عادة ما تبنى إستراتيجيات الأمن القومي للدول على طبيعة التهديدات ونوعية مصادرها ومكونات الإستراتيجيات المضادة، والمصالح المنتشرة عبر العالم وطبيعة الحلفاء والأصدقاء عبر العالم الذين يشكلون جزءا من الإستراتيجية العامة للقوى العظمى على وجه التحديد. انطلاقا من ذلك، سنركز في هذا العنصر على مفهوم الإستراتيجية الأمنية الأمريكية، التيارات الفكرية المؤثرة في صنع الإستراتيجية الأمريكية والأسس التي تقوم عليها إلى جانب التعرض لمختلف مراحل تطور الإستراتيجية الأمريكية.
المطلب الأول: ماهية الإستراتيجية الأمنية الأمريكية
سنركز في هذا العنصر على الإطار المفاهيمي للإستراتيجية الأمنية، التيارات الفكرية المؤثرة في صنع الإستراتيجية الأمريكية إلى جانب الأسس التي ترتكز عليها الولايات المتحدة في وضع إستراتيجيتها الأمنية.
الفرع الأول: مفهوم الإستراتيجية الأمنية
يتمحور مفهوم الإستراتيجية الأمنية حول قدرة الدولة على التخطيط والتنسيق بشكل واعي وعقلاني لكيفية استخدام الإمكانات والموارد المتاحة لها، تماشيا والظروف المحيطة بها، بهدف تحقيق المصلحة القومية.
وتتخذ الإستراتيجية الأمنية من طرف دولة واحدة وتدخل في إطار إستراتيجيتها الأمنية الوطنية؛ وتشمل كل ما يتخذ من تدابير لتوفير الأمن سواء على المدى القصير أو البعيد كالولايات المتحدة. كما تتخذ الإستراتيجية الأمنية من طرف مجموعة من الدول في إطار الأمن الجماعي والمشترك كالاتحاد الأوروبي. من الجانب التطبيقي، تعترض عملية تشكيل الإستراتيجية الأمنية وتنفيذها صعوبتان، وهما:
غموض العناصر التي تؤثر على البيئة الداخلية والخارجية؛
غياب ميكانزيم يمكن من خلاله وضع إستراتيجية للأمن القومي تنبع من المصالح القومية.
ونتيجة لذلك، فبدلا من أن تكون هناك خطة متكاملة تخدم المصالح القومية وتقود تشكيل سياسة الأمن القومي، يتم تشكيل الإستراتيجية الأمنية من خلال المفاهيم والمعتقدات لصانعي القرار على حدا؛ الهياكل والعمليات لصنع القرار. ويتطلب تنفيذ الإستراتيجية الأمنية استخدام الإمكانيات القومية المتاحة تحت جميع الظروف.
انطلاقا من ذلك، يمكن تعريف الإستراتيجية الأمنية بأنها منظومة الأساليب والوسائل العملية والعلمية القائمة على الاستخدام الأمثل للقوى والمصادر القومية من أجل تحقيق أهداف الأمن القومي.
كما يمكن النظر إلى الإستراتيجية الأمنية على أنها مجموع الخطط والمبادئ التي تحدد الأهداف القومية للدولة في جميع المجالات، وإدارة تلك الخطط والمبادئ لتحقيق الأهداف القومية في حدود القوة المتاحة، وفي إطار المبادئ والقواعد. لو نظرنا إلى إستراتيجية أمريكا في تحقيق أمنها عبر العالم، نجدها تقوم من وجهة نظر روبرت كوفمان على مجموعة من النقاط الجوهرية حددها في:[1]
تقوية التحالفات الدولية بالإضافة إلى الموجودة منها من أجل إلحاق الهزيمة بالإرهاب وملاحقة تنظيم القاعدة أمنيا واقتصادية وعسكريا؛
التنسيق مع الأطراف الأخرى، ليس بالضرورة أن تكون الأطراف التي سيتم التنسيق معها حليفة أو صديقة وإنما الشرط الضروري هو المصلحة المشتركة في عدم نشوب النزاع المسلح، على تهدئة النزاعات الإقليمية من أن تنزلق إلى هاوية النزاع المسلح، مثل نزاعات منطقة الشرق الأوسط وجنوب آسيا منطقة القوقاز.
السيطرة على أسلحة الدمار الشامل عبر العالم؛ من حيث الصناعة أو المتاجرة بموادها أو وقوعها في أيدي الدول التي تعتبر أعداء أو مهددة للمصالح الوطنية أو حتى وقوعها في أيدي الجماعات الإرهابية. ومثل هذا المكون في الإستراتيجية يحتاج إلى مستوى عالي من التنسيق وتبادل المعلومات بين الدول الصديقة والحليفة وغيرها.
تشجيع التنمية في الدول التي كانت ضمن الكتلة الشرقية وأخرى في العالم الثالث وفتح أسواقها وتشجيع التجارة الحرة، الدمقرطة السياسية والتعاون الدولي، لأجل محاربة مظاهر الفقر والجريمة والإرهاب فيما يمنع انتقالها إلى الدول المستقرة.
يظهر من خلال هذه النقاط، أن كوفمان قد جمع من الناحية النظرية بين مقاربتين في بناء الإستراتيجيات الأمنية وهما: المقاربة الواقعية الجديدة عندما يتحدث عن الأحلاف ومراقبة التسلح ومحاصرة الأعداء ومقاربة الليبرالية الجديدة عندما يتحدث عن الدمقرطة والانفتاح الاقتصادي والتجارة الحرة والتعاون.[2]
الفرع الثاني: التيارات الفكرية المؤثرة في صنع الإستراتيجية الأمنية الأمريكية
خلال المرحلة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة، ظهرت تيارات فكرية داخل الولايات المتحدة حاول كل تيار فك الاختلاف الدائر بين المؤسسات، النخب والأكاديميين بخصوص الإستراتيجية المناسبة الواجب اتباعها لهذه الفترة، انحصرت هذه التيارات في ثلاث اتجاهات:
التيار المثالي: دعا أنصاره إلى تبني سياسة تقوم على تعميم النموذج الأمريكي من الحرية والديمقراطية، وإلى إقرار منهج متعدد الأطراف لإدارة العلاقات الدولية وإعادة تنظيم المجتمع الدولي وتأكيد دور القانون الدولي.[3]
التيار الواقعي: أكد دعاته ضرورة اللجوء إلى القوة ورفع شأن المصلحة القومية في تسيير العلاقات الدولية، مع تأكيد ضرورة تعزيز القدرات العسكرية الأمريكية.
تيار الواقعية الجديدة: وتقوم فلسفته على كون الساحة الدولية بعد انتهاء الحرب الباردة تتيح للولايات المتحدة فرصة فرض هيمنتها وسياساتها واعتماد التدخل بقوة السلاح.[4]
ووفقا لهذه التيارات، تركز النقاش حول ثلاث توجهات أو إستراتيجيات رئيسية، كان على الولايات المتحدة اختيار إحداها للمضي قدما في تحقيق أهدافها العليا تمثلت في:
الإستراتيجية الانعزالية أو التوجه الانعزالي: ركز دعاة الانعزالية ليس على عودة الولايات المتحدة نحو الداخل نظرا إلى صعوبة التخلص من الالتزامات الدولية، بل أن يكون تركيزها على الدفاع عن مصالحها الحيوية، وهو ما أكده استفتاء الرأي العام الأمريكي سنة 1992، حيث أعرب 4/5 من عينة الاستفتاء أن سياسة بلادهم في اعتماد التدخل هو طريق خاطئ وهذا سبب أحداث سنوات 1989-1992. [5]
وتأكد هذا التوجه بانتخاب بيل كلينتون في نوفمبر 1992، أين تم وضع أولوية المحيط الداخلي على رأس أولوياته السياسية. الملاحظ في هذه الإستراتيجية أنها أعطت الفرصة لقوى عالمية أخرى كالصين، روسيا والاتحاد الأوروبي للتحكم بالشؤون العالمية حسب توجهاتها وتطلعاتها، مما أثر سلبا على المصالح الأمريكية في مختلف أرجاء العالم (منطقة جنوب شرق آسيا خير دليل على ذلك) مما دفعها لانتهاج إستراتيجية مغايرة.[6]
الإستراتيجية الانتقائية أو الدعوة إلى ممارسة دور عالمي أمريكي: تردد الفكر الإستراتيجي الأمريكي بعد انتهاء الحرب الباردة بين الانغماس في الشؤون الدولية أو التعامل معها، إلا أنه اختير اغتنام الفرص وانتقاء الولايات المتحدة للقضايا الدولية التي تنخرط فيها بالأخص التي تمس مصالحها وأمنها القومي بصورة مباشرة كالصراعات الدولية، الأزمات العالمية، سباق التسلح النووي وانتشار الأسلحة الدمار الشامل.[7] وهذا استنادا إلى التفوق الأمريكي الإستراتيجي، العسكري والتكنولوجي وكذا الاقتصادي. إلا أن الولايات المتحدة تغاضت في أغلب الفترات عن هذا التوجه لصالح توجه أخر “دور المهيمن”، وهذا بالنظر إلى أن الأحداث العالمية أصبحت على درجة كبيرة من الترابط والتأثير والتأثر في ظل عصر العولمة.
الإستراتيجية العالمية أو تنفيذ دور المهيمن في النظام العالمي: دعا رواد هذا التوجه إلى ضرورة تفرد الولايات المتحدة بالدور العالمي والانخراط الكامل في القضايا العالمية نظرا لعدم وجود منافسين قادرين أو راغبين بمنافسة الولايات المتحدة، إلى جانب امتلاك الولايات المتحدة لعناصر القوة خاصة الاقتصادية منها وكل هذا بما يؤمن متطلبات الأمن القومي الأمريكي. كانت هذه الإستراتيجية هي الأنسب للولايات المتحدة خصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001، التي حددت على نحو كبير دعاوى التفرد الأمريكي وقادت بعدها هذه الأخيرة حربا عالمية ضد الإرهاب لترسم ملامح منظومة أمن عالمية جديدة تقودها بنفسها.
الملاحظ مما سبق، أنه رغم تكاليف هذه الإستراتيجية الباهظة التي لم تعد تقوي الولايات المتحدة على تحملها، تستمر الولايات المتحدة في تنفيذ دور المهيمن في النظام العالمي رغم التعددية القطبية التي يعرفها هذا الأخير. ولكن بأليات وإستراتيجيات مغايرة وهو ما يتجلى بوضوح في آلية القوة الذكية لإدارة باراك أوباما، واتجاه إدارة ترامب الحالية لتحّميل حلفاء أمريكا أعباء حمايتها وهذا في إطار إستراتيجية إحداث التوازن من الخارج Offshore Balancing.
إضافة إلى ما سبق، قام خبراء الأمن القومي الأمريكي على صياغة أسس محددة للإستراتيجية الأمنية الأمريكية تصب كلها في تحقيق التفوق الأمريكي المطلق، من أهمها:[8]
الهيمنة العالمية: كان و لايزال هدف الولايات المتحدة منذ ظهورها الهيمنة على العالم. وأصبح مفهوم الهيمنة أكثر رسوخا وعمليا منذ سقوط الاتحاد السوفياتي… وكرس وجود الأحادية فكرة الهيمنة، خاصة بعد أن وجدت الولايات المتحدة نفسها لوحدها كقوة مسيطرة على العالم.[9]
ثبات الأحادية القطبية: هناك نظرية تسمى “ثبات الأحادية القطبية”، مفادها أنه كلما زادت الدولة الزعيمة قوتها، كلما ازداد النظام الدولي استقرارا، وعلى هذا الأساس يدافع أنصار هذه النظرية على أن يقود العالم قوة واحدة وهي الولايات المتحدة.[10] ويمكن أن يلقى هذا الطرح قبول المجتمع الدولي، إذا اتسمت الزعامة الأمريكية بالسلمية والخيرية.
مبدأ إثارة الخوف: تستعمل الولايات المتحدة هذا المبدأ من منطلق أنها الدولة الوحيدة القائدة للعالم، وبواسطته تستطيع ردع العالم والاستعداد لحدوث أي طارئ من قبل الدولة المنافسة لها.
المنافسون المحتملون: تعتبر عملية تحديد هوية المنافسين المحتملين واحدة من المهام الرئيسية لصناع القرار الأمريكيين. وتوصلت بحوث ودراسات المنظرين الأمريكيين إلى وجود أربع دول فقط تملك من مؤهلات منافسة الولايات المتحدة مستقبلا وهي: ألمانيا؛ اليابان؛ الصين وروسيا، وتعد الصين أكثر خصوم الولايات المتحدة المحتملين في القرن الحادي والعشرين.
المطلب الثاني: مراحل تطور الإستراتيجية الأمنية الأمريكية
تميزت الإستراتيجية الأمنية الأمريكية بعد 2001 بالتفرد الأمريكي بقيادة النظام الدولي وقواعده، وصولا إلى مرحلة تراجع الهيمنة الأمريكية العالمية.
الفرع الأول: مرحلة الهيمنة العالمية (2001-2008)
عانت الإدارة الأمريكية من أزمة حقيقية تلخصت في عدم قدرتها على بلورة رؤية إستراتيجية متماسكة واضحة المعالم للنظام العالمي في فترة ما بعد الحرب الباردة. فجاءت أحداث 11سبتمبر 2001 لتمثل نقطة تحول في صياغة النظام العالمي للقرن الحادي والعشرين؛ حيث أدّت إلى تغييرات كبيرة في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، تعززت معها المكانة العالمية للولايات المتحدة بصورة واضحة، من خلال الحرب العالمية التي قادتها ضد الإرهاب. إذ برز موضوع الإرهاب بوصفه عدوا عالميا جديدا؛ وهو ما كانت تبحث عنه الإدارة الأمريكية لوصفه محفزا جديدا لإبقاء الإرادة الداخلية متماسكة ومتمسكة بالحفاظ على سياسة التسلح والمحافظة على مواقع القوة وسياسة ملء الفراغ في المناطق الحيوية بعد غياب المحفز الإستراتيجي الذي كان يمثله الإتحاد السوفيتي.[11]
شهدت الإستراتيجية الأمريكية بعد أحداث 11سبتمبر، تطوراً جديد تمحور حول مبدأ الدبلوماسية الوقائية والتدخل الوقائي والذي يسعى لتحقيق جملة من الأهداف تمثلت في: [12]
– الالتزام بالمحافظة على مركز الولايات المتحدة كقوة عظمى وحيدة دون منافس.
– كيفية مواجهة الإرهابيين الذين يستخدمون أسلحة الدمار الشامل.
– التحول في الإستراتيجية العسكرية من سياسة الردع إلى الاستباق والهجوم السريع على الخصم.
– إعادة تعريف حدود المصالح القومية عبر التأكيد على حق الولايات المتحدة للتدخل في أي مكان للقضاء على أي تهديد.
وقد عبّرت إستراتيجية الأمن القومي الأمريكي التي أعلنها الرئيس بوش في سبتمبر 2002بوضوح عن تبنّي الضربات الوقائية، وبررت الإستراتيجية هذا المبدأ بأنّه يعود إلى التحولات العميقة في البيئة الأمنية الأمريكية بالمقارنة مع فترة الحرب الباردة، وأهمها بروز تهديدات ما يسمى بالدول المارقة والإرهابيين… فإن طبيعة هذه التهديدات تجعل من البيئة الأمنية للولايات المتحدة أكثر تعقيدا وخطورة وبالذات في ظل تصميم الأعداء الجدد على امتلاك قوى تدميرية لم تكن متوافرة حتى للدول القوية في العالم ورغبتهم الشديدة في استخدام أسلحة الدمار الشامل ضدّ الولايات المتحدة.[13]
لم تكن أحداث 11 سبتمبر 2001 عادية، فهي لم تغير مسار السياسة الخارجية للولايات المتحدة فقط، بل تمخض عنها تغييرات أسست لتحول في الإستراتيجية العالمية الأمريكية وللعالم بأكمله. إذ ركزت هذه الأخيرة على ضرورة التواجد في المناطق الحيوية، ضمن برنامج إعادة الانتشار العسكري الأمر الذي دفع الارتفاع مجددا مع بداية القرن الواحد والعشرين، بعد أن شهدت انخفاضا خلال فترة الحرب الباردة. و هو ما أكدته إحصائيات المعهد الدولي لأبحاث السلام في ستوكهولم (SIPRI)، أنه خلال سنة 2004 وصل الإنفاق العسكري العالمي إلى ما قيمته 1035 دولار أمريكي وتقف الولايات المتحدة على رأس تلك الدول، حيث وصل إجمالي المبلغ المخصص للإنفاق العسكري للفترة ما بين 2001-2005 ما يقارب 346 مليار دولار وذلك بسبب أحداث 11 سبتمبر وحربها على الإرهاب[14].
لهذا، توجهت الولايات المتحدة لإقامة نظام أمني في آسيا وخاصة بمنطقة جنوب شرق آسيا ومحيطها والتي أصبحت من أهم المناطق في العالم بالنسبة للمصالح الأمريكية. فإقليم جنوب شرق آسيا وامتداداته شهد نموا متصاعدا في حجم المصالح الأمريكية، لذا كان من الضرورة أن تكون متواجدة فيه بالصورة التي يجعل من وجودها العسكري في الإقليم بمثابة عنصر التوازن الذي يوفر ويضمن الأمن والاستقرار، خوفا من ظهور النزاعات الكأمنة بين دول المنطقة وخاصة في ظل تنامي أدوار قوى إقليمية في تفاعلات المنطقة وتوجهاتها الإستراتيجية كالصين وكوريا الشمالية، مما قد يؤثر في المصالح الأمريكية في حال قيام تحالف معاد للسيطرة الأمريكية.[15]
الفرع الثاني: مرحلة انحسار الهيمنة العالمية وإعادة التوازن للمكانة الأمريكية (2008-2020)
بتولي الرئيس باراك أوباما للرئاسة سنة 2008، ورث أسوأ التركات الرئاسية التي خلفها الرئيس الأسبق جورج بوش الابن، وسعيا منه لتحسين صورة أمريكا بالداخل والخارج، حاول إحداث تغييرات مهمة على أهم القطاعات كان من أبرزها إستراتيجية الأمن القومي.
وخلافا للإستراتيجية الأمنية السابقة التي كانت عسكرية بالدرجة الأولى؛ أهملت الأبعاد الاقتصادية، السياسية والاجتماعية؛ لا تؤمن بأهمية الحلفاء والالتزام بالقانون والمؤسسية (دور المنظمات الدولية) فضلا عن تعاملها من منظور أحداث 11 سبتمبر وفكرة الحرب على الإرهاب، مثلت الإستراتيجية الأمنية لإدارة أوباما سنة 2010 مفارقة جوهرية مع سابقتها، حيث أكدت على أهمية الأبعاد غير الأمنية التقليدية كالاقتصاد؛ البيئة؛ الطاقة؛ أمن الفضاء الإلكتروني؛ مواجهة الأوبئة وتحديات استغلال المشاعات العالمية.[16] وكان من أهم أهداف هذه الإستراتيجية: تقوية التحالفات للقضاء على الإرهاب الدولي والتعاون لمنع الهجمات على أمريكا وحلفائها، وقف انتشار الأسلحة النووية والبيولوجية والعمل على تعزيز الأمن الداخلي.
ومع تغير المعطيات على الساحة الدولية وبروز قوى جديدة تنافس الولايات المتحدة، جاءت وثيقة الأمن القومي سنة 2015 لمواكبة تلك التطورات وتوفير موقع أفضل لأمريكا وحماية مصالحها في عالم غير أمن. وهو ما سيتم توضيحه في العنصر الموالي.
أولا- وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2015: إعادة التوازن للمكانة الأمريكية العالمية
شكلت الأفكار والمفاهيم التي تضمنتها هذه الإطار النظري للإستراتيجية الأمنية الأمريكية. استهل أوباما الوثيقة بمقدمة تضمنت مجموعة من الأفكار، من بينها: أن أمريكا اليوم هي أقوى في “عالم غير أمن”؛ تجديد التحالفات في آسيا وأوروبا؛ أهم تحدي ستواجهه أمريكا هو “العدائية الروسية”؛ كما أكد على أن أمريكا هي المؤهلة لقيادة العالم لمواجهة هذه التحديات، والسؤال ليس عما إذا كانت أمريكا ستقود العالم بل كيف ستقوده إلى المستقبل.[17] وكانت الإجابة على التساؤل كالتالي:[18]
القيادة من خلال الأهداف: أي حماية أمريكا ومواطنيها؛ تجنب أزمة في الاقتصاد الدولي؛ منع امتلاك أو استخدام أسلحة الدمار الشامل؛ التغيير المناخي والتحسب لأثار ظهور الدول الفاشلة والضعيفة.
القيادة بالقوة: أي من خلال تعزيز عناصر القوة الأمريكية الداخلية.
القيادة من خلال تقديم نموذج يستحق الاقتداء وهو مرتبط بالقوة الناعمة.
القيادة من خلال شركاء قادرون.
القيادة من خلال عناصر القوة الأمريكية: العسكرية؛ الدبلوماسية؛ العقوبات؛ التنمية الاقتصادية؛ الاستخبارات؛ العلم والتكنولوجيا، أي الحد من استخدام القوة العسكرية في السياسة الخارجية الأمريكية.
القيادة بمنظور بعيد الأمد: من خلال مراقبة تحولات القوة حول العالم، والتأكيد على أن البنية الإستراتيجية الدولية اليوم تستلزم اعتماد مجموعة من الأولويات المتنوعة والمتوازنة بدل تركيز السياسة الخارجية الأمريكية على إقليم واحد أو تهديد وحيد.
وفي ختام مقدمته، أكد أوباما على جملة من الثوابت المألوفة: الأولوية للعمل الجماعي والتحالفات؛ توسيع الاستخبارات الأمريكية في إفريقيا، كما تم الإشارة إلى مبدأ “الصبر الإستراتيجي” لتفسير الاستثمار في بناء عناصر القوة الأمريكية. والجديد الذي جاءت به الوثيقة هو استخدامها لمصطلح “إعادة التوازن Rebalance” اتجاه منطقة آسيا -الباسيفيك والقوى الأسيوية الصاعدة القوية؛ حيث تصدرت المنطقة المرتبة الأولى في أولويات الولايات المتحدة. وقد حددت الوثيقة أولوياتها الخارجية حسب الترتيب التالي:[19]
– إعادة التوازن في آسيا -الباسيفيك إلى الأمام.
– التأكيد على العلاقات مع أوروبا وحلف الناتو.
– تأمين الاستقرار في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
– العلاقات داخل القارة الأمريكية.
وفي إطار تأكيدها على الأهمية الإستراتيجية للصين وضرورة التنبه إلى عملية التحدي العسكري للصدم، أشارت الوثيقة إلى أن نصف معدلات النمو في السنوات الخمسة المقبلة ستأتي من آسيا، هذه الأهمية دفعت بالولايات المتحدة بإقامة ونسج علاقات أمنية مع العديد من دول شرق آسيا والباسيفيكي من الفلبين إلى أستراليا؛ أي محاولة محاصرة الصين بعلاقات مع جميع هذه الدول لاسيما الصغيرة منها: فيتنام؛ إندونيسيا؛ ماليزيا؛ اليابان والهند.[20]
في ذات السياق، أكدت الوثيقة على التزام أمريكا بتعزيز المؤسسات الإقليمية بالمنطقة مثل الآسيان؛ قمة شرق آسيا؛ منتدى التعاون الاقتصادي في آسيا -الباسيفيكAPEC، مشيرة إلى أهمية اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادئTPP لدفع النمو الاقتصادي العالمي.[21] وواصلت الوثيقة تأكيدها على أن أمريكا ستستمر في دعم مكانة وحالة الأمن؛ التنمية والديمقراطية في آسيا -الباسيفيك، لان ذلك هو مركز مهم جدا لتحقيق الشراكات التي تبنيها مع آسيا بما ذلك فيتنام؛ إندونيسيا وماليزيا.[22]
هذا واعتبرت الصحيفة الأمريكية “نيويورك تايمز”، أن دعوات أوباما لقادة كل من الصين؛ اليابان؛ كوريا الجنوبية وإندونيسيا لزيارته بشكل منفصل في البيت الأبيض، بمثابة جزء من جهوده الرامية إلى إعادة التوازن في السياسة الخارجية للولايات المتحدة بحيث تركز بصورة أكبر على آسيا منطقة المستقبل، وألا تستهلك نفسها في الصراعات المشتعلة في أوروبا والشرق الأوسط وهما المنطقتان اللتان ظلتا تستحوذان على اهتمام واشنطن لعشرات السنين.[23]
إلا أن ما يلاحظ في العقود الأخيرة، أن الولايات المتحدة في عملية إعادة بنائها لإستراتيجياتها الأمنية حفاظا على أمنها ومكانتها كقوى عظمى لم تعتمد على إستراتيجية “توازن القوى” ذات الطابع الواقعي في الاعتماد على المؤسسات الدولية أو علاقات التكامل الاقتصادي كما تقتضي المدرسة الليبرالية، بل سعت إلى تقلد منصب المهيمن دون منازع[24]، هذا التوجه الذي حاولت تقويته من خلال الدخول وبشكل مباشر في تغيير نمط التوازنات العالمية وتأدية دور الموازن الرئيسي في كل منطقة مهمة وحيوية من خلال الاحتفاظ بحزام من التحالفات الأمنية تتوالى فيها القيادة داخل كل منظمة وهذا سيعمل من وجهة نظرها على احتواء القوى المنافسة في النظام الدولي.[25]
إلا النتائج كان خلافا للتوقعات التي وضعتها الولايات المتحدة، ففي لعبها لدور الموازن الرئيسي وتحملها نفقات والتزامات أمنية وعسكرية، لم يعد الاقتصاد الأمريكي يقوى على دفعها، تراجعت مكانتها ولم تعد قادرة على الوفاء بجميع التزاماتها اتجاه حلفائها، ما أدى بها لاتباع إستراتيجية إحداث التوازن من الخارج.
الهامش
[1] Robert G. Kaufman, In Defense of the Bush Doctrine (United States, The University Press of Kentucky, 2007), PP 157-158.
[2] عامر مصباح، التحليل الاستراتيجي والأمن للعلاقات الدولية (لبنان: دار الكتاب الحديث،2011)، ص.121.
[3] منعم العمار، التفكير الاستراتيجي وإدارة التغيير: مقاربة في المقدمات، قضايا سياسية، جامعة النهرين، ع21-22، 2016، ص 05.
[4] عامر هاشم عواد، دور مؤسسة الرئاسة في صنع الاستراتيجية الأمريكية الشاملة بعد الحرب الباردة (لبنان: مركز دراسات الوحدة العربية، 2010)، ص. 193.
[5] نفس المرجع، ص 194.
[6] زلماي خليل زاد، التقييم الاستراتيجي (أبو ظبي: مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، 1996)، ص 03.
[7] نفس المرجع.
[8] الزهرة تيغرة، “الإستراتيجية الأمنية الأمريكية بعد 11سبتمبر”2011، أطروحة دكتوراه غير منشورة (جامعة الجزائر: قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية،2012)، ص ص 31-35
[9] نفس المرجع، ص. 32
[10] نفس المرجع، ص33.
[11] أحمد إبراهيم محمود، “الإرهاب الجديد: الشكل الرئيسي للصراع المسلح في الساحة الدولية”، السياسة الدولية، ع 147، يناير2002، ص 89.
[12] حسن علاوي خليفة، “فكرة الهيمنة بالقيادة في الإستراتيجية الأمريكية: مدخل للقرن الحادي والعشرين”، قضايا سياسية، ع32-33،2013، ص ص321-322.
[13] ساعد رشيد، الترتيبات الأمنية الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية في شرق آسيا: الصين نموذجا، أطروحة دكتوراه غير منشورة (جامعة بسكرة: كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2017)، ص 83.
[14] طويل نسيمة، الاستراتيجية الأمنية الأمريكية في منطقة شمال شرق آسيا: دراسة لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، أطروحة دكتوراه غير منشورة (جامعة باتنة: كلية الحقوق والعلوم السياسية، 2009)، ص ص 58-59.
[15] محمد عبد السلام، الخارطة الجديدة للانتشار العسكري الأمريكي (القاهرة: دراسات استراتيجية، 2004)، ص. 18.
[16]مروة محمد عبد الحميد عبد المجيد، التغيير والاستمرار في استراتيجية الأمن القومي الأمريكية بعد أحداث 11 سبتمبر، المركز الديموقراطي العربي (تم تصفح الموقع يوم 20/12/2016) https://bit.ly/2TZKdEB
[17]The white house, National security strategy, February 2015, P02 https://bit.ly/2QsaBVC (accessed on 20/12/2016).
[18] حسام مطر، استراتيجية الأمن القومي الأمريكي2015: استمرار الأوبامية (تم تصفح الموقع يوم 20/12/2016)https://bit.ly/3d6DVux
[19] جهاد الزين، قراءة في نص “استراتيجية الأمن القومي الأمريكي لعام 2015: إدارة الفوضى في الشرق الأوسط وإدارة الازدهار في شرق آسيا (تم تصفح الموقع يوم 2016/12/19) https://bit.ly/33v5h93
[20] جميل مطر، إستراتيجية 2015 للأمن القومي الأمريكي: دروس صغيرة وكاشفة، جريدة الشروق، 2015
https://cnn.it/2QtxUyp (تم تصفح الموقع يوم 2016/12/19)
[21]National Security Strategy, Op. Cit, p 24.
[22]Ibid. p 24.
[23] الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي الأمريكي (تم تصفح الموقع يوم 20/12/ 2016) https://bit.ly/2PF1a5H
[24] حيدر علي حسين، مرجع سابق، ص 46.
[25] نفس المرجع، ص 47.