التاريخ ١٣ أيلول ١٩٩٧، المكان باحة شورى حزب الله في منطقة حارة حريك، أما المناسبة فهي إحياء ضمير الأمة، ضمير الأمة الذي لا زال في سباته حتى يومنا هذا.
١٣ أيلول ١٩٩٧ تاريخ إحياء تطلعات تسعة شهداء وعشرات الجرحى، كلهم مدنيون، سلاحهم كلمة الحق وبضع لافتات، هدفهم رجم شيطان السلام الذي كشّر عن أنيابه مبتسماً في اتفاقية أوسلو.
تظاهرة شعبية لبضع عشرات ممن وقفوا في اليوم نفسه من العام ١٩٩٣ تحت جسر المطار القديم في منطقة الغبيري، ينادون ويصرخون أن الويل لأمة عربية تتخلى عن فلسطين، تخضع للظالم وتزيد المظلوم ظلماً. بضع عشرات يهتفون فقط، فكان القرار تصفيتهم بإطلاق الرصاص القاتل مباشرة على الرؤوس والصدور، دون تحذير مسبق.
بضع العشرات هؤلاء يمثلون «عرباً مِن نوع آخر»، فهِمَ إسحق رابين توجههم، جنوب لبنان محتلًّ وهم يناضلون بالكلمة التي لم يجدوا غيرها وسيلةً لأجل القضية الأسمى “فلسطين”، هم أصحاب نظرية الـ”لا خضوع”.
تسعة شهداء وعشرات الجرحى ربما لم يكونوا كافين لخض وجدان الأمة وهزّ ضميرها من أجل العودة للبوصلة الصحيحة، فكانت الفرصة الثانية لهذه الأمة في نفس التاريخ، فرصة صحوة ثانية حين وقف الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله، الشاب القائد والأب الفاقد، الذي زُفَّ إليه خبر استشهاد نجله هادي مع رفيقيه الشهيدين علي كوثراني وهيثم مغنية خلال عملية نوعية للمقاومة في الجبل الرفيع، قبل يوم واحد، أي في ١٢ أيلول، وقف ليحيي هذا الجرح الذي أصاب وجدان الأحرار في الأمة.
استشهاد الابن ومشاعر الأب الفاقد لم يكونا أهم من القضية وأولى من شهداء المناسبة، أو حدثاً يحوز اهتمام الحزب أكثر مما قد يصيب الداخل اللبناني، فكان خطابه على قسمين، الأول للذكرى وللداخل «إنّ إطلاق النار على العزّل على طريق المطار كان يهدف إلى إشعال حرب داخليّة يعرفون كيف تبدأ ولا يعرفون كيف تنتهي»، ويتابع «لقد كانت محاولة لخلق شرخ داخلي وقد تخطيناها بحكمة وصبر، وأخذنا أكثر المواقف شجاعة في تاريخ الحزب، لأن أسهل الأمور كانت إعطاء الأوامر بالردّ، ولكننا أبينا وارتضنيا حمل الجراح». والقسم الثاني تحدث فيه عن نجله الشهيد قائلاً «إني أشكر الله على عظيم نعمه أن تطلع ونظر نظرة كريمة إلى عائلتي فاختار منها شهيداً وقبلني وعائلتي أعضاء في الجمع المبارك المقدس لعوائل الشهداء الذين كنت عندما أزورهم أخجل أمام أب الشهيد وأم الشهيد وزوجة الشهيد، وسأبقى اخجل أمام هؤلاء. الحمد لله الذي قبل أن أكون مواسياً وأن تكون عائلتي مواسية لعوائل الشهداء، ليس فقط في الشهادة وإنما أيضاً في احتجاز جسد الشهيد لأقول لعوائل الشهداء الذين ما زالت أجساد أبنائهم محتجزة لدى هذا العدو: لقد أصبح أيضاً بيننا وبينكم شراكة من النوع».
كانت الفرصة الثانية للأمة هي النظر لهذا القائد الذي يركّز على الأهداف ولا يسمح للعقبات والفتن بالوقوف بوجهه، فحفظ دماء شعبه ولم ينجرّ للعبة الاقتتال الداخلي، القائد الذي يولّي ألم الأمة وجراح الأمة على آلامه الشخصية، القائد الذي لم يوفّر ولده لنفسه بل قدمه شهيدًا في سبيل الدفاع عن هذه الأمة، القائد الذي يلتمس من أهالي الشهداء قبوله وتشريفه بأن أصبح وعائلته واحدًا منهم، القائد الذي يحسب حساب الحركة التي يقوم بها أثناء خطابٍ له حتى لا تُفهم أنها دليل ضعف أو انكسار قد يستغله العدو، كأن لا يمسح عرقًا يتصبب من جبينه أو على نظارته ويعيق له الرؤية حتى لا يبدو وكأنه يبكي حزنًا على هادي، بينما يدعو الجميع للشهادة! «وسيفترض الجميع أنني أمسح دمعي لا عرقي إذا أنا أخذت منديلًا ومررته على وجهي، جمدت يدي وفضلت أن أسبح بعرقي على أن أعطي العدو صورة الأب المفجوع يقف على المنبر باكيًا بكره، بينما هو يدعو الآخرين إلى الشهادة ».
التاريخ نفسه أعطى الفرصة مرتين للأمة، مرة من خلال مبادرة شعبية سقط خلالها الدم، ومرة أخرى عبر استشهاد الابن البكر للرجل الذي يدعو الأمة للصحوة سقطت خلالها الاعتبارات الشخصية، والأمة لم تصحُ، بل وقفت موقف الخائن مرة داعية وماضيةً بالسلام متخلّية عن سنوات نضال ودماء أبرياء وتضحيات شرفاء، وموقف الناكر للحق والحقيقة الذي لا يعترف بهزيمته النفسية بل يوهّن بدور القوي المحافظ على شرف الأمة، غير معترف بدمائه، مزوّرًا الحقيقة مختلقًا القصص ومصدقًا لها حيث نسج في خياله موت هادي في أحد بارات العاصمة بيروت لا في مواجهة عدو الأمة.
١٣ أيلول من كل عام هو ذكرى تُجدد فينا النهوض «مِن أجل الدفاع عن الأرض، السيادة، الأمّة، وعن مصير الأجيال»، ذكرى مجدنا وعزنا ومصنع إرادتنا، نجدد فيه شعارنا من جيل إلى جيل “يا شورى يا أفاضل نريد أن نقاتل”.
فالمجد لأيلول الشهداء.
«المجد لأيلول الشهداء، رفضوا الصهيونيّة نادوا: إنّا حتف الصهيونيّة.. المجد لأيلول الشهداء، بدمائهم، دون مذلّة، غسلوا عار السِلم العربي».
النص يعبر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة عن رأي الموقع