ربما يكون التساؤل الأكثر حضوراً اليوم في القدس، هو عن التسارع الرهيب في عملية الأسرلة والتهويد التي تتعرض لها مدينة القدس على الصعد كافة، وعن سياسة النفَس الطويل التي تعرضت للإهمال والتهميش والتضييق لفترة طويلة امتدت إلى عقود، وكيفية تفسير ضخامة الاستثمار والإنفاق الحكومي الإسرائيلي في شرقي المدينة اليوم، ولا سيما على قطاع التعليم.
ولعل تفسير ذلك يكمن في أنه إلى جانب التغيرات الدولية والإقليمية والتطبيع العربي، فإن الأهم هو تغيُّر وجهة نظر المؤسسة الإسرائيلية تجاه المدينة وسكانها. فتفاخُر زئيف إلكين وزير شؤون القدس في سنة 2015، قائلاً: “خلال سنوات في اليسار قالوا: في الأصل سنعيدها. فمن الخسارة الاستثمار، وفي اليمين قالوا: هؤلاء عرب، فمن الخسارة الاستثمار. وأنا حطمت هذا النموذج”، وأضاف “بالذات لأنني لا أرى أي إمكانية لتقسيم المدينة في المستقبل، لذلك يجب علينا الاستثمار. من واجبنا أن نستثمر في شرقي المدينة، وإلّا فإن القدس لن تستطيع أن تعمل كمدينة، لقد اعتقدت أنه من غير المنطقي أن تبدو العاصمة بهذه الصورة.”
وفي مقام آخر فسّر قائد منطقة القدس السابق في الشاباك عوفر أور سبب اضطراب الأوضاع في القدس سنة 2014 بقوله: “أنت يمكنك القول: أنا لن أطوّر شرقي القدس، لأنني أنطلق من فرضية أنهم سيذهبون من هنا، لكن عندما تنطلق من فرضية أنهم لن يذهبوا إلى أي مكان آخر، فعندها ستفهم أنهم سيشعرون طوال الوقت بأن اليهود يمسّون بهم. هم يتجولون ويشاهدون الحدائق العامة في شرقي القدس، وهم يعرفون أنهم يدفعون الأرنونا، بالضبط مثلنا.”
وبذلك ارتبط الإنفاق بتعزيز السيادة الإسرائيلية وما شكّل ظاهر الخطة الخمسية من رفاه وتعزيز المساواة بين شقّي المدينة، يخفي باطنه تحقيق أهداف اليمين المتطرفة “التهويد”، أي وجود فلسطينيين أقل ومستوطنين أكثر، وبالتالي لن يعيش في المدينة، مستقبلاً، إلا الفلسطينيين الذين ينسجمون مع معايير المؤسسة الصهيونية. ولتحقيق ذلك، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينت “لقد حان الوقت لكي يدرَّس المنهاج التعليمي الإسرائيلي في شرقي القدس، ومن الصفوف الأولى؛ فالقدس يجب أن تكون موحدة عملياً، وليس بالكلام؛ فكلما يتم التركيز على التعليم وفق المنهاج التعليمي الإسرائيلي، كلما كنا نقوّي جهاز التربية والتعليم في شرقي القدس، وهكذا نبني مستقبلاً.”
مرّت قضية محاربة المنهاج والسعي لتهويده كلياً بعدة مراحل: الأولى كانت بعد احتلال القدس الشرقية سنة 1967، حين ضُمَّت مدارس شرقي القدس إلى بلدية الاحتلال وفُرض المنهاج الإسرائيلي، غير أن تلك الخطوة فشلت أمام صمود المقدسيين وإعراضهم عن تسجيل أبنائهم في مدارس المعارف التابعة للبلدية، فاضطرت سلطات الاحتلال إلى التنازل وإعادة العمل في المنهاج الأردني، لكن بعد حذف كل ما له بُعد قومي أو وطني، أو حتى ديني، يحث على الجهاد والتحرر.
كما أسست اتفاقية أوسلو للمرحلة الثانية، إذ أرتأت سلطات الاحتلال أن تقوم بخطوة استباقية تعيق طموح أي خطة فلسطينية مستقبلية ترمي إلى إصدار منهاج وطني يستنهض الذاكرة ويعمّق بناء مشروع وطني، فاشترطت الاتفاقية أن تساهم الأنظمة التعليمية في السلام بين إسرائيل والشعب الفلسطيني، والسلام في المنطقة بصورة عامة. وأن يسعى كل طرف لتعزيز التفاهم المتبادل والتسامح، وبالتالي الامتناع من التحريض، بما في ذلك الدعاية العدائية ضد بعضهما البعض، وأن تساهم الأنظمة التعليمية الخاصة بهما في السلام بين إسرائيل والشعب الفلسطيني.[1] وفي وقت تبدو هذه الشروط واسعة وفضفاضة، إلا أنها طُوّعت من خلال قنوات الاحتلال الإعلامية والمؤسساتية المتمرسة لممارسة ضغوط مستمرة على السلطة الفلسطينية لتغيير مناهجها، وذلك بتفسيرها بطرق مختلفة، وفقاً لأهواء الاحتلال ومراميه البعيدة. فطغت الرواية الإسرائيلية مرة أُخرى.
ما إن دخلت المناهج الفلسطينية حيّز التنفيذ سنة 2000 حتى بدأت إرهاصات المرحلة الثالثة، إذ نظرت سلطات الاحتلال بعين الشك والارتياب إلى تلك المناهج الوليدة. فبدأت بإنشاء مؤسسات صهيونية هدفها دراسة وتحليل مضامين تلك المناهج، أو الإيعاز إلى بعض المؤسسات القائمة وإعادة تفعيلها في هذا المضمار، مثل معهد جورج إيكريت لبحوث الكتب المدرسية، الذي تبنى في سنة 2001 مشروع تحليل الكتب المدرسية الإسرائيلية الفلسطينية، غير أن الكثيرين من الخبراء يتفقون على أن المناهج الفلسطينية هي المستهدَفة.[2]
دوائر صُنع القرار السياسي الإسرائيلي تستغل تلك الأبحاث لترويج الادعاءات الإسرائيلية بأن المناهج الفلسطينية تحريضية ولا تخدم عملية السلام في المنطقة، لتأليب الرأي العام عليها، وذلك برفع التقارير إلى الكونغرس الأميركي والاتحاد الأوروبي لدفعهما إلى إدانتها وقطع الدعم المادي عنها، وتحريض بعض النواب لإثارة موضوع المناهج الفلسطينية في برلماناتهم. ومنذ سنة 2010 عُقدت في الكنيست الإسرائيلي عدة جلسات ضمن “لجنة التربية والثقافة والرياضة” لمناقشة فحوى هذا المنهاج الفلسطيني. وكان أعضاء اللجنة يتساءلون: كيف نسمح بتدريس هذا المنهاج في مدارس تتبع لنا ونصرف عليها من جيوبنا؟ وبناءً عليه، بدأت مديرية التعليم في القدس بالاستعانة بخدمات شركات إسرائيلية خاصة، لمراقبة كتب المنهاج الفلسطيني، وحذف كل ما يُعتبر “تحريضاً” على الاحتلال واليهود، أو دالاً على الهوية الفلسطينية السياسية، ثم طباعة الكتب من جديد في نسخة محرَّفة معدَّلة، وتوزيعها على المدارس التابعة لها.
تتمثل عمليات تزوير المنهاج في أربعة أشكال هي: الاستبدال والطمس والتغيير في المتن والتحريف، ويطال ذلك كل ما له علاقة بتعميق الهوية الوطنية، كأناشيد وقصائد حب الوطن والانتفاضة والشهادة والفداء، وطمس مفاهيم النكبة والنكسة وحائط البُراق والمسجد الأقصى، وحتى اسم فلسطين، واستبداله بما يتناسب مع الرواية الصهيونية، كحائط المبكى والهيكل ويوم الاستقلال وبلستينا. كما طالت عمليات الطمس كل ما يتعلق بقضية اللاجئين والمخيمات وكل ما يشير إلى حق العودة، أو حتى الحنين إلى العودة، كذلك تم حذف كل ما يتعلق بتاريخ اليهود في عصر الرسول، كقصة يهود بني قريضة وبني النضير. وفي هذه السنة “2022” ظهرت النسخ المحرَّفة بصيغة جديدة تتضمن مصطلحات تعزز الرواية الإسرائيلية، فظهر مصطلح إسرائيل إلى جانب فلسطين ونصوص أُخرى وصفوها بأنها تشجع التعايش بين اليهود والعرب. وفي الصورة المرفقة مثال من كتاب الدراسات الاجتماعية للصف السادس، بعنوان فلسطين (أرض كنعان).
في العام الدراسي 2011، تم اعتماد المنهاج المحرَّف في جلّ المدارس التابعة لبلدية الاحتلال، ولم يكتفوا بذلك، وإنما امتدت إلى المدارس الفلسطينية الخاصة، تلك التي فقدت الكثير من استقلاليتها، بعد أن بدأت منذ مطلع الألفية بتلقّي أموال دعم إسرائيلية. آخر تلك السياسة كان ابتزاز 6 مدارس خاصة، هي مدارس الإيمان والكلية الإبراهيمية، بالتهديد باعتماد المنهاج المحرَّف، أو إغلاق المدارس في العام الدراسي 2023-2024.
ولأن تطبيق المنهاج المحرَّف في مدارس شرقي القدس يُعتبر مجرد مرحلة موقتة لدى المؤسسة الإسرائيلية، يُقصد منه تهيئة المجتمع المقدسي لإعادة تطبيق المنهاج الإسرائيلي الذي حاولت سلطات الاحتلال تطبيقه بعد نكسة 1967، لكنها لم تنجح، قامت إدارة معارف الاحتلال في العام الدراسي 2013-2014 باتباع نظام المجموعات، ففتحت شُعباً دراسية لتعليم المنهاج الإسرائيلي في خمس مدارس في القدس المحتلة، والتابعة لوزارة التعليم الإسرائيلية، موزعة على بيت حنينا وصور باهر والشيخ جرّاح، اعتبرتها الحلقة الأضعف، وخصوصاً أن أداءها التعليمي التربوي ليس بالمستوى المطلوب، وتحصيل طلبتها التعليمي يُعتبر ضعيفاً. وقد حاولت التغرير ببعض أولياء أمور الطلبة، وإقناعهم بأن المنهاج الإسرائيلي هو الأفضل لأبنائهم، من حيث السهولة وتلبية متطلبات سوق العمل.
تلت ذلك فترة تولى فيها نفتالي بينت وزارة التربية والتعليم، 2015-2019، وقد امتازت بأنها علامة فارقة في محاولات الوزارة فرض الأسرلة عن طريق جهاز التعليم. إذ تضاعف عدد الطلاب المقدسيين الذين يدرسون البجروت وخطة التعزيز التي بدأت قبله، وذلك برصد ميزانيات للمدارس التي تتبنى المنهاج الإسرائيلي، أو تحتوي على صفوف أقل لتعليم المنهاج الإسرائيلي، والتي غدت بعد ذلك شرطاً في عهد بينت، بعد أن أعلن أن “وزارة التعليم في المدارس في القدس الشرقية لن تُستثمر، إلا إذا تبنّت المنهاج الإسرائيلي.” وتُوِّجت تلك الممارسات بإطلاق الخطة الخمسية 2018-2023، والتي حظيَ فيها التعليم باهتمام واضح، إذ استحوذ على الحصة الأكبر من ميزانية الخطة الخمسية، بقيمة 445 مليون شيكل على الأقل، خُصص منها 200 مليون لتعزيز المنهاج الإسرائيلي في المدارس، ووُزّع الباقي بين التعليم اللامنهجي وتعليم اللغة العبرية والتعليم التكنولوجي.
وإلى جانب الإنفاق المهول على أسرلة المناهج، فإن المؤسسة الإسرائيلية تلجأ إلى أسلوب استغلال الأزمات التي تسببت بها لقطاع التعليم في القدس، لتحويل الوضع لمصلحتها. فتعاملت مع مشكلة تعدُّد المرجعيات التي يتّسم بها النظام التعليمي في القدس بإغلاق مكتب مدير التربية والتعليم الفلسطيني، معلنةً بذلك محاربتها لأي وجود مرجعي للسلطة الفلسطينية على أرض القدس. كما صرّحت مراراً بنيّتها إنهاء وجود الأونروا ومؤسساتها، لتطرح نفسها كمرجعية وحيدة موجِّهة للعملية التعليمية التي تضع الرؤية الفلسفية والسياسات التربوية التي تتفق مع رؤيتها الصهيونية.
أما مشكلة الأبنية المتهالكة التي تتصف بها مدارس القدس، لأن أغلبيتها عبارة عن أبنية سكنية مستأجَرة، فقد استغلتها بلدية القدس لبناء مدارس ورياض أطفال نموذجية جديدة تابعة لوزارة التربية والتعليم الإسرائيلية – أي مدارس تطبّق المناهج التعليمية الإسرائيلية. وكذا الحال في سائر المشاكل التي تعانيها المدارس، على سبيل المثال نقص الكادر التعليمي في مدارس الأوقاف وبعض المدارس الأهلية، ولا سيما في المواضيع العلمية، وهذه المشكلة التي خلقها الجدار بعد حرمان المعلمين من الضفة من دخول القدس، بالإضافة إلى عدم تمكُّن مدارس الأوقاف والمدارس الأهلية من دفع رواتب ومستحقات المعلمين كالتي تدفعها وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية.
لذا، فإن العامل الاقتصادي جعل من مدارس المعارف وجهة مفضّلة للكثيرين من المعلمين المقدسيين بسبب رواتبها المغرية، غير أن وزارة المعارف لا تعترف أحياناً بالشهادات الجامعية لبعض الجامعات الفلسطينية؛[3] الأمر الذي اضطر بعض المعلمين إلى إعادة الالتحاق بكليات وبرامج معينة ليتمكنوا من معادلة شهاداتهم، وهو ما كلّفهم سنوات ومبالغ مالية إضافية. وهذا في الحقيقة لبّ ما يطرحه واقع مدينة القدس اليوم، إذا كنت تريد ضمان وظيفة عمل في القدس التي يسودها القانون الإسرائيلي، فمن الأفضل لك الدراسة في جامعة إسرائيلية وإجادة اللغة العبرية، بدلاً من “وجع راس” الجامعات الفلسطينية التي لا يُعترَف بكل تخصصاتها، وتزداد فرصك للقبول في جامعة إسرائيلية في حال تخرّجت من مدرسة تعلّم المنهاج الإسرائيلي!
وكيفما أردت أن تقرأ الواقع التعليمي المحزن في القدس، فإن كل الطرق توصلك إلى حلقة مفرغة، عنوانها الكبير “الأسرلة وطغيان الرواية الإسرائيلية”. غير أن الرواية المكتوبة على أهميتها، تكذّبها الرواية المنطوقة على الأرض، فحتى طفل في مرحلة رياض الأطفال يعرف أن الجندي المدجج بالسلاح هو كائن محدث ورمز للقهر وإثارة الرعب.
[1]الفصل الرابع من المادة 22 في اتفاق أوسلو 2، الذي تم توقيعه في طابا سنة 1995.
[2] أهم هذه المؤسسات اليوم Impact.se.
أنوار قدح – مؤسسة الدراسات الفلسطينية