على مدى سنوات؛ أثارت مقاطع الفيديو الترويجية لروبوتات الإنسان الآلي التي أنشأتها شركة الهندسة الأمريكية، بوسطن ديناميكس، التكهنات والقلق بشأن احتمال وجود جيش مستقبلي من الروبوتات. وبدقة مخيفة، تظهر الروبوتات وهي تجري وتقفز وتتدرب على حركات الباركور، ففي بعض الأحيان، قد يبدون شبيهين بالبشر بشكل غريب، وفي أحيان أخرى، يبدون مختلفين تمامًا.
وأضافت الطائرات المسيّرة بالفعل عنصرًا مزعجًا إلى مجال الأعمال الحربية؛ حيث أصبح بإمكان الجيوش الآن نشر القنابل بلمسة زر واحدة من خلال لوحة مفاتيح الكمبيوتر على بعد آلاف الأميال. فهل يمكن أن تشمل الخطوات التالية مناوشات أرضية تخوضها جيوش آلية متنافسة؟
لقد بلغنا بالفعل هذه النقطة في عالم الحرب الرقميّة، وهو ما يسرده مارك أوين جونز في كتابه الجديد بعنوان “الاستبداد الرقمي في الشرق الأوسط: الخداع والمعلومات المضللة ووسائل التواصل الاجتماعي”.
فتحت إشراف بعض الدول مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، تترقب جيوش بوتات وسائل التواصل الاجتماعي وتستعد لمهاجمة وجهات النظر المعارضة ونشر الدعاية القومية على نطاق واسع، وقد فشلت شركات وادي السيليكون، التي تتمتع بإمكانية غير محدودة للوصول إلى بياناتنا، حتى الآن في قمع هذا الهجوم الإلكتروني.
ويستكشف جونز كيف أفسح “التفاؤل التقني” للربيع العربي لعام 2011 الطريق بسرعة، على مدار العقد الماضي، لظهور الاستبداد الرقمي، الذي تستغلّه دول الخليج لتسخير وسائل التواصل الاجتماعي “كأداة للقمع المضاد للثورة”. ولقد أدى انتشار تويتر بوت إلى توسيع نطاق انتشار المعلومات المضللة بشكل كبير، بينما يتم نشر شبكات التصيد لتخويف المعارضين واختراق المناظرات السياسية المهمة.
وقال جونز في كتابه: “أصبح التلاعب بوسائل التواصل الاجتماعي لإخفاء النقد الموجه للسعودية جانبًا مهمًّا في رؤية محمد بن سلمان المسيانيّة”. في الواقع، لُقّب سعود القحطاني، وهو أحد كبار مساعدي ولي العهد، بـ”سيد الذباب الإلكتروني” لدوره المزعوم في السيطرة على آلاف البوتات والمتصيدين عبر وسائل التواصل الاجتماعي العربية.
“لحظة ما بعد الحقيقة” لدول الخليج
يشير جونز إلى أن الأزمة الدبلوماسية الخليجية لعام 2017 قد مثّلت “نقطة تحول في لحظة ما بعد الحقيقة الخاصة بالمنطقة”، حيث أطلقت الدول المحاصرة، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة ومصر والبحرين، عملية تضليل غير مسبوقة لتبرير حملتها ضد قطر. وساعد توظيف شركات العلاقات العامة، جنبًا إلى جنب مع البوتات والمتصيدين، إلى خلق تصور خاطئ عن العداء الشعبي تجاه الدوحة وشركائها المزعومين في “محور الشر”، وهي عبارة تم ابتكارها حديثًا، وتشمل تركيا والإخوان المسلمين.
ويوضح جونز أنه بينما أنشأت جماعات الضغط السعودية موقعا دعائيًّا للترويج لمعلومات مضللة مناهضة لقطر، وغالبًا ما ترسم اقتصاد البلاد من وجهة نظر سلبيّة؛ عمل الجنود الإلكترونيون بِجِد لضمان انتشار الهاشتاغات التي تنتقد قطر وتحولها إلى مواضيع شائعة.
لقد كانت أزمة الخليج عبارة عن عملية خداع شاملة بدأت بسبب قصة بثتها وكالة الأنباء القطرية التي تديرها الدولة، والتي اقتبست كلام أمير البلاد الذي كان يمتدح حركة حماس وحزب الله وإيران، إذ أصرّت الدوحة على أن الموقع تعرض للاختراق كذريعة لتبرير الحصار الذي أعقب ذلك.
ويسلط جونز الضوء على التحضير والتنسيق الذي تطلّبته هذه العملية؛ مشيرًا إلى أنه قبل عدة أيام من نشر تصريحات الأمير المزعومة، كان هناك هاشتاغ ينتشر على وسائل التواصل الاجتماعي مفاده: “قطر ممول الإرهاب”. ويقول جونز إن “أزمة الخليج قد تكون أحد الأمثلة الأولى عن الصراعات السياسية التي قد تبدأ وتستمر من خلال عملية رقمية متعددة المستويات ونشر المعلومات المضللة”.
ويسرد كتاب جونز عشرات الأمثلة الأخرى التي نشرت فيها دول الخليج جيوشًا إلكترونية للدفاع عن النظام، والتي تشمل أعدادًا هائلة من التغريدات التي تشيد بالقوات المتحالفة مع السعودية في محاولة لصرف الانتباه عن الانتقادات بشأن الانتهاكات في اليمن، والبوتات التي ترسل رسائل غير مرغوب فيها لتشويه هاشتاغ جمال خاشقجي بعد عام من مقتله من خلال “محتوى لا صلة له بالأمر ويتحدث عن كيفية استمتاع العمال الوافدين بالعمل في السعودية”.
بالإضافة إلى ذلك؛ يشير جونز إلى أن ما يصل إلى 91 بالمئة من حسابات تويتر التي تشارك منشورات الرئيس الإماراتي محمد بن زايد مزيفة، مستشهدًا بتحليله الشامل الخاص.
محاربة المعلومات المضللة
تبقى كيفية مكافحة هذا الاعتداء سؤالًا مطروحًا؛ فعلى الرغم من أن تويتر يوقف بشكل دوري نشاط البوتات التي تروج للدعاية السعودية والإماراتية، إلا أن الذباب الإلكتروني يعاود الظهور بسرعة. في الوقت ذاته؛ تعد المملكة العربية السعودية مستثمرًا بارزًا في وادي السيليكون، مما يثير مخاوف بشأن كيفية استخدام هذه النفوذ؛ حيث كتب جونز أن “هذا الاعتقاد بأن شركات التواصل الاجتماعي تعمل في خدمة الطغاة منتشر للغاية في المنطقة”.
في عام 2020، صنفت منظمة مراسلون بلا حدود “اللواء الإلكتروني” الخاص بالمملكة العربية السعودية، وهو شبكة من البوتات والمتصيدين المؤيدين للنظام التي تنتج أكثر من 2500 تغريدة يوميًّا، كواحد من أكبر 20 مهاجما رقميًا في العالم، حتى أن الرياض تمكنت من التسلل إلى مقرات تويتر، وإرسال جواسيس للعمل في الشركة وجمع معلومات حساسة.
اليوم، يبدو أن تطوّر الذكاء الاصطناعي سيكون له علاقة بمستقبل الاستبداد الرقمي؛ حيث يشير جونز إلى قدرة الذكاء الاصطناعي على توليد تدفقات لا نهاية لها من الدعاية، مضيفًا أنه: “مع القليل من الضمانات الأخلاقية لمنع مثل هذه الظاهرة، ندخل مرحلة جديدة مثيرة للقلق، حيث أصبح من الممكن للأنظمة والحكام أن يخدعوا جماهير ضخمة”.
وتسلّط قضيّة “الصحفيين المزيفين”، التي تتمثّل في نشر شبكة غامضة من 19 محللًا على الأقل لا وجود لهم في الواقع لعشرات المقالات الافتتاحية حول الشرق الأوسط في حوالي 50 وسيلة إعلامية، الضوء على مدى قوّة عمليات الخداع وصعوبة مكافحتها في عصر تقلص الموارد الصحفية.
ويرسم كتاب جونز صورة دقيقة قاتمة للمشهد الرقمي الحالي؛ حيث لا يوجد أي حل سريع. ويمكن أن تساعد أدوات التحقق من الهويّة المحسّنة – مثل مصادقة الجهات الخارجية للتأكد من أن الأشخاص حقيقيون قبل السماح لهم بفتح حساب على وسائل التواصل الاجتماعي – في وقف تدفق البوتات، لكن جونز يقر بمخاوف الخصوصية المصاحبة لمثل هذا المخطط. علاوة على ذلك؛ هناك حاجة أيضا إلى تطبيق إجراءات أفضل على المعلومات المضللة غير المكتوبة باللغة الإنجليزية إذا أراد المجال الرقمي أن يفلت من براثن ما يسميه جونز “الاستشراق الرقمي”.
على الرغم من حقيقة أن هذه الأفكار مقلقة، إلا أن قراءة كتاب “الاستبداد الرقمي في الشرق الأوسط” ضروري لأي شخص مهتم بظهور الجيوش الإلكترونية وهجومها المستمر على سياستنا وخطابنا العام.
ميدل إيست آي