تسترد هدى، شقيقة محمود العارضة مهندس انتزاع الحرية لستة أسرى من معتقل إسرائيلي قبل عام، فصولاً صغيرة من سيرة أخيها، فقد رسم في طفولته المبكرة أحلام الالتحاق بكلية للهندسة، لكن الواقع لم يمنحه ذلك.
وترسم صورة للشاب الطيّب الحنون منذ الصغر، والدائم الابتسامة، حتى في الظروف الصعبة، والمنخرط منذ الثانية عشرة من عمره في مقاومة المحتل الذي غيّر له مسار طفولته. وتختزل كل ذلك بعبارة “محمود فش مثله”.
عاد نجم العارضة إلى السطوع في بدايات أيلول/سبتمبر2021، حين انتزع حريته من سجن جلبوع، شمال فلسطين المحتلة، عبر نفق حفره وخمسة من رفاق الأسر: زكريا الزبيدي، ومناضل يعقوب نفيعات، ومحمد قاسم العارضة، ويعقوب محمود قادري (غوادرة)، وأيهم فؤاد كممجي.
ألعاب ومقاومة
أبصر “المهندس” النور في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1975 في بلدة عرابة جنوبي جنين، وعاش القليل من طفولته بهدوء، فقد كان بارعاً في عدة ألعاب شعبية: السبع حجار، والكرة، والدريس، والقفز على أكوام الرمل، ويحب كثيراً أقراص الزعتر والسبانخ، والمقلوبة، والملوخية، والمسخّن، والمفتول، وفق رواية هدى.
وكان في الثانية عشرة عندما اشتعلت انتفاضة الحجارة في مستهل كانون الأول/ديسمبر 1987، فتأثر بها، وانضم إلى مجموعات “الفهد الأسود” المنبثقة من “فتح”، وقبلها كان يُلقي الحجارة على دوريات الاحتلال التي أدمنت اقتحام بلدته، القريبة حينها من معسكر في مدخلها، ومستعمرة (مافو دوتان)، المقامة فوق أراضيها ومساحات من البلدة الجارة يعبد.
ووفرت العائلة خلال الانتفاضة الشعبية المأوى للمقاومين، رفاق ابنها أحمد، الذي نفّذ عملية أصيب فيها مستعمر إسرائيلي.
وبحسب هدى، التي تعيش منذ سنة 2010 في غزة، فإن محمود اعتُقل أول مرة في أيلول/سبتمبر 1992، وأُدخل إلى معتقل جنين المركزي، فمركز تحقيق الفارعة، ثم إلى سجن مجدو، وإلى أكثر من 15 معتقلاً، من شمال فلسطين المحتلة إلى جنوبها، بينها سجن شطة، الذي حاول انتزاع حريته منه أول مرة سنة 2014.
تُعدّد هدى لائحة معتقلي عائلة عبد الله علي العارضة وأسراها، فالابن أحمد (مواليد 1973) اعتُقل في شتاء 1992، وحُكم عليه بـ 20 عاماً، تبعه محمود في أيلول/سبتمبر 1992 أول مرة، فحُكم عليه بالسجن 4 أعوام ونصف، ثم خرج في صفقة تبادُل بعد إعلان المبادئ (أوسلو)، وأمضى 9 أشهر حراً، وبعد أن نفّذ عملية في بلدة بديا في محافظة سلفيت وقتل ضابطاً وجرح زوجته، اعتُقل في أيلول/سبتمبر 1996، وحُكم عليه بالسجن المؤبد و15 عاماً. ثم طالت القيود شدّاد (مواليد 1980)، فحُكم عليه بـ 4 أعوام. تبعه ردّاد (مواليد 1977) باعتقالات متكررة لعامين، قبل أسْره مجدداً سنة 1999 والحكم عليه بالسجن 20 عاماً. بينما لحقت هدى نفسها (مواليد 1975) بإخوتها في أيار/مايو 2004، وأمضت 3 أعوام ونصف وراء القضبان، كما أوقف الاحتلال اختها باسمة (مواليد 1971) حين انتزع محمود حريته.
تقول: “ابتسم الحظ لإخوتي محمد ورائد وفائدة وسائدة، فهم لم يدخلوا معتقلات الاحتلال، ونحن نعلم بأن السجون لن تقفل أبوابها على أحد، فلكل بداية نهاية.”
تضيف هدى، التي أطلقت على ابنها البكر اسم محمود، تيمناً بخاله: أنهى التهاب عضال في البنكرياس حياة أبي سنة 1994، ولم يُسمح لاثنين من إخوتي بوداع جثمانه، وخلال أيلول/سبتمبر من السنة نفسها اعتُقل أخي محمود.
قلب واحد و20 سجناً
تواصل هدى: “خلال 30 عاماً، توزع قلب أمي فتحية يوسف تلاوي على معتقلات: بئر السبع، وعسقلان، والجلمة، وجنين المركزي، والفارعة، وجنيد المركزي، ونابلس القديم، والظاهرية، وعتليت، ومجدو، والدامون، وشطة، ونفحة، وأنصار 3 “النقب”، ومعسكر سالم، وريمون، وريمونيم، وبئر السبع، وهداريم.”
لكن شقيقها ردّاد يقول إن والدته كانت تزور 4 من أبنائها كل شهر، إذ عمدت إدارة سجون الاحتلال إلى عدم جمعهم في معتقل واحد، لمضاعفة معاناتها.
ويضيف أن أمه اليوم تعاني جرّاء ضغط الدم، والسكري، وضعف القلب، وصعوبة الحركة، و”لا تتخلى عن الأمل بعناق ابنها مهندس الحرية، الذي كانت تدعو له كل الوقت”، وقفز قلبها من مكانه لحظة اعتقاله في جبل القفزة قرب الناصرة، برفقة الأسير يعقوب القادري.
ليلة حرية يتيمة!
تؤكد عائلة العارضة أنها لم تفرح بلحظة حرية لجميع أفرادها منذ سنة 1992، مثلما حدث “ليلة الإثنين العظيم” (7 أيلول/سبتمبر)، كما سمّاها ردّاد وهدى، فقد عانق محمود الشمس، ووضع نهاية لوجود أحد أبناء الأسرة خلف القضبان مدة 24 ساعة.
ويتزين بيت محمود العارضة بأزهار، وتحيط به أشجار باسقة، لكن صور الابن المهندس صارت الأبرز منذ عام، وتتخذ لها حيزاً خاصاً، وتردد العائلة أن محمود كتب في رسائله مع المحامين، وبعد زيارته، عن السبب الرئيسي لمخطط الحرية: “عناق أمنا قبل مماتها، فهو يشعر بأن التحرر من دونها سيكون بلا معنى.”
وما يؤثر في هدى أن محمود اكتشف دورية الاحتلال في جبل القفزة، قبل اعتقالهما بالصدفة، لكنه آثر عدم الهروب بمفرده وترْك رفيقه المريض يعقوب وحيداً.
بلوزة وجوارب
تُنهي هدى كلامها: طلب أخي الاحتفاظ بكنزة صغيرة لابني الصغير حين كان في الثانية، وجوارب ابنة أخي عندما كانت طفلة، بعد أشهر من ولادتها، وقرر أن تكون هذه الأشياء معه لحظة انتزاعه الحرية، فـ “لفّ الكنزة المخططة على رأسه، ووضع الجوارب في جيبه.”
وتفخر العائلة بأن مهندس نفق جلبوع حفظ القرآن الكريم خلف القضبان، وألّف عدداً من الكتب، منها: “فقه الجهاد”، و”تأثير الشيخ الغزالي على حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين، منهجاً وفكراً”، وترى العائلة أن حريته باتت قاب قوسين أو أدنى، على الرغم من أن إدارات سجون الاحتلال تنكّل به، وتعزله كل ثلاثة أشهر في معتقل جديد، وتمارس الحرب النفسية ضده.
عبد الباسط خلف – مؤسسة الدراسات الفلسطينية