عادةً ما تؤدي الأزمات الاقتصادية إلى حدوث تغير ملموس في السلوك الاقتصادي للأفراد، فخلال الأزمة المالية العالمية عام 2008، وإبان جائحة كوفيد-19، انخفض الإنفاق الاستهلاكي الخاص في أنحاء مختلفة من العالم استجابةً لهذه الأزمات. وحالياً، تسببت التداعيات السلبية للحرب الروسية – الأوكرانية في ارتفاع معدلات التضخم العالمية، وتزايد حالة عدم اليقين، الأمر الذي نجم عنه تراجع ثقة المستهلكين الأوروبيين والأمريكيين بشأن اقتصاداتهم، ومن ثم انخفاض مستويات إنفاقهم، جنباً إلى جنب مع تراجع مستويات ادخارهم.
متغيرات ضاغطة:
فرضت الأزمة الروسية – الأوكرانية متغيرات جديدة أدت إلى تغير السلوك الاقتصادي للأفراد حول العالم على صعيد الاستهلاك والادخار والاستثمار، وذلك على النحو التالي:
1- ارتفاع معدلات التضخم: تسبب ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة الناتج عن الأزمة الأوكرانية، في وصول معدلات التضخم العالمية إلى مستويات قياسية غير مسبوقة. وتشير تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أن التضخم في طريقه للارتفاع بنهاية عام 2022 ليبلغ 7.2% في الاقتصادات المتقدمة، و9.9% في الاقتصادات الناشئة والنامية. ويواكب ذلك استمرار تباطؤ وانكماش العديد من الاقتصادات العالمية في الأشهر الأخيرة، مما يرجح أنها باتت على وشك دخول حالة الركود التضخمي مع بداية عام 2023.
وقد تسببت معدلات التضخم المرتفعة والأوضاع الاقتصادية المتقلبة، في إثارة مخاوف وقلق المستهلكين. فوفقاً لاستطلاع أجرته شركة “ماكنزي آند كومباني” تحت عنوان: “مسح نبض المستهلك” في الفترة من 23 سبتمبر إلى 2 أكتوبر 2022، شمل عينة من 5 آلاف مستهلك في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة، رأى 58% من الأوروبيين المُستطلعة آراؤهم أن ارتفاع الأسعار هو أكبر مخاوفهم، وتلي ذلك عوامل أخرى، مثل الحرب الأوكرانية، والظواهر المناخية المتطرفة، والبطالة، وعدم اليقين السياسي.
بالمثل، يُلاحظ أيضاً أن مشكلة ارتفاع الأسعار تقع ضمن قائمة أبرز مخاوف المستهلكين الأمريكيين. فبحسب استطلاع رأي أجرته شركة “ماكنزي آند كومباني” تحت عنوان: “مسح نبض المستهلك” في الفترة من 6 إلى 10 يوليو الماضي، شمل عينة من 4 آلاف مستهلك أمريكي، كان التضخم مصدر القلق الأول لنحو ثُلثي المشاركين، ويفوق ذلك المخاوف الاقتصادية والسياسية والشخصية الأخرى.
2- تراجع الأجور الحقيقية: مع تراجع التحفيز الحكومي، وتصاعد التضخم العالمي، تشهد الأجور الحقيقية تراجعاً في أنحاء مختلفة من العالم. فعلى سبيل المثال، أوضحت تقديرات نشرها بنك الاحتياطي الفيدرالي في دالاس في أكتوبر 2022، أن حوالي 53.4% من العمال عانوا انخفاض الأجر الحقيقي.
3- تهديد النشاط الاقتصادي: يواجه العالم حالة من اضطراب النشاط الاقتصادي والإنتاجي بسبب الحرب الأوكرانية. وقد تراجع مؤشر مدراء المشتريات التصنيعي العالمي خلال شهر سبتمبر 2022 مسجلاً 49.8 نقطة، مما يشير إلى انكماش نشاط التصنيع لأول مرة منذ يونيو 2020. ويأتي ذلك أيضاً وسط تشديد مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لسياسته النقدية، وموافقته في 2 نوفمبر 2022 على رفع سعر الفائدة للمرة الرابعة على التوالي بمقدار 75 نقطة أساس، الأمر الذي سيُحمل أسواق الدين والمال في الاقتصادات الناشئة خسائر طارئة.
أنماط جديدة:
منذ نشوب الحرب الأوكرانية في 24 فبراير الماضي، تراجعت ثقة المستهلكين حول العالم في أداء اقتصاداتهم ونظرتهم بشأن الأعباء المعيشية. وسجل مؤشر ثقة المستهلك العالمي الصادر عن شركة “إبسوس” (Ipsos) نحو 45.6 نقطة في أكتوبر 2022، وهو مستوى انكماشي، ليظل عند أدنى مستوى له منذ أكثر من عام. جدير بالذكر أن المؤشر يمثل متوسط عام لمؤشرات الثقة لنحو 23 دولة حول العالم، تم الحصول عليها من خلال استطلاع رأي ضم أكثر من 17 ألف مستهلك تقل أعمارهم عن 75 عاماً خلال الفترة من 23 سبتمبر إلى 7 أكتوبر 2022.
وقد أشارت نتائج المؤشر إلى تراجع ثقة المستهلكين في 17 دولة من بين 23 دولة تضمنها الاستطلاع، مقارنةً بما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الأوكرانية، في حين ارتفعت ثقة المستهلكين في 4 دول فقط وهي المملكة العربية السعودية، والبرازيل، والهند، وتركيا.
وقد تأثر السلوك الاقتصادي للأفراد، لا سيما في الولايات المتحدة وأوروبا، استجابةً للأزمة الروسية – الأوكرانية، على جانب الإنفاق والادخار وكذلك الاستثمار، وهو ما يتضح في الآتي:
1- تغير أنماط الاستهلاك: بصفة عامة، تدفع الأزمات الاقتصادية نحو تراجع الميل الاستهلاكي للأفراد، فقلة فقط من المستهلكين يكون بمقدورهم الاستمرار في الاستهلاك بالمعدلات السابقة نفسها وسط عدم اليقين الاقتصادي الحالي. وفي ظل الأزمة الراهنة، نشأت بعض الأنماط الاستهلاكية الجديدة في أوروبا والولايات المتحدة، كالتالي:
أ- تغير بنود الإنفاق في الميزانية: في استطلاع “ماكنزي آند كومباني” لشهر أكتوبر الماضي، والمذكور سابقاً، أشار المستهلكون الأوروبيون إلى أنهم يدخرون وينفقون أقل على السلع غير الأساسية. وأفاد ثُلثهم بأنهم ينفقون أكثر على الطاقة والمرافق، ارتفاعاً من 61% في استطلاع الشركة نفسها لشهر يونيو الماضي، ويتوقع 71% منهم أن يزيد إنفاقهم على الطاقة في الأشهر الثلاثة المقبلة.
وبدأ المستهلكون الأمريكيون في تغيير عاداتهم التسويقية في ظل ارتفاع الأسعار وزيادة معدل التضخم المحلي، حيث أوضح 74% من المشاركين في استطلاع “ماكنزي آند كومباني” لشهر يوليو الماضي، اتجاههم لخفض الإنفاق على السلع غير الغذائية، كما أن معظم المتسوقين قاموا بتعديل كميات مشترياتهم، أو تغيير متاجر التجزئة التي اعتادوا عليها.
ب- تمويل الاحتياجات بالمدخرات: استجابة لارتفاع التضخم، ذكر أكثر من ثُلث المستهلكين الأوروبيين، وفقاً لاستطلاع “ماكنزي آند كومباني”، أنهم سحبوا أموالاً من مدخراتهم لتغطية النفقات الرئيسية، وكان ذلك واضحاً في إيطاليا والمملكة المتحدة وإسبانيا. كما سحب 66% من المستهلكين الأمريكيين من مدخراتهم الحالية أو تقليص المبالغ المالية المخصصة للادخار، بالإضافة إلى الاعتماد على البطاقات الائتمانية أو القيام بعمل إضافي للحصول على دخل أكبر.
في هذا السياق أيضاً، أوضحت نتائج مؤشر “ثقة المستهلك الأمريكي” الصادر عن شركتي “إبسوس” و”فوربس” في سبتمبر 2022، أن 29% من الأمريكيين يسحبون من مدخراتهم أكثر من المعتاد. ومع ذلك، يرجح بعض الاقتصاديين أن الأسر الأمريكية لا يزال لديها من المدخرات ما يكفي لمساعدتها على التعامل مع الأسعار المرتفعة، بل يعتقد البعض منهم أنها قد تمكنهم من مواجهة حالات الركود المتوقعة. جدير بالذكر أن المؤشر شمل عينة من 942 مستهلك تتراوح أعمارهم بين 18 و74 عاماً.
ج- تأجيل قرارات الشراء أو التحول لعلامات تجارية أخرى: في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، يتجه المزيد من المستهلكين في أوروبا والولايات المتحدة، لا سيما من ذوي الدخل المنخفض، لتأخير عمليات الشراء أو التحول إلى علامات تجارية منخفضة السعر. فطبقاً لاستطلاع “ماكنزي آند كومباني”، قام 6 من كل 10 مستهلكين في أوروبا بتغيير منتجات البقالة والعلامات التجارية الأساسية الخاصة بهم في الأشهر الثلاثة الماضية. ومن بين هؤلاء، تحول 72% إلى منتجات منخفضة السعر.
2- تراجع الادخار الفردي: من المتوقع أن يستمر الأفراد في الادخار للتحوط من الظروف المستقبلية، وإن انخفضت نسبة الادخار إلى إجمالي الدخل مقارنةً بالسنوات الماضية. وفي هذا الإطار، أوضحت نتائج مؤشر “ثقة المستهلك الأمريكي” الصادر عن شركتي “إبسوس” و”فوربس” في سبتمبر 2022، أن حوالي 46% من البالغين يستثمرون ويدخرون أقل من المعتاد. ويؤكد ذلك أن البيانات الرسمية أظهرت أن معدل الادخار الفردي في الولايات المتحدة سجل 3.1% في سبتمبر الماضي، وهو من بين أدنى المعدلات على مدار الـــ 14 عاماً الماضية.
بينما أشار استطلاع “ماكنزي آند كومباني” إلى أن أكثر من نصف المستهلكين (55%) في أوروبا استثمروا أموالاً أقل في المدخرات خلال الأشهر الثلاثة الماضية، كما تتوقع نفس النسبة أن يستمر هذا الوضع. وتأكيداً لما سبق، تشير البيانات إلى تراجع معدل ادخار الأسر الأوروبية كنسبة من الدخل المتاح في منطقة اليورو لتصل إلى 13.7% خلال الربع الثاني من عام 2022، مقارنةً بنحو 15.2% خلال الربع الأول من العام الجاري، وأقل من 19.3% في الربع الثاني من عام 2021.
3- تغير التوجهات الاستثمارية: تشهد معنويات المستثمرين الأفراد تراجعاً في ظل عدم اليقين الاقتصادي حول العالم، وارتفاع الأعباء المعيشية. ويعني ذلك أنهم أقل قدرة على الادخار، أو سيتجنبون على الأقل وضع مدخراتهم في أصول استثمارية خطرة. ويتزامن هذا مع استمرار تقلبات أسواق المال والعملات في الاقتصادات المتقدمة والناشئة وسط تبعات الحرب الأوكرانية. فعلى سبيل المثال، شهد مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” الأمريكي تراجعاً بحوالي 25% منذ بداية عام 2022. وفي الأسواق الناشئة، يتوقع “جولدمان ساكس” أن يستمر التراجع في ربحية الأسهم في ظل حالة عدم اليقين.
وأوضح مسح أجرته شركة MassMutual، في مارس 2022، على عينة حجمها 1500 أمريكي، أن 42% من الأمريكيين يؤخرون قراراتهم الاستثمارية، أو الاستمرار في الاستثمار بنمط جديد. كما اتجه الأمريكيون، مثلاً، لزيادة نسبة الأوعية الاستثمارية منخفضة المخاطر في محافظهم، فضلاً عن الاتجاه للاحتفاظ بالنقد والسيولة بشكل أكبر. وبينما يحاول بعض المستثمرين الأفراد الاستفادة من ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية من خلال زيادة استثماراتهم في سندات الخزانة الأمريكية، يتجه آخرون لضخ أموالهم في شراء الذهب الذي يعتبر ملاذاً آمناً في أوقات الأزمات.
ختاماً، يمكن القول إن الضغوط الاقتصادية والمعيشية التي صاحبت الحرب الروسية – الأوكرانية، دفعت الأفراد في أوروبا والولايات المتحدة ومناطق أخرى في العالم إلى تغيير سلوكهم الاقتصادي في اتجاه ضغط النفقات والسحب من المدخرات، أو استثمارها في أصول أكثر أماناً. ومن المرجح أن يظل الوضع كما هو عليه لطالما استمر نطاق التضخم بعيداً عن المستويات المستهدفة من قِبل البنوك المركزية على المدى القصير. وستتوقف عودة ثقة المستهلكين في الاقتصاد والسوق على عدة عوامل، من بينها مسار الحرب في أوكرانيا، ومدى نجاح البنوك المركزية في مواجهة التضخم، علاوة على مدى فعالية الحزم المالية الموجهة لمساعدة الأسر على مواجهة أعباء التضخم.
هدير خالد – المستقبل للابحاث والدراسات المتقدمة