تقوم دولة الاحتلال الإسرائيلي على محو فلسطين والفلسطينيين، فأسطورة عدم وجود الفلسطينيين جزء من عقيدتها الأساسية، في أثناء نكبة 1948 كانت هذه العقيدة حاضرة بالكامل حيث أبعدوا المجتمعات الفلسطينية عن أراضيها في حملة عسكرية ممنهجة.
كما أن عنف المستوطنين المستمر مع الإفلات من العقاب في الضفة الغربية دليل آخر على أن دوافع محو فلسطين والفلسطينين ما زالت موجودة في الحاضر.
لكن هذا المحو ليس ماديًا فقط بهدف إزالة الفلسطينيين من الوجود، لكنه يتم أيضًا من خلال القصص المروية عن الماضي، تلعب المتاحف الإسرائيلية دورًا مهمًا كمشارك فعال في تلك الجهود الاستعمارية.
إرهاب المتاحف الإسرائيلية
لقد لاحظت ذلك في أثناء مباشرة عمل ميداني بحرم جبل المشارف في الجامعة العبرية بالقدس عام 2015، فالحرم الجامعي اليوم يبدو كمتحف يحتفل بالتراث التاريخي اليهودي، يضم قطعًا أثريةً مثل تمثال رخامي لحاكم من معبد أغسطس في السامرة بناه الملك هيرود، وحجر من الجدار الثالت للمعبد الثاني الذي يزين واجهة معهد الآثار.
الهدف من ذلك عرض إسرائيلية الأرض، والتجاهل المقصود عمدًا لحقيقة بناء الجامعة على الأراضي الفلسطينية المسروقة.
يقوم متحف برج داوود بالأمر نفسه، فرسميًا، يشير الموقع الإلكتروني للمتحف إلى أن قلعة القدس هي نقطة التقاء الماضي والحاضر والشرق والغرب والتاريخ والابتكار والخبرة والإبداع، وأن المتحف يعرض تاريخ القدس مشتبكًا مع أهمية القلعة لليهودية والمسيحية والإسلام.
لكن المتحف مُتهم منذ فترة طويلة بطمس تراثه الإسلامي والفلسطيني بشكل ممنهج، فبعد استيلاء “إسرائيل” على المكان، منعت السلطات إقامة الصلوات في المساجد، وأزالت هيئة الآثار الإسرائيلية القبة والهلال من القلعة، كما تشدد الملصقات التي تُعرّف القطع الأثرية على يهودية المدينة ووجهة النظر القومية الإسرائيلية.
أما متحف سيام فيزعم أنه يكشف التاريخ المنقسم للقدس، وأن معروضاته تهدف إلى إثارة قضايا التنوع الاجتماعي بين النقاشات العامة وسد الفجوات، لكن من الناحية العملية، فإنهم لا يعترفون بأن المبنى الذي يضم المتحف كان مملوكًا لعائلة البركمي الفلسطينية التي طُردت من القدس في أثناء النكبة.
تحتفي المتاحف بدور المنظمات اليهودية شبه العسكرية في أثناء تأسيس الدولة الإسرائيلية وعملها في الحفاظ على أسطورة عدم وجود الفلسطينيين، هذه المنظمات مارست الكثير من العنف في مناطق مثل يافا وحيفا وعكا وطبرية خلال النكبة.
فمنظمة بلماح شبة العسكرية أسست مستوطنات إسرائيلية جديدة، وكانت ناشطة في عمليات التطهير العرقي في المجتمعات الفلسطينية القروية.
عندما زرت متحف بلماح في تل أبيب عام 2013، بدا أن سياسات المحو مستمرة، فخلال زيارتي كان العرض في المتحف ثلاثي الأبعاد، وكان الزوار يسيرون داخل فيلم يعيد تمثيل حياة مجندي بلماح في أثناء “حرب الاستقلال” الإسرائيلية.
ورغم أن هدف عنف بلماح كان المجتمعات الفلسطينية، فإن فلسطين والفلسطينيين كانوا غائبين من القصة، في الحقيقة، لم يُستخدم مصطلح فلسطين أو الفلسطينيين مطلقًا في الفيلم، بدلًا من ذلك، كان يُشار للفلسطينيين بكلمة “عرب”، يرمز ذلك إلى عدم الاعتراف بوجود الفلسطينيين كمجتمع قومي مختلف عن بقية العالم العربي.
لكن حتى عند الإشارة إلى الوجود الفلسطيني بكلمة “عرب”، كانوا يدفعون بهم سريعًا عند الهوامش، وتحديًدا لم تُذكر كلمة عرب سوى مرتين.
المرة الأولى عندما أشارت شخصيات الفيلم إلى المقاتلين الفلسطينيين بأنهم “عصابات عربية غازية”، والثانية في أثناء النقاش بين جنديين من بلماح يتألمان بسبب مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، حيث كان يسأل أحدهم “ماذا يجب أن نفعل باللاجئين؟” فأجاب الآخر بلا مبالاة “قم بما تراه أفضل”.
بدا الأمر وكأن الشخصيتين لا تعلمان كيف أصبح هؤلاء اللاجئون لاجئين، وأنهم لا يكترثون ببساطة بمأساة الطرد الجماعي للفلسطينيين من الأرض التي يعتبرونها وطنًا قوميًا.
ظهر محو مماثل للفلسطينيين خلال زيارتي لمتحف الهاغاناه في تل أبيب عام 2015، خاصة في عرض الثورة الكبرى من عام 1936 حتى عام 1939 ضد الانتداب البريطاني وسياسته لتشجيع الهجرة اليهودية.
فقد وصفت المؤرخة روزماري صايغ هذه الثورة بأنها من أوائل الثورات القومية البارزة التي قام بها الفلاحون الفلسطينيون خلال الطريق الطويل لنضال التحرير الفلسطيني، لكن الرد العنيف من العصابات شبه العسكرية مثل الهاجانه كان مقدمة للنكبة.
كان للثورة أيضًا أهمية إقليمية كأطول نضال مناهض للإمبريالية في العالم العربي حتى بداية حرب الاستقلال الجزائرية.
لكن معروضات المتحف لا تعترف بالأهمية التاريخية للثورة ولا بوجود الشعب الفلسطيني وقضيته القومية، بدلًا من ذلك يصف تلك الثورة الكبرى بأنها أعمال شغب واضطراب دموي قاده العرب في فلسطين، وأنه استهدف اليهود والبريطانيين، يترك ذلك انطباعًا لدى زوار المتحف بأن العنف لم يكن له سبب أو هدف إلا إيذاء اليهود.
المتاحف والاستعمار
استُخدمت المتاحف بشكل عام كوسيط لعرض القوى الاستعمارية والاحتفاء بها ومآثر بناء الإمبراطورية، في الحقيقة، قال المؤرخ روبرت ألدريش إن بناء الإمبراطوريات والمتاحف يسير يدًا بيد.
تساعد عينات النباتات والحيوانات والتماثيل والأحجار الكريمة والمومياوات والجماجم – المجموعة أو المسروقة – المعروضة في المتحف على تأسيس الرواية الحضرية المهيمنة عن الشعوب البدائية والثقافات في الأراضي البعيدة الغريبة.
أسس الملك البلجيكي ليوبولد الثاني المتحف الملكي لوسط إفريقيا في بروكسل عام 1898 للاحتفاء بالممارسات الحضرية للبلجيكيين في الكونغو، ودرء الانتقادات الموجهة لسياساته القمعية الوحشية هناك وزعم التفوق الحضاري للبلجيكيين مقارنة بقبائل الكونغو غير المتحضرة.
في هاواي، بأكاديمية هونولولو للفنون، أو متحف بيشوب، تشير المعروضات فقط إلى الاستعمار، يهدف هذا الإغفال إلى التجاهل الأبدي للإطاحة بمملكة هاواي من رجال الأعمال البيض والجيش الأمريكي والعملية العنيفة التي أصبحت هاواي من خلالها مستعمرة استيطانية.
يمثل المتحف البريطاني في بلومسبري، لندن، أكبر مثال على سير بناء الإمبراطورية وبناء المتاحف يدًا بيد، فقد وردت هذه المعروضات الواسعة من كل أنحاء العالم كمثال على قوة الإمبراطورية البريطانية التي لا حد لها، وصف المؤرخون هذه القائمة من المعروضات بأنها “صندوق الحرب الملكية”.
المقاومة من خلال المتاحف
مع مواجهة الفلسطينيين للإرهاب العسكري الإسرائيلي المستمر، قد يبدو عنف المتاحف غير مهم، لكنه يذكرنا بكيفية تسليح التاريخ والتراث، لهذا السبب من الضروري استخدام نفس أدوات التاريخ والتراث لمقاومة القمع الإسرائيلي.
في الولايات المتحدة، يسعى متحف الشعب الفلسطيني في واشنطن إلى الحفاظ على التاريخ والفن والثقافة الفلسطينية والاحتفاء بهم، وقد شهد ارتفاعًا في الزيارات الشهرية من 132 شخصًا عام 2022 إلى 277 شخصًا في 2023، وسط تحول النظرة العامة لصالح فلسطين.
في 2016، افتُتح متحف فلسطين في بيرزيت بالضفة الغربية المحتلة، وكانت أول معروضاته بعنوان “حياة القدس” التي كشفت عن مظاهر الحياة في المدينة الخاضعة للاحتلال والإغلاق الإسرائيلي وسياسات الإقصاء التي تستهدف الفلسطينيين.
ربما يستخدم المستوطنون الرواية التاريخية والتراث كسلاح لمحو الوجود الفلسطيني من الأرض المقدسة، لكن هذه الجهود الفلسطينية تكشف عن إمكانية تحدي هذه الجهود من خلال الرد الواضح “نحن هنا، نحن باقون”.
ترجمة حفصة جودة – نون بوست