مهزلة لجان التحقيق “الإسرائيلية”

دفع مقتل الصحافية الفلسطينية شيرين أبو عاقلة، وما تبعه من أفعال إسرائيلية وردود أفعال محلية ودولية شديدة اللهجة، فضلًا عن مطالبات بالتحقيق في الحادث لكشف ملابسات جريمة قتلها، سلطات الاحتلال إلى تقديم اقتراح إلى السلطة الفلسطينية بتشكيل لجنة تحقيق مشتركة لكشف ملابسات استشهادها. لكن الرفض الفلسطيني، دفعها إلى تشكيل ما يُسمى لجنة تحقيق أولية في قيادة “المنطقة الوسطى” الضفة الغربية، باعتبارها الجهة المسؤولة عن إطلاق النار على أبو عاقلة. اللجنة لم تستبعد إمكان إطلاق النار عليها من أحد الجنود الإسرائيليين المقتحمين لمخيم جنين. لكنها ومن أجل الوصول إلى الحقيقة المجردة، بحسب ادعائها، اشترطت الحصول على الرصاصة التي دخلت جسدها، مع تشكيكها مسبقاً بالوصول إلى نتائج، مدعية أن المقاتلين الفلسطينيين يملكون النوع نفسه من السلاح الذي أصيبت به شيرين، وبالتالي هناك اعتقاد بإمكان إطلاق النار عليها من الشبان الفلسطينيين وليس من جنود الاحتلال.

الملابسات الحالية لاستشهاد أبو عاقلة، أعادت النقاش في مختلف الأوساط الرسمية المحلية والدولية والإعلامية، بشأن انتفاء صدقية لجان التحقيق الإسرائيلية ونتائجها، في كل ما يتعلق بالجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني، إن كانت لجان قضائية أو عسكرية، أو حتى مزيجاً منهما.

لذلك سأحاول تسليط الضوء على بعض لجان التحقيق الإسرائيلية، والنتائج التي توصلت إليها.

كان الهدف الحقيقي من إنشاء لجان التحقيق الإسرائيلية هو، امتصاص ردود الأفعال الإقليمية والدولية، وقطع الطريق أمام تشكيل لجان تحقيق دولية جدية، وخصوصاً أن المؤسسات الدولية القضائية المعنية، تعطي الدولة المتهمة فرصة تشكيل لجنة تحقيق في الجرائم.

لقد أعاد مقتل الصحافية الفلسطينية، النظر في الموقف الإسرائيلي الرافض للتعامل مع لجان التحقيق الدولية ونتائجها، في كل ما يتعلق بالجرائم التي يرتكبها جنود الاحتلال بحق الشعب الفلسطيني، ودائماً اقترن الرفض الإسرائيلي بذريعة أن هذه اللجان تملك مواقف مسبقة، أو أن رئيسها أو أحد أعضائها معادٍ لإسرائيل.

إسرائيل” وأنواع اللجان

على الرغم من تشابه نتائج كل التحقيقات، ومحاولة المؤسسة العسكرية الإسرائيلية حصر التحقيق في لجانها تحت السيطرة، تتعدد لجان التحقيق والنتيجة واحدة. فهناك اللجان القضائية التي يترأسها في العادة قاضٍ من محكمة العدل العليا، وهي من أرفع لجان التحقيق في إسرائيل، وتتكون نتيجة ضغوط الرأي العام المحلي أو الدولي، كما جرى في مذابح صبرا وشاتيلا أو الحرم الإبراهيمي الشريف، إذ كان الهدف منها الادعاء بأن كشف “حقيقة” ما جرى من أحداث وتفاصيل، لا يتم إلاّ من خلال لجان التحقيق الإسرائيلية، ذات الصدقية العالية، وليس عبر لجان دولية ومنظمات حقوقية.

نتائج اللجان القضائية، لم تكن تختلف عن نتائج لجان التحقيق العسكرية، التي تضم أحد كبار الضباط، فعلى سبيل المثال تبين للجنة “القاضي شمغار”، رئيس محكمة العدل العليا السابق، الموكلة بالتحقيق في المذبحة التي ارتكبها المجرم باروخ غولدشتاين في الحرم الإبراهيمي الشريف بمدينة الخليل، أن السبب في عملية القتل، يعود بالأساس إلى الاحتكاك المتزايد بين المستوطنين اليهود والفلسطينيين في الحرم الإبراهيمي الشريف، وهو ما دفع اللجنة إلى التوصية بتقسيم الحرم بين الطرفين مناصفة كحل لأزمة الاحتكاكات والاستفزازات المتبادلة، لكن اعتداءات وانتهاكات المستوطنين وجيش الاحتلال استمرت وتصاعدت ضد الفلسطينيين سكان المدينة.

أمّا لجنة التحقيق التي ترأسها القاضي يعقوب تيركيل للبحث في مذبحة سفينة مرمرة التركية، التي ذهب ضحيتها 10مواطنين أتراك وعشرات الجرحى، ونفذتها الوحدات الخاصة “هشييتت” في سلاح البحرية الإسرائيلي، في أثناء وجودها في المياه الدولية بالبحر الأبيض المتوسط متجهة إلى قطاع غزة للتضامن مع المحاصرين، فقد انتقدت اللجنة المذكورة الجيش لعدم تقديره بأن ركاب السفينة سوف يتصرفون بعنف وهو ما أدى إلى مقتلهم.

وعلاوة على النتائج المتعلقة بالمذبحة، أوصت لجنة تيركيل بتشكيل “جهاز هيئة الأركان للتحقيق في الأحداث الشاذة”، أي أن لجنة تيركيل أعادت مسألة التحقيق في الجرائم التي اعتبرتها شاذة إلى هيئة الأركان التي صدر عنها أوامر تنفيذ القتل، وليس إلى النيابة العسكرية العامة التي تغلق بالعادة ملفات التحقيق في الجرائم المرتكبة بحق الفلسطينيين[1].

وهناك عدة أنواع من لجان التحقيق الإسرائيلية مثل لجان الفحص والتدقيق، التي تقدم توصيات غير ملزمة لرئيس هيئة الأركان، مع أن كل أعضائها من الضباط. ولجنة تحقيق من جانب ضابط فاحص لحدث معين، أو لجنة الفحص الموجودة في كل قيادة منطقة، كتلك اللجنة في قيادة المنطقة الوسطى الإسرائيلية، التي حققت في قتل الصحافية شيرين أبو عاقلة، وخرجت بنتائج شككت في احتمال قيام الجيش الإسرائيلي بقتلها.

يُعتبر “جهاز هيئة الأركان للتحقيق في الأحداث الشاذة” أهم هذه اللجان، وهو الذي نشأ بعد توصيات من لجنة القاضي يعقوب تيركيل. إذ جرى تعيين أعضاء اللجنة، وجلهم من الضباط، بكتاب من رئيس الأركان الإسرائيلي، مع ترك المجال لإمكان تغذيتها بقضاة من خارج الجيش بهدف إعطائها نوعاً من الصدقية الداخلية والخارجية. ولا تختلف نتائج التحقيقات في لجنة “جهاز هيئة الأركان للتحقيق في الأحداث الشاذة” عن النتائج في بقية اللجان، فعلى سبيل المثال، لم تجد اللجنة أي جريمة أو خطأ وقع خلال عدوان إسرائيل على قطاع غزة سنة 2014 سوى تهمة واحدة بشأن سرقة مبلغ من المال، في حين تجاهلت عمليات القتل والتدمير الجماعي لقطاع غزة وسكانه، وتعاملت باستخفاف مع قضية الجندي “أليئور آزاريا” الذي أعدم بدم بارد في مدينة الخليل، وفي بث حي ومباشر، الشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف وهو جريح، واكتفت اللجنة باتهام الجندي القاتل بأن تصرفه غير ملائم.

إجمالاً يمكن القول إن كل اللجان الإسرائيلية، المدنية والعسكرية، التي شكلت للتحقيق في الجرائم التي ارتكبها المحتلون بعد سنة 2000، لم تكن مهمتها البحث عن حقائق تؤدي إلى استخلاص العبر، بل كان هدفها الأساسي امتصاص الغضب الإقليمي والدولي والأممي، ومنع تدخل محكمتي العدل والجنايات الدوليتين، من إجراء تحقيقاتها الخاصة[2].

مهازل التحقيق
حرصت اللجان الإسرائيلية على معالجة الجرائم بمعزل عن الأسباب والبيئة والظروف التي دفعت إلى تنفيذها، كما حدث في مذبحة صبرا وشاتيلا، حيث لم تبحث اللجنة في جوهر وأسباب هذه المذبحة، التي جاءت بعد احتلال القوات الإسرائيلية لمدينة بيروت وسيطرتها عليها، وتركها المخيم مشاعاً لحلفائها من المليشيات الفاشية اللبنانية.

لم تدن اللجنة دولة إسرائيل أو جيشها، بقولها إن المذبحة نفذت على يد مليشيات القوات اللبنانية، متناسية أن جيشها سمح لهذه القوات بدخول المخيم المحاصر من جانب قواتها. لكن اللجنة حمّلت مسؤوليات شخصية فارغة من أي مضمون عملي، لقيادات إسرائيلية في أعلى مناصب الدولة مثل رئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن – الذي سبق أن قاد مذابح بحق الفلسطينيين في قرية دير ياسين سنة 1948- فاعتبرته مسؤولاً جزئياً عما جرى، بينما طالبت وزير الدفاع حينها أريئيل شارون، باستخلاص العبر أو استخدام رئيس الحكومة صلاحياته بإقالته. كما أوصت اللجنة، بعدم التجديد للفريق رفائيل إيتان الذي أنهى 4 سنوات خدمة في رئاسة هيئة الأركان، قبل شهرين من نهاية خدمته. بينما طالبت اللجنة بإقالة رئيس جهاز الاستخبارات العامة يهوشع سغيئ من منصبه، وغيرها من التوصيات[3].

لجنة القاضي مئير شمغار التي حققت في أسباب مذبحة الخليل لم تتطرق إلى الاحتلال والاستيطان في قلب مدينة الخليل.

أمّا مذبحة جنين التي قتل فيها 52 من أبناء المخيم، فقد قررت الحكومة الإسرائيلية برئاسة أريئيل شارون التعاون، في البداية، مع لجنة التحقيق الدولية المقرة من مجلس الأمن، لكن إصرار رئيس أركان الجيش الإسرائيلي حينها شاؤول موفاز على عدم إشراك أي من الجنود في التحقيق دفع الحكومة فيما بعد إلى التراجع عن التعاون مع اللجنة ومنع العديد من أعضائها من الدخول إلى الضفة الغربية.

الموقف من لجنة التحقيق في مذبحة مخيم جنين، لم يعط مؤشراً على عدم اكتراث إسرائيل بالمؤسسات الدولية فقط، بل أعطى مؤشرات قوية وواضحة عمن هو صاحب القرار النهائي في الدولة “الأكثر ديمقراطية” في الشرق الأوسط..

وما كان الجندي آزاريا قاتل الشاب الفلسطيني عبد الفتاح الشريف في الخليل سيخضع لأي تحقيق أو محاكمة، لولا كاميرا أحد المواطنين التي وثقت الحدث، ولولا شدة الاحتجاجات التي استدعت تقديم الجندي إلى المحاكمة بتهمة القتل غير العمد والتصرف بشكل غير ملائم، وهو ما دفع بالقضاة إلى الحكم عليه بالسجن مدة 18 شهراً، تم تخفيضها إلى 4 أشهر بأمر من رئيس الأركان نفسه، في حين توكلت لجنة الإفراجات بتخفيف ثلث فترة السجن بحيث مكث في السجن أقل من 8 أشهر، وعند الإفراج عنه استقبل استقبال الأبطال ممن يدّعون أنهم أبناء دولة القانون وأبناء أكثر الجيوش “أخلاقية” في العالم، وتحول آزاريا من جندي مجهول في جيش الاحتلال، إلى شخصية عامة في المجتمع الإسرائيلي، أسوة بغيره من القتلة الذين وصلوا إلى أعلى المراتب على مدار وجود الدولة العبرية.

بعد عملية “الرصاص المصبوب 2008، نشرت صحيفة هآرتس حواراً بين الجنود الذين شاركوا في العدوان على قطاع غزة، تحدثوا فيه عن الجرائم التي ارتكبوها بحق السكان هناك، فقال أحدهم أنه: “وبعد أن قتل 4 أطفال واصل السير إلى الأمام. وأضاف إن ذلك يشبه من يحتل منزلاً ويمسح سكانه عن وجه الأرض ويستولي على البيت”[4].

وفي إثر حوار الجنود شُكلت لجنة تحقيق عسكرية، وسرعان ما أُغلق الملف بعد أسبوعين من التحقيق، من دون التحقيق مع الجنود أو مع المسؤولين عن تصرفاتهم، وقد صرح المدعي العسكري العام للجيش أفيحاي ميندل بليت، الذي أصبح فيما بعد مستشاراً قضائياً للحكومة، وبعد أن انتقد الجنود على حوارهم: “بالغ الجنود في وصف أعمالهم، أو أنهم تحدثوا على أنهم سمعوا إشاعات عن جرائم ارتكبت، أو تناقلتها وسائل الإعلام فقط”[5].

بعد عدوان 2014 على قطاع غزة الذي قتل خلاله ما يقارب من 2200 فلسطيني وجرح أضعاف هذا العدد، وتهدم وتضرر ما يقارب 18 ألف منزل، لم تجد لجنة التحقيق أي متهم بارتكاب جرائم حرب، ولم يتوقف التحقيق الإسرائيلي عند عملية قتل عائلات بكاملها في القطاع ولا حتى عملية قتل الأطفال الأربعة ولا المنازل التي دمرت على رؤوس أصحابها. وخلصت اللجنة إلى أن هناك 500 حالة استثنائية وقعت في 300 حادث. وتم التأكد من 220 حادث تستحق التحقيق، لكن اللجنة خلصت إلى تقديم 80 شكوى فقط للنيابة العسكرية. وعندما وصلت بقية الشكاوى إلى النائب العسكري العام، سُحبت كل الملفات، باستثناء ملف واحد لا غير، قام خلاله جنديان بسرقة مبلغ 2420 شيقلاً من منزل في حي الشجاعية[6].

أمّا توصيات لجنة التحقيق في “الأحداث الشاذة” المشكلة من جانب هيئة الأركان في الجرائم التي ارتكبتها مؤسسات الاحتلال، بعد قرار ما يُسمى بمحكمة العدل العليا سنة 2021، القاضي بالموافقة على طرد السكان الفلسطينيين من حي الشيخ جراح في القدس، وإحلال مستوطنين يهود مكانهم، وما تبعها من عمليات القتل في جميع أنحاء فلسطين التاريخية، بما في ذلك العدوان الوحشي على قطاع غزة والذي أسفر عن قتل 200 فلسطيني وتدمير البنية التحتية في قطاع غزة، فلم تخرج عنه سوى قضية تحقيق واحدة، لم ينته التحقيق فيها حتى اليوم، في حين أغلقت اللجنة 84 ملف تحقيق.

ولم يجر التحقيق مع المستويات السياسية والقادة العسكريين المسؤولين عن إصدار الأوامر، وكانت النيابة العسكرية العامة التي قادها ضباط مثل إيريز ربن وأفيحاي ميندل بليت وغيرهم، هي المسؤولة عن التحقيق، أي أن الحَكَم والجلاد واحد، ومن مهمته الدفاع عن جنود الاحتلال وجرائمهم، وهو الجهة المخولة بالتحقيق في الجرائم المرتكبة من جانبهم[7].

لجان التحقيق الإسرائيلية في الجرائم المرتكبة بحق الشعب الفلسطيني اليوم، لا تختلف عن نتائج لجنة التحقيق في مذبحة كفر قاسم التي ارتكبت سنة 1956 وذهب ضحيتها 49 مواطناً فلسطينياً، حيث تبين لأجهزة التحقيق والقضاء الإسرائيلية أن كل الشهداء يساوون قرشاً واحداً، هي قيمة الغرامة التي فرضت على ضابط الشرطة المسؤول عن إعطاء أوامر قتل الفلسطينيين المقدم يسسخر شيدمي.

استمرار العداء للتحقيق الدولي
تعاملت إسرائيل مع نوعين من لجان التحقيق الدولية في الجرائم وخرق حقوق الإنسان الفلسطيني منذ احتلالها (الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس) سنة 1967. الأول، كان مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، الذي من صلاحياته التوقف عند الانتهاكات الإسرائيلية. والثاني لجان التحقيق التي شكلها الأمين العام للأمم المتحدة بموجب قرارات الأمم المتحدة. وحتى سنة 2014 شُكلت 13 لجنة تحقيق دولية متعلقة بإسرائيل 9 منها من جانب مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة و4 من الأمين العام للأمم المتحدة[8].

في الوقت الذي ظلت دولة الاحتلال الإسرائيلي، ترفض التعامل مع أي لجان تحقيق أو استقصاء معلومات دولية، وخصوصاً مجلس حقوق الإنسان، بذريعة أن المجلس معادٍ لدولة الاحتلال، وأن لجان التحقيق التي شكلها تمت لاعتبارات سياسية، علاوة على احتجاجها على تركيبة اللجنة التي اعتبرتها معادية بشكل دائم لإسرائيل، وعلى صلاحيات عملها[9].

ولم تكتف دولة الاحتلال بالموقف السلبي من لجان التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان، بل منعت مندوبيه العاملين في هذا المجال من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو ما دفع بالجهات الفلسطينية الرسمية وغير الرسمية إلى التوجه إلى العاصمة الأردنية عمّان للقاء مفوض حقوق الإنسان وتسليمه مختلف التقارير المتعلقة بالانتهاكات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.

وتأتي المواقف الإسرائيلية الرافضة للتعاون مع مجلس حقوق الإنسان، بدعم من الولايات المتحدة ودول غربية رافضة لمنطق مساءلة إسرائيل على جرائمها وانتهاكاتها بحق الشعب الفلسطيني. أمّا المواقف الإسرائيلية من لجان التحقيق نفسها، وخصوصاً تلك التي أنشئت بعد سنة 2000، من الأمين العام للأمم المتحدة فيمكن تلخيصها بالتالي:

مذبحة مخيم جنين – بناءً على قرار من الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان شكلت لجنة تحقيق في عدوان إسرائيل على مخيم جنين الذي دُمرت أحياء منه على رؤوس ساكنيها، ما تسبب باستشهاد 52 فلسطينياً.

لجنة التحقيق برئاسة القاضي اليهودي ريتشارد غولدستون، الذي حملت اللجنة اسمه، والتي عيّنت في أعقاب المذابح التي نفذتها إسرائيل بحق سكان قطاع غزة في عدون 2012 الذي تسبب بقتل 1434 مواطناً ومواطنة وتدمير آلاف المنازل. رفضت دولة الاحتلال التعاون مع اللجنة، وللالتفاف عليها، اكتفت دولة الاحتلال بتشكيل لجان فحص وتدقيق، من جانب الجهة التي نفذت الجريمة، أي جيش الاحتلال الإسرائيلي، الذي قدم توصيات واستنتاجات لا تدعم أي تغيير مستقبلي في تصرفات جيش الاحتلال في تعامله مع الشعب الفلسطيني. وعندما راسلت إسرائيل الأمين العام للأمم المتحدة كوفي عنان، بشأن نتائج التحقيق التي خرجت بها لجنة غولدستون، بلغته أن ردها ليس استجابة لنتائج لجنة التحقيق التي لا تعترف بها، بل هو رد على مطالبه، وبلغته أن عملياتها العسكرية جرت وفق المعايير التي تتبعها الدول الديمقراطية، وأنها أجرت تحقيقاً في 135 مخالفة، من جانب جهاز النيابة العسكرية العامة، الذي وصفته بالمستقل، والذي أوصى بالتحقيق في 36 قضية. لكن جهاز القضاء العسكري الإسرائيلي أغلق كل ملفات التحقيق، لأن المشتكين الفلسطينيين رفضوا التعاون، أو أن القضايا المقدمة لا تمتلك أدلة كافية للبت فيها قضائياً، واكتفت بتوجيه تهمة السرقة إلى بعض الجنود لسرقتهم “فيزا كارت”[10].

لجنة التحقيق الدولية التي شكلها مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة سنة 2021 للتحقيق في الجرائم الإسرائيلية في القدس (الشيخ جراح) وخلال العدوان على قطاع غزة. رفضت الحكومة الإسرائيلية التعاون معها متهمة رئيستها، نافي بيلاي بأن لديها أجندة خاصة معادية لإسرائيل، ورفضت استقبالها وبقية أعضاء اللجنة في دولة الاحتلال، أو حتى عبورها إلى قطاع غزة. وتمحور خوف دولة الاحتلال الأساسي من لجنة التحقيق الدولية من إمكان توصل اللجنة إلى استنتاجات بأن دولة الاحتلال الإسرائيلي هي دولة تمييز عنصري داخل الخط الأخضر وخارجه[11].

يتلخص الموقف الإسرائيلي من لجان التحقيق الدولية برفض التعاون بشكل مطلق مع أي لجنة تحقيق إن كان من مؤسسات دولة الاحتلال أو الأفراد الذين يحملون جنسيتها، والادعاء بأن نتائج التحقيقات الدولية مكتوبة سلفاً، وبالتالي عدم الاعتراف باستنتاجاتها أو الخلاصات التي توصلت إليها، وعدم السماح لأعضاء هذه اللجان بدخول أراضي دولة الاحتلال الإسرائيلي سوى في حالات تعرضت فيها إسرائيل لضغوط دولية، وخصوصاً الأميركية منها.

خلاصة
لم تنشغل لجان التحقيق الإسرائيلية يوماً بالبحث عن الحقيقة في الجرائم التي ارتكبها جنودها وضباطها ومستوطنوها والمسؤولين فيها، على مختلف مستوياتهم السياسية والعسكرية، من أجل استخلاص العبر، كي لا تتكرر تلك الجرائم، بل كان جل هدفها المماطلة والتسويف وإضاعة الوقت، كي تصرف اهتمام الرأي العام والجهات القضائية الدولية على مختلف درجاتها، عن إمكان التحقيق في الجرائم التي ارتكبت.

المشكلة الأهم في لجان التحقيق الإسرائيلية، والنيابة العسكرية والقضاء، الذين يعرفون كل المعطيات التفصيلية المتعلقة بكل جريمة على حدة، هو إقدامهم على إغلاق 80% من الملفات قبل التحقيق فيها، في حين أغلقت بقية الملفات لعدم اكتمال الأدلة، أو لعدم اهتمام الرأي العام فيها، أو لعدم تعاون المشتكين مع اللجنة، أو الإبقاء عليها مفتوحة كي لا يتدخل القانون والقضاء الدولي، فهناك قضايا في قيد التحقيق والبحث منذ العدوان على قطاع غزة سنة 2014.

أمّا المثير للسخرية، فهو نتائج التحقيقات الإسرائيلية نفسها، التي كشفت خلال ثلاثة حروب على قطاع غزة حالتي سرقة ببضعة آلاف من الشواقل، ولم تكترث باستشهاد آلاف الفلسطينيين وهدم بيوتهم على رؤوسهم في قطاع غزة، وممارسة إعدامات ميدانية متواصلة منذ سنوات طويلة في الضفة الغربية، كل ذلك يجرى وفق “المعايير المتبعة في الدول الديمقراطية”!!!.

لذلك لم يكن غريباً أن يصرح وزير المنافي الإسرائيلي، نحمان شاي عن رأيه في لجان التحقيق الإسرائيلية بقوله: “أنها لا تتمتع بالثقة العالية، وعلى إسرائيل إشراك الولايات المتحدة بالتحقيق في مقتل الصحافية شيرين أبو عاقلة”. في حين قررت لجان حقوق الإنسان مثل “بيتسيلم” الإسرائيلية، وقف تعاونها مع جيش الاحتلال، وعدم تزويده بشهادات الأشخاص المتضررين من الجرائم الإسرائيلية، مفضلة التوجه مباشرة إلى المجتمع والجهات القضائية الدولية.

خلاصة القول، هو أن إسرائيل أحسنت صنعاً بعدم تشكيلها لجنة تحقيق في استشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة، كي تعطي مجالاً للجهات القضائية الدولية التحقيق في هذه الجريمة، هذا إن رغبت تلك الجهات القيام بهذه المهمة.

[1] . عاموس هرئيل، التحقيق الداخلي لأحداث “تسوك إيتان” من شأنه منع اتخاذ خطوات ضد الجيش الإسرائيلي في الخارج، 3\1\2015، رابط المقال على موقع صحيفة هآرتس الإلكتروني.
[2]. إجراءات الإخفاء: التحقيق فيما بدى من أحداث في تسوك إيتان، ص 9-10، تقرير صادر عن مركز الحقوق الإسرائيلي “بيتسيلم” 2016.
[3] . أرنون لمفروم، مراجعة تسعة ملفات حول نقاشات الحكومة الإسرائيلية لتشكيل لجنة كاهان والموافقة على توصياتها، مقتل أميل غيرنتسفييغ، 10\2\1983، أفرج الأرشيف الإسرائيلي عن المواد في 21\2\2013.
[4] . يوفال بيزك، ملحق خاص في أعقاب العملية العسكرية “الرصاص المنصهر”، ص 2، أعده الموقع الإلكتروني الاخباري “news 1 “ 2009.
[5] . روعي كونفينو وياعل كوهين-ريمر، إغلاق ملفات شهادات الجنود؟ أحقاً هو الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، مقالة خاصة نشرت في المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، 15\5\2009.
[6] . مصدر سبق ذكره. تقرير صادر عن مركز الحقوق الإسرائيلي “بيتسيلم” 2016.
[7] . المصدر نفسه، ص 5-6.
[8] . شكلت بعد سنة 2014 لجان تحقيق دولية من أهمها لجنة التحقيق في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل خلال عدوانها على قطاع غزة سنة 2014 التي ترأستها الأميركية ماري ماكغوان ديفيس ودود ديين من السنغال ووليام شاباس من كندا، ولجنة التحقيق الدولية بجرائم إسرائيل في الشيخ جراح والعدوان على قطاع غزة سنة 2021 برئاسة نافي بيلاي، وكذلك لجنة التحقيق الدولية بالانتهاكات الإسرائيلية سنة 2018 التي ترأسها سانتياغو كانتون من الأرجنتين وسارة حسين من بنغلادش وكاري بيتي مورنغي من كينيا.
[9] . إيتي فيلدمان، علاقة إسرائيل مع لجان التحقيق الدولية، مركز البحث والمعلومات في الكنيست، 2014، ص 4.
[10]. يتسحاق بن حورين، رد إسرائيل على التقرير: ولا أي كلمة على لجنة التحقيق، صحيفة يديعوت أحرنوت، رابط المقال الإلكتروني.
[11] . يهوناتان ليس، إسرائيل ترفض لقاء رئيسة لجنة التحقيق التابعة للأمم المتحدة في العملية العسكرية “حارس الأسوار”، 17\2\2022، رابط المقال الإلكتروني .

عليان الهندي – مؤسسة الدراسات الفلسطينية

اساسياسرائيل
Comments (0)
Add Comment