتراض التوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار وانسحاب الجيش الإسرائيلي من غزة، فمن المتوقع أن يسجّل نمو بنسبة 4.6% في العام 2025. ومع ذلك، لا يُتوقع أن تنخفض نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى أقل من 70% بسبب العجز المالي الذي سيسجّل في العام 2025، بسبب إعادة إعمار الجنوب والشمال وتجديد الإمدادات العسكرية.
دينا خوري – الصفر