يواجه المجتمع اللبناني اليوم بكلّ بيئاته وطبقاته أزمة اقتصادية واجتماعية قلّ نظيرها على مستوى العالم. بعيدًا عن البحث في الأسباب السياسية والخطط الاقتصادية التي أدت إلى ما نشهده اليوم، وبعيدًا عن التنظير في سلوكيات الأفراد وواجباتهم في ظرف عصيب كهذا الظرف، وإن كانت الأزمة تمسّنا جميعًا، نساءً ورجالًا، موظّفين وعاطلين عن العمل، فللمرأة دور كبير ومؤثّر في “إدارة الأزمة” داخل البيوت، وفي معالجة مفاعيل الحرب الاقتصادية التي تستهدف كلّ الأسر والتعامل معها في سبيل تقليل الأضرار قدر الإمكان.
قد لا يطرح “المجتمع النسويّ” هذا الدور كأولوية في معالجته لدور المرأة ككلّ لأنه لا يتناسب مع طروحاته التي تهدف إلى تسطيح دور المرأة وتسليعها كفرد، بمختلف الأشكال والشعارات التي باتت أقرب إلى شعارات التسويق المباشر التي تعتمدها الشركات التجارية. لكنّه، أي هذا الدور، يبقى دورًا ساميًا وأساسيًا في التعامل مع حالة حرب، أو لنقل مع حالة استثنائية إلى أبعد الحدود في ما يخص “تدبير” الأمور المعيشية.
هي نقاط قليلة وتبدو بديهية بالنسبة للكثير من السيّدات اللواتي أدركن منذ بداية الأزمة استثنائية الظرف وأجدن التعاطي مع مفاعيلها بشكل يخفف من آثارها قدر الإمكان على حياة الأسرة. لكن لا بأس من التذكير بها على سبيل التحية لمن اعتمدنها بفطرتهنّ أو لمن لم ينتظرن “متحدثة” نسوية لتخبرهنّ أن لا بأس بأن تقوم المرأة بدورها الطبيعي، وأنه لا ينقص من شأنها شيء إذا ما اعتمدت تدابير استثنائية في ظرف آخر ما قد يخطر ببالها فيه “النضال من أجل حق المرأة برفض الإنجاب” أو السقوط في جدل عقيم ينتهك حرية الآخرين عبر فرض الشكل الموحّد للحرية الذي تقترحه النسويّات (وصرنا جميعًا نعرف ملامح هذا الشكل).
النقطة الأولى التي تُحتسب في أعلى لائحة دور المرأة، “ست البيت”، في هذا الظرف هي أن كثيرات عدن إلى وصفات الجدات التموينية بعد أن فرض الظرف تغييرًا جذريًا ومؤلمًا في أنماط الحياة اليومية. فالوصفات الجاهزة التي تضاعفت قيمتها أكثر من ٥ مرات لم تعد خيارًا متاحًا في كثير من البيوت، ولذلك عدن إلى الوصفات المنزلية الأقل كلفة، سواء في الطبخ اليومي أو في صنع “مونة” موسمية على سبيل الادخار والتوفير لا سيّما بظل تفاقم الوضع المعيشي المتواصل.
أما النقطة الثانية، فهي الإدارة المنزلية المنتجة: فبعد أن كان الاستغناء عن ثياب وحاجيات المنزل المستعملة واستبدالها في فترات متقاربة بأخرى جديدة، تفضّل المرأة اليوم إطالة عمر المستعمل في بيتها وتأجيل استبداله بل واستخدامه حتى رمقه الأخير بغية التوفير في المصاريف وحصرها بالطوارىء والضروريات.
ثالثًا، ولا سيّما في القرى، لم يعد بالنسبة للكثيرين شراء “ضمّة البقدونس” أفضل من زراعتها قرب المنزل. فالظرف حتّم البحث عن البدائل التي يمكن بعملها توفير كلّ قرش يمكن توفيره لصالح التعاطي “الحكيم” مع مفاعيل الأزمة.
في معظم البيوت، اخترعت النساء خططًا بديلة تخفّف من وطأة الوضع المعيشي الصعب، وكيّفتها بحسب حاجات بيتها وأولوياته.
ويُسجل لهن جميعًا براءات اختراع وشهادات ابداع حقيقية في إدارة شؤون أسرهنّ تحت ضغط هائل ومستمر، بل ويسمون بدورهن الجميل هذا وإن بدا لبعض النسويات والنسويين دورًا ثانويًا أو دورًا يقلل القيام به من شأن المرأة التي بنظرهنّ تنقص ما لم تعامل نفسها كفرد غير مسؤول عمّن حوله.
في كلّ بيت ما زال مستورًا في ظلّ عاصفة الفقر الأعتى، امرأة تقاتل الفقر والعوز بكل فطرتها وبكل طاقاتها، سواء أقرّ دعاة “كوني جميلة وتحرّري من طبيعتك ومن مجتمعك” أم لم يقرّوا.
على صعيد آخر، أبدعت نساء كثيرات خلال هذه الأزمة بالعمل التكافلي والتطوعي لتغطية حاجات البيوت التي مسّها ضرّ العوز، بدون اللجوء إلى الاستعراض ومرادفاته الكثيرة في زمن “اللايكات الكثيرة”. وهذا موضوع يطول الحديث فيه ويتفرّع إلى أمثلة لا تُعدّ عن نساء قمن بكلّ ما يمكنهن القيام به من أجل دعم مَن حولهنّ، سواء بتقاسم “طبخة البيت” مع الجيران أو بتأمين ما تيسّر من حاجيات للعائلات المنتكسة ماديًا. كذلك لا يمكن اغفال المشاريع “المنزلية” التي حاولت وتحاول الكثيرات القيام بها في سبيل رفع دخل الأسرة والتي ينطوي بعضها على إبداعات حقيقية.
دور المرأة في هذه الأزمة يشكّل رافعة للصمود وحصنًا للصبر. ولا يختلف كثيرًا عن دور المرأة في الحروب العسكرية والذي تراوح بين تحضير “سندويشات” ووضعها في مكان يستطيع فيه المقاتلون أخذها إلى حمل السلاح والقتال ان استدعى ظرف المعركة ذلك، وبينهما رمي العدو بطناجر الزيت المغليّ.
إن كان لا بدّ من تمييز بين دور المرأة ودور الرجل وتكاملهما في المجتمع ولا سيّما في حالة استثنائية وقاهرة كالتي نمرّ بها اليوم، فلا بدّ من تسجيل التحية الأجمل لنساء متمكنات من دورهنّ الأساسيّ الجميل دون الوقوع في فخ شعارات تمكين النساء، فهنّ لسن بحاجة لشهادات من أحد، ولا سيّما من دمى “البوتوكس” ومن المبشرات بحرية المرأة اللواتي غلّفن “استعباد النساء وتسليعهن” بغلاف “تحرير المرأة”؛ فنساؤنا حرّات كريمات يجدن التعامل مع الظروف القاسية ومع الأزمات الأعنف، ولا يأبهن بمن يدعوهنّ للتحرّر من فطرتهنّ النقية ومن دورهنّ الأجمل ومن رقتهنّ الموروثة عن أمهات وجدّات حرّات وكريمات وقديرات. نساؤنا “ستات بيوت” أتين من بيوت أهل كرام، وربّات عائلات عرفن أن الأولوية صمود العائلة.