تأثير الحرب على الموقع الدولي للولايات المتحدة

يثير العدوان الإسرائيلي على غزة مخاطر على مستويات عدّة تؤثر على المكانة الدوليّة للولايات المتّحدة، وهو ما يجعلها تمنع الذهاب إلى حرب كبرى تهدّد مصالحها الداخلية والخارجية، لكنها تستفيد من الحرب في غزة بالتأسيس لواقع سياسي جديد أصبحت ظروفه مؤاتية. وتتمثّل تلك المستويات في القدرات العسكرية والتنافس العالمي والأثمان البشرية والمادية المحتملة والخسائر الاقتصادية وتهشّم الدبلوماسية التي تعد يد أميركا الطولى في دول المنطقة. لذلك يبقى الضوء الأخضر الأميركي للاحتلال مطلق ضمن نطاق غزة، مع اختلاف وتيرة التصعيد من وقت لآخر بحسب مقتضيات المرحلة.

خسارة التنافس العالمي

تأخذ الولايات المتّحدة في حساباتها الاستراتيجيّة التنافس مع الخصوم، ومن هنا تنظر إلى مكاسب وأثمان أي صراع قائم أو محتمل توازيًا مع السباق الدولي في الاقتصاد والعسكر والدبلوماسية، فمثلًا في الملف الاقتصادي، تعد كل من روسيا وإيران منتجان رئيسيان للنفط، وإبقاء مضيق هرمز مغلق يمكن أن يدفع أسعار النفط إلى ما هو أبعد من 100 دولار للبرميل، مما يزيد بشكل كبير من الضغوط التضخمية، خاصة وأن “الصين هي حامل رئيسي للديون الأمريكية، وقد تؤدي عمليات البيع المستمرة من جانب بكين إلى ارتفاع عائدات السندات الأمريكية وفرض مزيد من الضغوط على الاقتصاد. ومن الممكن أن نفترض أن الأميركيين سيواجهون نقصاً في كل شيء، بدءاً من الإلكترونيات وحتى مواد بناء المنازل[1].

تحدّيات استراتيجية مع الصين

تعد الصين إحدى أهم التحدّيات الاستراتيجية للولايات المتحدة، نظرًا لقدراتها الاقتصادية والعسكرية المتصاعدة، ودبلوماسيتها العالية مع دول العالم، وتحديدًا الجنوب العالمي حيث تجد الشعوب نفسها أكثر انحيازًا لبكين من واشنطن كونها لم تتورط في حرب ضدها حتى الآن، ولا تشكل عليهم أي تهديد عليها، ولا تتدخل سياسيًا في حكوماتها ومجتمعاتها. كما تجيد الصين احترام انتماء شعوب الجنوب للقضية الفلسطينية، فتحرص على الدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني وضرورة إنهاء الحرب الحالية لا سيما في مجلس الأمن أو في التصريحات الرسمية.

 من جهة ثانية، تنهمك الولايات المتحدة في تسليح أوكرانيا منذ عامين، وأيضًا تدعم الكيان الإسرائيلي، لكن الصين لا تواجه مثل هذه التحديات، ولذلك لا تملك أي عوائق لبناء جيشها والاستثمار ماليًا ودبلوماسيًا في مختلف دول العالم.

الاقتصاد الأميركي

تؤثر الأحداث الجيوسياسيّة على الأوضاع الاقتصادية، وبطبيعة الحال، سيكون سيناريو الحرب الإقليمية عاملًا سلبيًا على الاقتصاد الأميركي. وبالنظر إلى أن قوّة أميركا العالمية تكمن بالدرجة الأولى في اقتصادها وهيمنتها المالية على جميع دول العالم، فإن هذا الملف يثير حفيظة الخبراء الاقتصاديين في الولايات المتحدة للحديث عن المخاطر، وفي هذا الإطار يقول توم هاينلين، استراتيجي الاستثمار الوطني في إدارة الثروات بالبنك الأمريكي: “في الولايات المتحدة، نحن أكثر عزلة قليلاً عن التداعيات الاقتصادية الناجمة عن الصراعات مقارنة بأجزاء أخرى من العالم، ومع ذلك فهو يشير إلى أنه “هناك خطراً أكبر بالنسبة للشركات المتعددة الجنسيات. وإذا تباطأت الاقتصادات العالمية نتيجة للصراعات الحالية، فقد يكون لذلك تأثير سلبي على النشاط التجاري وعلى الشركات الأمريكية”[2]. كما يقول هاينلين: “إذا استمرت التوترات العالمية في التصاعد، فمن الواضح أن هذا سيمثل حدثًا سلبيًا قد يكون له تأثير ضار على الأسواق”.

وكان البنك الدولي في الثلاثين من أكتوبر/تشرين الأول قد حذّر من أن الصراع بين “إسرائيل” وغزة قد يؤدي إلى “صدمة” اقتصادية عالمية، بما في ذلك ارتفاع أسعار النفط إلى 150 دولاراً للبرميل ومجاعة الملايين بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية. ويمكن أن يعكس الأزمة التي حدثت خلال حرب عام 1973، عندما فرض الأعضاء العرب في منظمة أوبك، بقيادة المملكة العربية السعودية، حظراً على مبيعات النفط إلى الولايات المتحدة رداً على قرار واشنطن إعادة إمداد الجيش الإسرائيلي[3].

الخسائر البشرية

ستتكبّد الولايات المتحدة خسائر بشرية عالية في أي صراع عالمي، فمن المرجّح أن يُقتل عدد كبير من جنود وضباط الجيش الأمريكي، وهو ما سيحرج الإدارة الأميركية أمام شعبها الذي لا يرى جدوى بالدخول في المزيد من الصراعات والحروب وتقديم تضحيات، فما يبحث عنه هو الأمن والسلام والضمانات الاقتصادية والمعيشية. من جهة أخرى، تتخوّف الولايات المتحدة من خصومها الذين “يمتلكون قدرات تقليدية نووية يمكنها الوصول إلى الأراضي الأمريكية، وأيضًا من أولئك الذين يتمتعون بالقدرة على إلهام أو توجيه “هجمات إرهابية” على غرار هجمات حماس، وهو ما قد يكون تنفيذه أسهل نظراً للحالة التي يسهل اختراقها على الحدود الجنوبية للولايات المتحدة[4].

أخطاء الماضي

نبّه العديد من المحلّلين الأميركيين من أن تدخل الولايات المتحدة في مواجهات عسكرية مباشرة تقود إلى نتائج كارثية، على غرار ما حصل في العراق، من عام 2003 إلى عام 2011، ثم في سوريا من عام 2014 إلى عام 2017، وفي أفغانستان من عام 2001 إلى عام 2021. فربما تمتلك الولايات المتحدة “أقوى جيش في العالم، ولكن كما أثبتت الهزائم الأمريكية في فيتنام وأفغانستان، فإن هذا لا يضمن النصر على عدو مصمم وواسع الحيلة، كما في حالة الأعداء في الشرق الأوسط اليوم[5]. ويلفت المحللون إلى أن “توازن القوى بين الجيوش التقليدية وغير التقليدية – أو الجيوش الكبيرة والجيوش الصغيرة – لم يعد بالضرورة خوارزمية قابلة للحساب على أساس عدد الأسلحة والرجال”[6].

تطور جبهة الشمال

رغم أن الحرب القائمة بين الكيان الإسرائيلي وجنوب لبنان لا تزال منضبطة حتى الآن، إلا أن الولايات المتحدة تنظر إليها بقلق، خشية تحوّلها إلى حرب شاملة على لبنان، فأمام التطور العسكري والتقني في حزب الله تحذر الولايات المتحدة من دخوله في حرب مع الكيان الإسرائيلي، وهو ما سيضعه أمام تهديد أكبر من ذاك الذي يشكله نفس وجود حزب الله على حدود فلسطين المحتلة، ولذلك تتطلع واشنطن إلى تثبيت قواعد الاشتباك بين حزب الله والعدو عندما تنتهي الحرب في غزة، وليس حرب على لبنان، فذلك لا يعني فقط أن تصبح جزءًا من الصراع، إنما سيحرجها داخليًا مع اللوبي الصهيوني الذي تلتزم أمامه بحماية “إسرائيل”.

المخاطر العسكرية

انتقد الكتّاب والصحفيون التحرّك الأميركي العسكري في بداية الحرب على غزة، بل إن الرئيس بايدن نفسه كان قد حذّر “إسرائيل” مراراً وتكراراً من ارتكاب نفس “الأخطاء” التي فعلتها الولايات المتحدة في أعقاب 11 أيلول/ سبتمبر 2001، لكن مع ذلك نشرت الولايات المتحدة مجموعتين من حاملات الطائرات، في منطقة شرق البحر الأبيض المتوسط والبحر الأحمر، فضلًا عن إرسال 4000 جندي إضافي إلى المنطقة، و2000 جندي آخرين على أهبة الاستعداد، إضافة إلى حوالي 30 ألف جندي موجود مسبقًا.

ورغم التطوّر العسكري الذي يملكه الاحتلال إلا أنه في مرحلة ما وأمام أي حرب كبر سيرى أنه بات مجهدًا، وهنا سيكون لزاماً على الولايات المتحدة أن “تتحمل نصيب الأسد في القتال وسوف تتحمل غالبية تكاليفه. ومن شأن مثل هذه الحرب أن تؤدي إلى مستويات جديدة دراماتيكية من التزامات الولايات المتحدة وتشابكاتها في المنطقة في وقت لم يعد فيه الشرق الأوسط يمثل مسرحًا أساسيًا للمصالح الأمريكية”[7].

فشل سياسة الاحتواء

تعمل واشنطن منذ عملية طوفان الأقصى على ردع محور المقاومة وتحجيم دوره في الحرب على غزة، بدءًا من إيران إلى العراق وصولًا إلى لبنان وسوريا واليمن. ففي الوقت الذي كانت الإدارة الأميركية تظن أنها احتوت محور المقاومة تفاجأت بالنتائج مع تصاعد العمليات العسكرية التي نفّذها خلال العدوان الإسرائيلي، و”مما يزيد من صعوبة هذه المهام حقيقة أن هذه الجماعات تنسق فيما بينها وتتلقى المساعدات المالية والاستخباراتية والأسلحة الإيرانية، لكن أفعالها مستقلة إلى حد كبير عن طهران”[8]، وهذا ما جعل الولايات المتحدة تبادر للانخراط العسكري المباشر في الحرب ولو بدرجة منخفضة، لكنه أثبت فشل التسوية السياسية مع دول المحور. 

أيضًا أشار محللون إلى أنه بدلاً من تقليص التدخل الأمريكي في غرب آسيا كما سعت إدارة بايدن، تجد نفسها الآن تميل إلى نفس نوع التهديدات التي أرادت الابتعاد عنها. علاوةً على ذلك، وإلى درجة غير مسبوقة، فإن “التطورات في الشرق الأوسط لها تأثير كبير محتمل على السياسة الداخلية للولايات المتحدة، واحتمالات إعادة انتخاب الرئيس جو بايدن، وبالتالي مسار الديمقراطية الأمريكية خلال الإدارة المقبلة حيث تهدد المجتمعات الأمريكية المسلمة الغاضبة بعدم الإدلاء بأصواتها. تصويتهم لبايدن”[9].

تهديد الدبلوماسية

إن التوجّه الأميركي الحالي هو إبرام اتفاقيّات تطبيع مع دول المنطقة، وهذا ما تسوّق له واشنطن كإنجاز دبلوماسي عظيم يحقّق السلام العالمي، وهو خطاب فعّال ومثمر داخليًا وخارجيًا. ولذلك يمكن للحرب الإقليمية أن تنهي مسار الدبلوماسيّة في غرب آسيا والذي كان قد بدأ مع اتفاقيات أبراهام، كما أنها ستجعل الولايات المتحدة شريكةً في القتال لا وصيةً على السلام كما تقول دائمًا.  

الرأي العام العالمي

منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، تشهد الدول الغربية والولايات المتحدة على وجه الخصوص مظاهرات مؤيدة للقضية الفلسطينية، ومؤخرًا وصلت الاحتجاجات إلى الجامعات الأميركية والأوروبية، وقد ظهر التأييد العلني لفلسطين في صفوف الطلاب والأساتذة على حد سواء. هذه النقمة العالمية لم تقتصر فقط على الكيان الإسرائيلي إنما طالت أيضًا المسؤولين الأميركيين، ففي 31 أكتوبر/تشرين الأول، قام العديد من المتظاهرين بتعطيل شهادة وزير الخارجية أنتوني بلينكن أمام الكونغرس حول قضايا الأمن القومي الأمريكي، وصرخت امرأة وهي تلوح بلافتة “لا لحصار غزة” قبل أن يطردها الأمن، ويعد ذلك سابقة في تاريخ الإدارة الأميركية، ويؤثر جدًا على صورتها ومكانتها العالمية كصانعة سلام وحريصة على أمن الشعوب وحقوقها. 

الرأي العام المحلي

يشكّل الرأي العام المحلي في الولايات المتحدة عامل ضغط منذ بدء العدوان الإسرائيلي على غزة، فقد شهدت الولايات الأميركية آلاف الاحتجاجات المناصرة لفلسطين وصولًا إلى الحراك الطلابي في الجامعات، وهو ما يشكّل ورقة ضغط مهمة قد تحول من تقدّم بايدن في الانتخابات الأميركيّة. وفي استطلاع رأي أجري في شهر شباط/ فبراير، يطرح عدة أسئلة حول دور أمريكا في الحرب بين “إسرائيل” وحماس، قال أغلبية الأمريكيين (55%) إن الولايات المتحدة يجب أن تلعب دورًا في الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب، فيما رأى آخرون أنه على الولايات المتحدة أن تلعب دورًا ثانويًا (35%) بدلاً من دور رئيسي[10].


[1] Foreign policy, America Is a Heartbeat Away From a War It Could Lose, NOVEMBER 16, 2023.

[2] Usbank, Geopolitical conflict and its impact on global markets, April 19, 2024.

[3] Wilsoncenter, The Five Global Dangers from the Gaza War, October 31, 2023.

[4] Foreign policy, America Is a Heartbeat Away From a War It Could Lose, NOVEMBER 16, 2023.

[5] Wilsoncenter, The Five Global Dangers from the Gaza War, October 31, 2023.

[6] See ibid 4.

[7] Cato institute, US Is Barreling toward Another War in the Middle East, NOVEMBER 6, 2023.

[8] Carnegiee, Governing Gaza After the War: The International Perspectives, FEBRUARY 26, 2024.

[9] Brookings, 6 months on: What is the impact of the war in Gaza?, April 5, 2024.

[10] Pewresearch, Views of the U.S. role in the Israel-Hamas war, MARCH 21, 2024.

مركز الاتحاد للابحاث والتطوير

اساسي
Comments (0)
Add Comment