أثر الثورة الرقمية في تشكل الظواهر السوسيو-نفسية على الشبكات الاجتماعية

أدت الثورة الرقمية فائقة التطور إلى بروز ظواهر سوسيو– رقمية وسياسية وثقافية ودينية، ارتبطت بانفتاح واسع المدى للمجال العام الرقمي، ومواقع التواصل الاجتماعي المتعددة، وخطاباتها المليارية، بطول الحياة الرقمية وعرضها، في ظواهر بعضها رقمى بامتياز، وبعضها الآخر انتقل من الحياة الكونية الفعلية –المتعددة الأديان والمذاهب والثقافات والأعراق والقوميات– إلى الحياة الكونية الرقمية الموازية التى تحولت إلى منصات كونية عابرة للمجالات العامة في دول العالم، ومجتمعاته المتعددة، سواء تلك التى تسودها القيم والمؤسسات السياسية الديمقراطية، وثقافتها، وآليات عملها، ومعها الحريات الفردية والعامة أو تلك التي تسودها التوتاليتارية والتسلطية وبقاياهم. أضف إلى ذلك مئات الملايين من الذوات الرقمية من الدول التى لا تزال تسودها النظم والسلطات التوتاليتارية، والتسلطية. الأفراد الأحرار في المجتمعات الديمقراطية التمثيلية وجدوا في مواقع التواصل الاجتماعي مجالاً أوسع للتعبير عن آراءهم، وأهواءهم وشطحاتهم ونزواتهم، وممارسة الضغوط من خلال أشكال جديدة، وجماعات ضغط رقمية ذات طابع شعبىوي يمكن من خلالها ممارسة الضغوط الرقمية على المؤسسات السياسية، وتجاوز جماعات الضغط التقليدية، ومعها الأحزاب السياسية، والبرلمان، وأجهزة الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، التى بدأت تفقد بعض من تأثيرها القديم! ومن أبرز الأمثلة على ذلك جماعة السترات الصفراء في فرنسا، واحتجاجاتها الرقمية والفعلية في العاصمة باريس، والمدن الفرنسية الأخرى. لقد تم تشكل نمط جديد من الطلب الاجتماعي السياسي بضرورة إدخال تعديلات على النظام الديمقراطى التمثيلى للجمهورية الخامسة الفرنسية من خلال المطالبة بإدخال بعض من أشكال الديمقراطية المباشرة!.

في ظل غياب الحريات العامة والفردية في حالة بعض النظم التسلطية، حدث تأسيس لمعتقلات الضمير والروح، وذلك بمساعدة بعض المؤسسات الدينية التابعة. من هنا، شكل المجال العام الرقمي فرصة تاريخية واستثنائية في تحول الذوات الشخصية الفعلية إلى “ذوات رقمية”، تعبر عن نفسها بحرية على الواقع الافتراضي، وعن اهتماماتها الفردية وآرائها وتفاعلاتها حول السياسة والأديان والقيم، وعالم التفاصيل اليومي، وتوظيف اللغة الرقمية والصور و”الفيديوهات الطلقة” الوجيزة جداً، كأدوات للتعبير عن همومها وآراءها، بجانب التعبير عن نفسها في مجالات الأكل والزي والأجساد والحواس والشبقيات الجنسية، واختياراتها لما تعتبره جميلا أو قبيحا، وتمثيلات الجسد/ الكيرفي، وتحويله إلى أيقونة جمالية وحواسية مثيرة للدوافع والرغبات الجسدانية.

ظواهر رقمية جديدة تتشكل وتتغير في سرعة فائقة مع الحياة الرقمية، من ثم بدت مهمة للتحليل السوسيولوجى وفروعه، وحقوله المعرفية التى استقرت نسبياً عبر الزمن مع تحول المجتمعات الغربية، وغيرها، في ظل بعض التحولات في المفاهيم والنظريات ومفاهيم التحليل السوسيولوجى، بل والاستقرار النسبى لآلة الاصطلاحات السائدة في هذه الحقول. الظواهر والمشكلات الاجتماعية في المجتمعات، وواقعها وتفاعلاتها الفعلية، استقرت نسبياً مع تراكم الدراسات الحقلية/ الإمبريقية، وتنظيراتها في العلم الاجتماعي. من هنا، اُستخدمت هذه الآلة النظرية، والإصطلاحية، في تحليل ظواهر ومشكلات اجتماعية رقمية، أى انتقال بعضها من الفعلي إلى الحياة الرقمية، وبعضها الآخر رقمي بامتياز، من ثم بدت الفجوة بين المقاربات الفعلية للظواهر والمشكلات الاجتماعية، وبين بعض الظواهر الرقمية السوسيو–سياسية، والسوسيو–ثقافية الرقمية. لا شك أن هذه الفجوة بين مقاربات ظواهر ومشكلات وأزمات الواقع الموضوعي الفعلي، وهياكله وبنياته الاجتماعية والثقافية والسياسية، وفى الفنون والآداب والمسرح والموسيقى والغناء، تجعل من توظيف هذه المناهج والنظريات والمفاهيم المرتحلة من علوم الاجتماع والانثربولوجيا والفلسفة إلى تحليل الظواهر والأفعال والخطابات واللغة الرقمية، غير فاعلة في تحليل هذه الظواهر الرقمية، والمشكلات المعبر عنها في خطابات المنشورات والتغريدات والصور والفيديوهات الوجيزة على مواقع التواصل الاجتماعي.

من هنا بدت الحاجة الموضوعية لمقاربات سوسيولوجية مختلفة، تنطلق من المجال الرقمي وعوالمه وظواهره، ولغته، واشتقاقه مصطلحات سوسيو-رقمية، ومعها مفاهيم ونظريات ولغة سوسيو-رقمية جديدة. لا شك أن السوسيولوجيا الرقمية بعضها يُخلق من سوسيولوجيا الواقع الفعلي وظواهره، لأن بعض الظواهر الرقمية هى ارتحال من الواقع الفعلي إلى الرقمي، لكن هذا المنحى يبدو في طريقه للانقطاع مع مرور الوقت، وانفجار الظواهر والمشكلات الرقمية الجديدة التى يعبر عنها مئات الملايين، ومليارات البشر على المجال العام الرقمي الوطني والإقليمي والكوني المفتوح بلا حدود، والشركات الكونية العاملة في مجال الرقمنة وإنتاج السلع والخدمات.

يبدو أن الممارسات التحليلية للظواهر الرقمية، وإبداع لغة سوسيو-رقمية جديدة، يعتمد على عديد المصادر، وعلى رأسها المصطلحات الرقمية التى تتنامى وتتطور، ومحاولات التنظير المباشر للواقع الرقمي وظواهره، واتجاهاته، والمشكلات المعبر عنها رقمياً.

الظواهر الرقمية الجديدة، والمشكلات التى تتشكل حولها لا تقتصر على البحث عن سوسيولوجيا ولغة رقمية جديدة، وربما مغايرة عن التنظيرات والبحوث السوسيولوجية والأنثربولوجية الميدانية، وإنما ثمة اهتمامات أيضاً لبحث ما تطرحه هذه الظواهر والمشكلات الرقمية من جوانب سوسيو-نفسية، لتحليل هذه الجوانب، ومنها الإدمان الرقمي، والسلوك العدوانى الرقمي، واللغة العنيفة المتفجرة بالعدوانية، والتحريض على العنف الرمزي والمادي، وخاصة من خلال الوصم السلبى للآخرين، أو اتهامهم بالكفر أو الخروج عن الملة كجزء من استعارات اللغة الدينية واللاهوتية من المتون التاريخية والتأويلية للغة واللاهوت التاريخي إلى الواقع الافتراضى، أو إشاعة مفردات ثقافية حول كراهية الآخر الديني، أو المذهبى من داخل الدين أو المذهب أو من خارجه! أو الكراهية العرقية والشوفينية والتعصب القومي!

ثمة أيضا الأبعاد النفسية لظواهر التحرش الجنسى الرقمي، أو بث فيديوهات، وجيزة ، وصور شبقية ، أو جنسية عارية، أو خطابات جنسية رقمية مثيرة، بعضها للترويج ذو الطابع السلعى من أجل المتابعات التى تجلبُ بعضُ المال من الشركات الرقمية الكبرى، وبعضه الآخر محاولات لإثارة اهتمام الآخرين حول الشخصية العارضة، الساعية لتأكيد ذاتها الرقمية من خلال الاستعراض الجسدى، وإثارته الحواسية، أو الجمالية، من خلال الصورة أو الفيديو الطلقة المصحوب أحياناً بالأقوال الإثارية. بعض الصور والفيديوهات الحاملة للأجساد والإثارات الحواسية، قد يستخدمها بعضهم/هن في التشهير، والابتزاز، والضغوط إزاء بعضهن/بعضهم ،وهي ظواهر خطرة تتعدى الفعل إلى دائرة التجريم في عديد من بلدان العالم.

لم تقتصر الظواهر الجديدة على هذه المشكلات، وإنما امتدت إلى التوظيف الرقمي في مجال السلوك الإجرامي وشبكاته، لارتكاب جرائم رقمية متعددة، على نحو ما بدى يتزايد على شبكات التواصل الاجتماعي، أو الخاص Messenger، أو الواتس أب، أو الفايبر. مثل هذه الأنماط الجديدة من السلوك الإجرامي تكشف عن جوانب سوسيو– نفسية، تحتاج إلى معالجات تحليلية تختلف عما هو سائد في علمي الإجرام والعقاب، وأيضاً في قانون الإجراءات الجنائية، والعقوبات، على نحو أدى إلى رصد وتكييف هذه الجرائم، وتأثيم المشرعين لها في عديد من دول العالم.

الظواهر الرقمية الجديدة، ومعها مشاكل سوسيو–نفسية، وثقافية وسياسية، حفزت الفكر السوسيولوجي والسياسي إلى ضرورة النظر النقدي في هذه الأمور، خاصة أن بدايات الرقمنة ووسائل الاتصال أعطت انطباعات، ثم آراء أولية، إلى أنها ستكون إحدى أبرز أدوات، وآليات الاتصال الكوني الفردي عابر القارات، وتتجاوز أدوات الاتصال السمعية التى بدأت مع الترانزستور، ثم التلفزات المرئية، والقنوات الفضائية الكونية، التى سيكون إرسال الرسائل والخطابات رهيناً بالسياسات التحريرية والإعلامية للدول والحكومات، والشركات الكبرى العاملة في مجال الفضائيات، ومن ثم هي رسائل سمعية ومرئية من طرف واحد إلى مستهلكي هذه الرسائل، دونما مشاركة فاعلة من المتلقين لرسائلهم، إلا قليلاً جداً.

من هنا كان الاستبشار بدور الثورة الرقمية، ودورها في تحرير المجالات العامة الوطنية والإقليمية والكونية من القيود المفروضة عليها، سواء التقليدية المباشرة، والثقيلة، أو غير المباشرة، والناعمة في الدول الأكثر تطوراً وديمقراطية في شمال العالم. ومع مرور الزمن، وتحول الثورة الرقمية إلى أداة تحرر للذات المقموعة، والتمركز حولها، والولع بها، وانكشافها في عديد أحوالها، على نحو أشر إلى زمن نهاية الخصوصية والستر الذاتي! أدى ذلك وغيره من الظواهر إلى بدء النظر النقدى لهذه الظواهر والمشكلات الجديدة ذات الأبعاد المختلفة وتأثيراتها في الواقعين الفعلي والرقمي.

ثمة من الظواهر والمشكلات الرقمية الأساسية التى تطرح أسئلة وإشكاليات عديدة، تشكل الحقل الجديد لسوسيولوجيا الرقمنة، نناقش بضعها في الأقسام التالية.

أولا: تشكل الفرد الرقمي
أدت وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضية إلى حالة انكشاف الذوات الرقمية، من خلال البوح الصريح، أو الكاذب، أو المراوغة، ومعه عديد من الأقنعة، سواء اخفاء للذات، أو ستراً للألعاب الرقمية، أو الأفعال الرقمية لدى الفرد الرقمي، سواء من خلال خطاب المنشورات والتغريدات وخطاب الصورة-الصور، أو خطاب “الفيديو الطلقة” الوجيز، كى يؤثر على المتابعين. الانكشاف للذات الرقمية مرجعه محاولة إثباتها لذاتها، وأنها حاضرة، وأنها فاعلة في الحياة، وفى ظل الجموع الرقمية الغفيرة، أو ما سبق أن أطلقنا عليه مصطلح” الجموع العادية– الرقمية الغفيرة”، حيث كانت الجموع الغفيرة في عقود الخمسينات والستينات –في أعقاب الحرب العالمية الثانية، والحرب الباردة بين الإمبراطورية الفلسفية والسياسية الماركسية/ اللينينية، والماوية، وبين الكتلة الرأسمالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية– هى تعبير عن طبيعة تشكلات النظم السياسية، والاقتصادية والاجتماعية، في كلا الكتلتين. الجموع الغفيرة في عالم الماركسية اللينينية والماوية، تعتمد على نظم تعبوية ورقابية شاملة، تقودها زعامات ثورة 1917 في روسيا، وثورة ماو في الصين باسم الطبقة العاملة وحقوقها، والأهم دورها التاريخي الكوني في الثورة. جموع غفيرة تحت راية الماركسية، لكن لا وجود للذات المستقلة باسم التحرر الشامل للطبقة العاملة –ومعها الفلاحين في الصين وفيتنام قبل وبعد الاستقلال، وكوبا– في ظل نظام الحزب الواحد، في دول الكتلة الماركسية، بقيادة الاتحاد السوفيتي، والصين الماوية وما بعد.

الإعلام التقليدي المسموع والمقروء ثم المرئي بعد ذلك، كان يدور في إطار نظام التعبئة السياسية والاجتماعية، وخطاب الشعارات باسم الماركسية، والطبقة العاملة، والأمة في مواجهة الإمبريالية الغربية. التحرر كان باسم الجموع الغفيرة، في ظل هذه الفضاءات القمعية، والرقابات المتعددة الأبعاد، وأنظمة التعليم، والحزب الواحد. كانت الذات الفردية ترحل إلى ذاتها، وتبدو ذائبة في عالم الجموع الغفيرة، والحزب المعبر عنها وعن مصالحها! كانت أية إبداعات تخضع للرقابات المشددة، ومن يخرج عنها متحرراً، مصيره الذهاب إلى المعتقلات في سيبريا ونظائرها في الاتحاد السوفيتي، أو في دول أوروبا الشرقية، حيث معتقلات نظيرة لمتمرديها ونقاد النظام والسلطة باسم الطبقة العاملة الثورية!

في الثورة الثقافية الصينية بقيادة ماو، كان الإعدام والسجون مصير المختلفين، سواء كان نقدهم خارج تجربة النظام الماوي، أو وصما من بعض الوشاة في الحزب أو الأمن، أو من الزملاء في العمل، أو الجيران.. إلخ!

في النظم الديمقراطية التمثيلية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان… إلخ، كانت الجموع الغفيرة أسيرة التطورات الاقتصادية للرأسماليات الغربية، وشركاتها الكبرى، والأخرى العابرة للجنسيات والدول. كان التوسع، وتعظيم الربحية، والتراكم الرأسمالي هو الهدف الرئيس!

من ثم كان التحول إلى عالم الاستهلاك الكثيف، وتشكيل السلوك الاستهلاكي، معبراً عنه في ثورة الاستهلاك التي عبر تياراتها المكثفة من السلع والخدمات، وإعادة تشكيل السلوك الفردي والذات نحو التشيؤ، وعالم التفاصيل الصغيرة، وتسليع الذات الفردية على نحو ما وصفه “جي ديبور” -في كتابه الشهير “مجتمع الاستعراض”– في المجتمعات التي تسود فيها شروط الإنتاج الحديثة تقدم الحياة نفسها بكاملها على أنها تراكم هائل من الاستعراضات، كل ما كان يُعاش على نحو مباشر يتباعد ويتحول إلى تمثيل، وأيضاً يترتب على ذلك تحول كل ما هو حقيقي في أحد تغيراته إلى ما هو زائف! ساعد على ذلك تحويل الذوات الفردية إلى الجموع الغفيرة تحت راية الاستعراضات، والتمثيل في المجال العام، والمجال الفردي، وساعد على ذلك أيضا الانهماك في الثورة الجنسية بعد ثورة الطلاب، من جامعة كاليفورنيا بيركلى إلى السوربون ١٩٦٨، التى كانت تعبيراً عن محاولات التحرر من بطريركات الرأسمالية الغربية، من خلال الحريات الجسدية والحواسية والشهوانية والشبقية، إلا أنها سرعان ما فقدت تحررها الجسداني من خلال التشيؤ الانساني، وبات موضوعاً للتسليع من خلال الاستهلاك، ونظام الموضة، وتشكيل السلوك الفردي عبر تيار متدفق من السلع والخدمات، والأهم صياغة صور، وتمثيلات، واستعراضات الفرد في الحياة اليومية وتفاصيلها، وهو ما أدى إلى ظواهر”الأنوميا” والاغتراب، في وسط ومن خلال الجموع الغفيرة الاستعراضية.

من ناحية أخرى، كانت الصحف والمجلات والإذاعات والتلفزات، تساهم من خلال سياساتها التحريرية والإعلامية في تشكيل الجموع، واتجاهاتها، ونظرتها لمجمتمعاتها، ولنظامها السياسي والاجتماعي، وللعالم، وللآخرين. الملاحظ أن وسائل الإعلام المرئية والمكتوبة والمسموعة، كانت في غالبها تبحث دائماً عن الإثارة وصناعة الحكايات، وأحيانا اختلاق الأكاذيب، سعياً وراء الاستمرارية، ثم اللهاث وراء الأخبار الإثارية، ونسجها وترويجها. وساعد على ذلك عالم الصورة، وسلطة الصورة الفوتوغرافية، إلى الصورة التلفازية الحركية، والتمايز بين زمن الصورة، وزمن الحدث على نحو يتيح لمن أراد من أجهزة الإعلام تكييف الصورة، وفق توظيفاته لها في سياسته الإعلامية والتحريرية. في كتاب دانيال بورستين “الصورة والأحداث الذائفة” (إعداد وترجمة سهير صبرى، الناشر دار العين 2022، والذى صدر عام 1961، ثم أعيد نشره بعد 25 عاما من صدوره وتأثيره العالمى بعد ترجماته إلى عديد من اللغات) وصف الكاتب في مقدمته الجديدة –توقعات مفرطة–العالم الذى صنعناه، وكيف استخدمنا ثروتنا وتعلمنا وتكنولوجيتنا وتقدمنا، لخلق غابة من الأوهام تُحول بيننا، وبين حقائق الحياة. كما عدد القوى التاريخية التى منحتنا هذه الفرصة غير المسبوقة لخداع أنفسنا والتشويش على ما نشهده (ص 17).

ويصف دانيال بورستين انعكاس الأوهام والأكاذيب على الجمهور قائلاً: “نحن نريد هذه الأوهام ونصدقها لأننا نعاني من توقعات مغالى فيها، نتوقع من العالم أكثر مما ينبغى -توقعاتنا مفرطة بالمعنى المعجمي الدقيق للكلمة… عندما نلتقط صحيفتنا وقت الإفطار، نتوقع –بل نطلبها– أن تجلب لنا أحداث بالغة الأهمية منذ الليلة السابقة. ندير مذياع السيارة ونحن متوجهون إلى العمل ونتوقع أخياراً تكون قد وقعت منذ أن ذهبت صحيفة الصباح إلى المطبعة. عند عودتنا في المساء نتوقع أن تكون بيوتنا ليست لإيوائنا وحمايتنا من البرد في الشتاء والحر في الصيف فحسب، بل أن تعمل على استرخائنا وتبجيلنا، وأن تحيطنا بالموسيقى الهادئة والهوايات الشيقة، وأن تكون ملعباً ومسرحاً وباراً… إلخ” (ص 17، 18).

إضمار التوقعات المفرطة لدى بورستين وتغذيتها والتوسع فيها دائماً أدى إلى خلق الطلب على الأوهام التى نخدع بها أنفسنا، وندفع أجوراً للآخرين للعمل على خداعنا (ص19).

في ظل الطلب على خداع الذات، وتلبيته للجموع من مستهلكي عالم الإعلام المرئى والمسموع والمكتوب تناسلت معه الأساليب الخداعية، والكاذبة، واختلاق الأحداث في بعض عمل هذه الأجهزة الإعلامية. لا شك أن ذلك أدى إلى خضوع الذات لدى الجمهور الغفير، والأفراد، إلى حالة من الغرق في تيارات متلاحقة من الأخبار –بعضها كاذب– والأوهام، وتوظيف الرأسمالية الأمريكية والغربية للإعلام في الترويج للسلع والخدمات والأشياء لتسليع السلوك الاجتماعي، ورغباته وطلباته وأشواقه وحواسه!

عصر الجموع الغفيرة، شهد ثورة السفر والانتقال داخل ذات البلد وخارجها، وانكسار العزلة الذى دعمته شركات السفر والسياحة وأجهزة الإعلام.

لا شك أن وسائل الإعلام أثرت على السلوك اليومى والسياسى في المجتمعات الأكثر تقدما، وفى حشد الجماهير الغفيرة، وتوزيعها على اتجاهات سياسية أساسية، وفى حضور ونبذ الاتجاهات الرافضة، أو الناقدة للنموذج الرأسمالى، وقيمه الأساسية في الاقتصاد والاجتماع الإنسانى، وفى القيم السياسية الليبرالية التمثيلية.

في دول ومجتمعات جنوب العالم المحتجزة في دوائر التخلف التاريخي المركبة، ومنها المجتمعات العربية، كانت الجموع الغفيرة أسيرة ثقافة توتاليتارية غاشمة، أو تسلطية سياسية قاسية إلى حد ما، وارتكزت على توظيف الدين في شرعيتها السياسية، وفى الضبط الاجتماعي، والهيمنة الرمزية، والمادية على الجموع الغفيرة والمريفة، والخاضعة طوعيا إلى ثقافة الإجماع، وولاية المتغلب السني، وسلطاته في التاريخ الإسلامي وسردياته التاريخية الموروثة، من ثم كان السلطان السياسي وسيفه فوق رؤوس الجموع، ومعه الديكتاتورية، والتسلطية الدينية التابعة لرجال الدين. من هنا تعثرت عمليات ميلاد الفرد كفاعل اجتماعى، في ظل ثورة توقعات حول العدل الاجتماعي، والانتقال من الأرياف إلى المدن التى تم تريفها بالهجرة من القرى إلى المدن سعياً وراء الرزق والحياة الأفضل!

أجهزة الإعلام التابعة كانت تلعب دورا في التعبئة، واستخدمت في هذا السياق “اللغة السلطوية” ومحمولاتها من الشعارات الكبرى، والمعلومات غير الدقيقة في غالبها! من هنا غاب الفرد كفاعل، وتعثر ميلاده في ظل تدهور النظم التعليمية، والقيود الأمنية والسياسية الدينية المفروضة على المجال العام في عديد من البلدان التوتاليتارية والتسلطية العربية. ومع انهيار أنظمة التعليم والصحة والسياسات الاجتماعية، وانكشافها، والاختلالات الاقتصادية الهيكلية، وتراجع مستويات المعيشة، وحياة قطاعات اجتماعية واسعة عند حافة الفقر وداخله وعلى حدوده، وانكسار وتآكل الفئات الوسطى– الوسطى، تحولت حياة الجموع الغفيرة في العالم العربي إلى عسر مقيم على عسر، والأخطر غياب الأمال في مستقبل أفضل. في ظل الانتفاضات الجماهيرية الواسعة النطاق في تونس ومصر واليمن، ووصول الإسلاميين إلى سدة السلطة –من الإخوان المسلمين، وحزب النهضة في تونس ومعهم السلفيين– تم توظيف الجموع، وثقافة الإجماع، ومحاولة هندسة السلوك الشخصي، والحياة الشخصية، والمجال الاجتماعي، وفق تصورات دينية تأويلية موروثة، وإعادة بنائها في حياة متغيرة، وعالم مختلف جذرياً، فأصبحت بمثابة معتقلات للروح والعقل.

ثانياً: الثورة الرقمية وظهور الذات/ الفرد الرقمي، وعصر العاديين الرقميين
أدت الثورة الرقمية، ووسائل التواصل الاجتماعي، وخطاباتها المليارية في الحياة الكونية الرقمية، إلى تحول الأفراد والأشخاص من العالم الفعلي للعالم الرقمي، ومن المجالات العامة والشخصية الحرة، والتسلطية، أو المقيدة، إلى مجال عام وطني، وإقليمي وكوني، مفتوح على مصراعيه في حرية تبدو بلا حدود، إلا أنها حرية تحت أنظمة الرقابة الرقمية للشركات الكونية الرقمية، والسلطات السياسية، والاستخباراتية، والأمنية، كما ظهر بوضوح إعلاميا وسياسيا. أدت ثورة الرقمنة وخطاباتها ورغبات وأشواق وهموم عصر العادىين الرقمي، إلى تشكل عالم البيانات الضخمة التى تشكلت من مواقع التواصل الاجتماعي، على نحو أدى إلى بيع وتوظيف هذه المواد الضخمة، في خلق الطلب الفعال على السلع والخدمات، بل وإعادة توجيهه للرغبات والدوافع نحو أنماط استهلاكية جديدة ومتجددة!

من هنا ركزت الشركات الكونية على التحليل الرقمي والسوسيو–ثقافى والسياسى، والجنسي، بهدف معرفة وفهم رغبات الجموع العادية الرقمية الغفيرة، وبهدف إعادة تشكيل رغباتها ودوافعها، وأنماط استهلاكها للسلع والخدمات الفعلية والرقمية. حالة جديدة من التشيؤ والتسليع الرقمي للرغبات الإنسانية، وتحويلها إلى إشتهاءات ورغبات استهلاكية مفرطة، ومن ثم إلى الاعتماد على النظام المصرفي، والاستدانة المسبقة في حياة يومية تعتمد أساساً على الاستدانة المصرفية لشراء السلع والخدمات. الأشياء الرقمية وسلعها تحولت إلى سوق رقمي وطني وإقليمي وكوني، تُتداول خلاله هذه السلع الرقمية، من بيع وشراء. وتحولت المنشورات والتغريدات والفيديوهات الوجيزة جداً إلى مادة يمكن الحصول على مال من خلالها، وفق مدى إعجاب الآخرين بها، عند حدود معينة. من هنا برزت ظاهرة واسعة النطاق كونيا، في السعى نحو جذب الآخرين وغوايتهم، من أجل الحصول على ردود الأفعال المؤيدة لهم، وتكاثر أعدادها عند حدود تؤدى إلى حصولهم على المال.

الذات الرقمية القلقة، واليقينية بما تعتقد وتؤمن –أيا كان هذا الاعتقاد أو الرأى– باتت تشكل ظواهر للعنف الرقمي، والنبذ، والوصم، والتحرش الجنسى، والعرقى والدينى، والمذهبى. الذات الرقمية في عصر “العاديين الرقميين” باتت في حالة انفجار ضخم، يزلزل الكون، دونما مبالغة، لاسيما في دول جنوب العالم، وداخله الإقليم العربي. حالة من التعري للذات، ورغباتها وأشواقها وأحزانها، تتجلى على وسائل التواصل الاجتماعي ثانية وراء الأخرى، وحالة إدمان على إثبات الذات لذاتها، وغدى الوجود الإنساني وشرطه الأساسى يتمثل في الوجود الرقمي. مساحات الوجود الرقمي، وما يحمله من ظواهر ورغبات ومشاكل، بات جزءاً من الاهتمامات الجديدة لسوسيولوجيا الرقمنة، ومعه شركاتها، وتوظيفها لمليارات الذوات الرقمية التى تحولت إلى محض مادة في عالم البيانات الضخمة المطروحة للجميع، في سوق البيانات الرقمية الكونية، لإعادة توظيفها، وتشكيلها في عالم الاستهلاك والتشيوء في إطار نظم الرأسمالية الوحشية، التى تزداد شراسة. تبدو القيم الاجتماعية على الواقع الافتراضي في بعضها ارتحالا من الفعلي إليه، وبعضها جديد القيم السائدة في مجتمع ما، ومنطقة ما داخله، تبدو على الواقع الافتراضي، في حالة ممسوسة بالعنف والخوف من انهيارها وتجاوزها. من هنا يبدو خطاب القيم، ومفاهيم الثوابت الدينية والتقاليد والأخلاق تحمله ذوات العاديين الرقميين الغفيرة في عنف محمول على القلق من تحولات أنساق القيم على الواقع الفعلي، ودور تشكلات القيم الافتراضية الجديدة في تغيير وتحويل القيم المتآكلة، والمتجاوزة إلي قيم مضادة ومغايرة للمألوف الذي غدى تقليديا. هنا يلجأ بعض العاديون الرقميون إلى تحويل مواقع التواصل الاجتماعي إلى ساحات للنزاع، والدفاع عنها باسم الدين وثوابته، أو باسم الأخلاق، وممارسة إرهاب رمزى للمختلفين معهم.

من هنا تبدو حالات ومشاهد، ومشكلات وظواهر القيم المتصارعة على الواقع الافتراضى، موضوعاً للدرس السوسيولوجى، والسوسيو–دينى الرقميين.

ثالثاً: التدين الرقمي التبشيرى والدفاعي ومحاكم التفتيش الديني الرقمية
إحدى ظواهر الرقمنة وفضاءاتها، يتمثل في استخدام المؤسسات والسلطات الدينية والمذهبية –في الخرائط الدينية الكونية وغيرها– وسائل التواصل الاجتماعي كأداة في ترويجها لأديانها ومذاهبها وجماعاتها وفرقها المتكاثرة، بل استخدام الدعاة والقساوسة والكهنة و”الرابايات” –في اليهودية– في الترويج لأنفسهم سعياً وراء الذيوع الرقمي، وذلك لكى يلعب الفضاء الرقمي عدة أدوار وظيفية دينية، تتمثل فيما يلى:

1- محاولات السيطرة الرمزية والدينية على الفضاءات التواصلية الرقمية.

2- توظيف الرقمنة في التبشير، والدعوة إلى الديانة والمذهب الديني.

3- خطاب اللا أوربيين، واللا دينيين إزاء الأديان السائدة عربياً (الإسلام والمسيحية.. الخ)!

4- بعض الكنائس الغربية الإنجيلية والكاثوليكية تسعى خطاباتها الدينية إلى محاولة الإجابة عن بعض أسئلة العصر وتغيراته، من خلال تجديد العقل الديني المتفلسف واللاهوتى، كجزء من تطورات كلا المذهبين، والتغيرات الكبرى في الرأسمالية الغربية، والفلسفات الكبرى، إلا أن الملاحظ أن بعض التحولات الجذرية نحو الإناسة الروبوتية، وما بعد الإنسان، والاستنساخ الحيواني والبشري واحتمالاته التى تجرى بعيداً عن الرقابة الرسمية والدينية، لا تزال لا تجد سوى إجابات عادية أو مسكوت عنها في هذا الصدد.

5- توظيف الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية السلفية، مثل داعش، والنصرة قبلها، والسلفيات الجهادية في شمال أفريقيا وجنوب الصحراء، للمجال العام الافتراضي في التجنيد السياسي، عبر مواقعها وشبكاتها العنقودية على المستوى الأوروبى، والعالم العربى، بل إن بعض ممن انتموا افتراضيا لها، في السجون الفرنسية والبلجيكية على سبيل المثال، شكلوا ظاهرة الذئاب المنفردة، وارتبكوا عديد الجرائم ضد الأبرياء والآمنين في الشوارع، أو بعض الكنائس على نحو دموي ومروع! لقد هدفت الجماعات الإسلامية والسلفية الراديكالية تحقيق هدف الردع الكوني، وإشاعة الخوف والرعب!

لا شك أن أشكال التجنيد الرقمي، والتعبئة الدينية الرقمية، كانت أحد توظيفات هذه الجماعات، في نشر أفكارها، بأساليب دالة على تمكن الأجيال الشابة والأوروبية المسلحة من إجادة استخدام الأدوات الرقمية في تحقيق أهداف هذه الجماعات.

رابعاً: التدين الرقمي في عالم العاديين الرقميين وجموعهم الغفيرة
التدين الرقمي يتمثل في السرديات الرقمية الوجيزة في المنشورات والتغريدات والصور والرسومات والفيديوهات، وغيرها من المواد الدينية من قصص دينية، ونصوص من الكتب المقدسة، أو السرديات الوضعية والتاريخية حولها، وحول الأنبياء والرسل واللاهوتيين الكبار، وكبار الصحابة، والتابعين … إلخ، أو تنسب لبعض اللاهوتيين، والفقهاء الكبار، وغيرهم.

ويشتمل التدين الرقمي على خطابات العاديين الرقميين حول ديانتهم، ومذاهبهم، وتصوراتهم عن العقائد والأديان والألوهية والنبوات ورسالات الدين ومقاصده وقواعده المعيارية والأخلاقية والسلوكية. ويمكن تقسيم التدين الرقمي إلى أنماط وفق الموضوعات السابقة، وغيرها، وهى أنماط بعضها جاء من التدين الشعبي السائد في الواقع الفعلي، وبعضها الآخر تشكل، ولا يزال على التصورات السائدة على وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة. ويشمل التدين الرقمي خطابات العاديين، وتصوراتهم عن أديانهم ومذاهبهم وتاريخها وقصصها وقواعدها، أو خطابات رجال الدين المحترفين في المجال الديني الرقمي، ومعهم أراء مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي وشبكاته الشائعة عن الأديان.

يشمل التدين الرقمي الظواهر الدينية الرقمية دفاعاً عن المقولات الدينية الشائعة، في أوساط الجموع الرقمية الغفيرة حول الأديان، والمذاهب، ومن ثم يشمل خطابات الدعوة إلى الدين، وشمائله إزاء الأديان والمذاهب الأخرى، وتحبيذهم له، أو إشاعة الكراهية إزاء الآخر الديني والمذهبي، ونقده، والتشهير ببعض مقولاته وعقائده وشخصياته التاريخية الدينية، أو التشكيك في سردياته التاريخية الشائعة لدى معتنقيه!

ويشمل التدين الرقمي وأنماطه كل ما له علاقة بالأديان والمذاهب أيا كانت، وتتشكل عبر الواقع الرقمي سردياته الرقمية. ويشمل كذلك الخطابات الدينية العنيفة، والحادة، والمتشددة للجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والسلفية المبثوثة على المواقع الرقمية.

في ظل شيوع أنماط التدين الرقمي في عصر الجموع الرقمية الغفيرة، تبلورت ظاهرة محاكم التفتيش الدينية الرقمية، التى تحاكم ضمائر وعقائد الآخرين حتى من المنتمين إلى ذات الديانة والمذهب، وإصدار الأحكام عليهم بالكفر أو المروق عن الدين أو ملة المسلمين أو المسيحية. لاشك أن محاكم التفتيش الدينية الرقمية تشكل ظاهرة خطيرة، لأنها تصدر أحكامها من منظور هؤلاء العاديين الرقميين غير المتخصصين إزاء الآخرين، وتمتد إلى إشاعة الكراهية والمشكلات تجاه الآخر الديني والمذهبي المختلف. بعض المحاكم التفتيشية لعقل وضمائر وإيمانات الآخرين تعود إلى حملات منظمة بين الحين والآخر لخصوم سياسيين أو دينيين أو مذهبيين لهذه الجماعات، وتوظيف بعض المنشورات والتغريدات والفيديوهات والصور، وتحويلها إلى مجال المحاسبة الدينية والعقائدية! واستغلال بعض المناسبات الدينية، وتوظيفها في التعبئة الدينية تجاه السلطات السياسية الحاكمة في العالم العربي كجزء من الصراع على الدين وبه في العمليات السياسية، والحشد الجماهيري المتبادل!

بعض هذه العمليات ترمي لتديين المجالين العاميين الرقمي والفعلي، ومن ثم تحقيق أهداف سياسية واجتماعية بامتياز! بعض أنماط التدين الرقمي تعود إلى دور العاديين الرقميين، ومحاولات إثبات تدينهم! وبناء مكانة من خلال خطاباتهم المتطرفة والدفاعية والهجومية عن أديانهم ومذاهبهم إزاء الذوات الرقمية الأخرى والمغايرة! بعضها الدفاعي هو تعبير عن عن رُهاب الخوف من الحرية، والخطابات المضادة والتفكيكية للتدين الوضعي وسردياتها وأنماطه المختلفة الفعلية والرقمية. حالات سوسيو- نفسية دينية دفاعية عن الذات، ومخاوفها إزاء أسئلة جديدة ومختلفة، تطرحها التحولات والأسئلة الجديدة في عصرنا السائل والمتغير، حيث يسوده اللايقين، والتحول إلى عالم مختلف تماماً، وأسئلة مختلفة حول الدين، والوجود الإنسانى وشروطه، وخاصة ما حدث في ظل عالم الكورونا المتحورة، وما بعدها، وانهيار مقولة الإنسان محور الكون، وشرطه في ظل عالم الفيروسات الغامض، والتغيرات البيئية الكونية، وأثرها على الحياة الإنسانية، والأخطر مواقف الرأسمالية الكونية الوحشية، وولعها باستغلال الطبيعة لصالح تعظيم ربحيتها، وتراكمها الرأسمالي الذى لا يهتم بالبيئة والاحتباس الحراري، والشرط الإنساني، وحياة غالب مجتمعات الجنوب عند الحافة! وعسر حياة أغلبياتها الشعبية الفقيرة، وغالب من يعيشون وراء خطوط الفقر!

يطرح التدين الرقمي ظواهر ومشكلات سياسية ودينية واجتماعية متعددة منها:

1- الفاعلين الدينيين في الحقل الديني الرقمي، ودوافعهم، وخطاباتهم، وأعدادهم الضخمة.

2- توظيف المجال العام الديني الرقمي من الجماعات الإسلامية السياسية الراديكالية، والسلفيات الجهادية وغيرها في توزيع خطاباتها الدينية السياسية، وفى جذب وتجنيد الأعضاء على نحو ما ظهر في حالة الذئاب المنفردة في فرنسا وبلجيكا وأوروبا … إلخ!

3- الصراعات الدينية/ الدينية، والدينية/ المذهبية.

4- الصراع على المكانة والنفوذ الديني بين السلطات الدينية الرسمية، وبين الجماعات الدينية السياسية والسلفية المعارضة، ودعاة الطرق.

5- ثقافة كراهية الآخر الديني المختلف، وأثرها على الاندماج الداخلي، لاسيما في أوروبا، والعالم العربى.

6- أثر ظواهر التدين الرقمي على حياة الجاليات الإسلامية والعربية في أوروبا!

كل الظواهر السابقة للتدين الرقمي، وأثره على الواقع الفعلي بالغة الأهمية، وتحتاج إلى مقاربات مختلفة عن ظواهر التدين الشعبي وأنماطه السائدة في الواقع الفعلي.

من أبرز الظواهر المرتبطة بالتدين الرقمي ضرورة إيلاء عناية خاصة سوسيو– لسانية لدراسة أنساق اللغة الدينية الرقمية، وتحول خطابات التواصل الاجتماعي المكتوبة والمرئية – الفيديوهات الطلقة الوجيزة – إلى لغة حاملة ليقينياتها وأجوباتها الحاسمة الحاملة للحقائق المطلقة! ثمة لغة حاسمة وقاطعة وجازمة، لغة سلطوية دينية، مستمدة من لغة المتون القديمة، لغة إجابات سابقة التجهيز تاريخيا تستعاد وتتلى، ويعاد كتابتها وترويجها، مع فقدان للغة السؤال، والأسئلة التى يطرحها عصرنا في علاقته بالنص المؤسس المقدس، أو سردياته التأويلية والفقهية، واللاهوتية. إنها لغة لا تميز بين السرديات الوضعية حول المقدس، وبين المقدس ذاته، والحاجة إلى تجديد التفسيرات والتأويلات الوضعية البشرية للنص المقدس التأسيسي، سعياً وراء حركيته في الزمان والمكان، وظواهر التحول في الشرط الإنساني الوجودي.

الدرس اللساني– السوسيو دينى لنظام اللغة الديني في الخطابات الدينية الرقمية، وعلى الواقع الفعلي في المجتمعات العربية والإسلامية من الأهمية بمكان، لفهم وتحليل العقل الديني الرقمي والفعلي، وإنتاجه للخطابات الدينية على تعددها، وجمودها معاً![1]

لقد أصبح التحليل السوسيو– ديني، والسوسيو– نفسي من الأهمية بمكان في الدرس السوسيولوجى الديني الرقمي، والذى سوف يتطور من خلال هذه الدراسات الجديدة نسبياً.

خامسا: أثر الرقمنة على المجال العام الفعلي وعلى النظم السياسية المقارنة
أثرت الثورة الرقمية سياسيا على الواقع السياسي الفعلي من خلال تحول المجال العام الرقمي الحر نسبياً، وتحت نظم الرقابة الرقمية الرسمية، وأيضاً للشركات الرقمية الكونية الكبرى. الرقمنة باتت أداة لبناء جماعات ضغط رقمية، تمارس نقدها ومطالبها خارج الأطر الحزبية وخارج الأنظمة الدستورية والقانونية، وخارج الآليات التقليدية للنظام الديمقراطي التمثيلي، من تعددية حزبية ومنافسات وانتخابات برلمانية وحزبية داخل كل حزب، وانتخابات بلدية، واستفتاءات وتشكيل الحكومات بناءا على نتائج الانتخابات، أو انتخابات رئاسية في النظم الرئاسية كالولايات المتحدة الأمريكية، أو برلمانية وشبه رئاسية على النمط الفرنسي.

الرقمنة أصبحت جزءاً من الحياة السياسية الفعلية، إلا أن الجديد أن المجال العام الرقمي أصبح إحدى أدوات التغيير والمعارضة السياسية، متجاوزاً في بعض الأحيان الأحزاب السياسية، وتعبيراً عن عدم الرضا عن أدائها، خاصة في ظل تراجع الأحزاب الكبرى لليمين واليسار والوسط في أوروبا، وخاصة فرنسا.

من أبرز ظواهر الغضب الاجتماعي والسياسي ظاهرة الشارات الصفراء التى كشفت عن دور الواقع الرقمي في عرض الأفكار، وتجميع وحشد المؤيدين، والانتقال إلى المعارضة والتظاهر على الواقع الفعلي. المرجح أن مستقبل الظاهرة الحزبية التعددية سوف تعتريها تغيرات في المقبل من السنوات، وربما تتشكل أحزاب رقمية/ فعلية في المستقبل بديلا عن الخرائط الحزبية الحالية، خاصة مع ظواهر التطورات الجديدة في أسواق العمل، وبروز دور الإناسة الروبوتية في العمليات الإنتاجية، والتوزيعية، والخدمية، وخروج ما يقرب من 50 مليون عامل من وظائفهم في 2030 دون أن يكون لديهم إمكانية العودة لسوق العمل مجدداً. لا شك أن ازدياد هذه الأعداد سيطرح طلباً سياسياً مكثفاً على استخدام المجال العام الرقمي، سعياً وراء حماية مصالحهم في نظام الضمان الاجتماعي.

ثمة أسئلة حول إمكانيات تعديل نظام الديمقراطية التمثيلية نحو إدخال بعض أشكال الديمقراطية المباشرة، وعدم الانتظار للانتخابات العامة لتغيير سياسات الحكومات المنتخبة!

من الظواهر السياسية للرقمنة تأثيرها على الثقافة السياسية الديمقراطية كجزء من عمليات السيولة، والتحول، واللايقين من حيث بروز بعض ظواهر الشعبوية، وعالم ما بعد الحقيقة، والأخبار الكاذبة في السياسة، على نحو ما ظهر في فترة حكم الرئيس الجمهورى الأمريكى دونالد ترامب، وبعض نظرائه في عديد من بلدان العالم، ومثاله في الهند حزب اليمين المتطرف بهاراتيا جناتا. التحول إلى ما بعد الحقيقة، وبروز اتجاهات عنصرية لدى بعض الأحزاب والقادة السياسيين، هي جزء من تقلصات عمليات التحول الصعبة والقاسية في عالمنا إلى الثورة الصناعية الرابعة وتحولاتها، وقطيعتها مع ما قبلها، وعصر الما بعديات السائل.

من هنا تطرح هذه الظواهر الانتقالية والجديدة قضايا جديدة على السوسيولوجيا السياسية.

إن خطورة ما بعد الحقيقة، وتوظيف الأخبار الكاذبة والخداع وأساليبه المختلفة، أثر سلباً على قيم الحرية والحق في التعبير والانتخاب … إلخ! لأنه يؤدى إلى التأثير على اختيارات المواطنين الحرة، والجماعات الغاضبة! من ناحية أخرى يؤدى هذا الوضع إلى تحول الجموع الغفيرة من العاديين الرقميين والفعليين إلى مادة لإعادة تشكيلها سياسياً، وامدادها بالأخبار الكاذبة التى تروجها، أو تشارك بفعالية في نشرها مع غيرها على الواقع الرقمي.

مع الأخبار الكاذبة، وأساليب الخداع تبدو الحرية قرينة الأكاذيب والخداع، ولا تغدو تعبيراً عن الإرادات الحرة للافراد. من ثم تغدو الحرية الرقمية هى حرية العاديين الرقميين في ممارسة الأكاذيب والخداع في عصر ما بعد الحقيقة، وتغدو وسائل التواصل الاجتماعي تعبيراً عن حرية “جحافلة الحمقى” بتعبير أمبرتو إيكو.

من هنا تبدو اللغة لاسيما لغة الأكاذيب، والدين، وخاصة الأخيرة، وفق أدونيس “يمكن أن تكون أداة للطمس والتزوير والمحو، وبدلاً من أن تكون طاقة لطرح الأسئلة، تتحول إلى مستودع – مستنقع لمياه الأجوبة اليقينية الجاهزة ..”. هكذا في الممارسة، تصبح الحقيقة كذباً، ويحل الكذب محل الصدق، ويصبح الإنسان هو نفسه، توهما. وهكذا، يحل الوهم محل الواقع، ويغيب المرئى، لكى يأخذ اللا مرئى مكانه. من ثم يرى أدونيس “وها هو عالمنا الذى نعيش فيه يسيطر عليه فن الطمس والمحو والتهميش لكل ما هو إنساني، حقيقى، كونى، ولا مكان في هذا العالم للذاتية الحرة المستقلة”.[2]

لا شك أن شيوع تيار ما بعد الحقيقة، وأساليب الكذب والخداع، والأخبار الكاذبة، ومشاركة العاديين الرقميين، وكتلهم الغفيرة، يؤدى إلى بناء سياجات جديدة للعقل بها طوفان من الأكاذيب، والخداع، وتتوارى الحرية والذوات الحرة المستقلة فيما وراء طوفان ما بعد الحقيقة، لصالح أشكال جديدة من الرقابات الرقمية الناعمة والثقيلة، وأساليب السيطرة السياسية للطبقات الحاكمة.

تبدو الحرية الرقمية مع طوفان الأخبار الكاذبة، والآراء التى تؤسس عليها، واستخدام الشركات الرقمية الكونية للبيانات الضخمة Big Data لإعادة تشكيل العقل، وأنماط الاستهلاك، والسلع والخدمات والرغبات، إلى معتقل كوني طوعي للإنسان وحرياته، وتجعله تحت السيطرة الناعمة، وأشكال الرقابة الرقمية مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية للدول والحكومات في عالمنا الراهن!

سادسا: نهاية بعض الطقوس والعادات الموروثة، طقس المشاهدة السينمائية
أدت ثورة الرقمنة ووسائل التواصل الاجتماعي إلى تغيير في بعض الأنماط الثقافية والعادات التى سادت في العصر الحديث والحياة الثقافية المعاصرة، ومنها، على سبيل المثال، بعض ما ارتبط بالانتقال من سلطة الصورة الفوتوغرافية التى وظفتها الصحافة المكتوبة والمقروءة إلى سلطة الصورة السينمائية والتلفازية، وهو طقس المشاهدة السينمائية، في دور العرض السينمائى، والتى تتمثل في عادة الذهاب إلى دور العرض على نحو فردى أو جماعي، من الأسرة أو الزوجة أو الرفيقة أو مع الأصدقاء، وما يرتبط بهذا الطقس من سلوكيات الجلوس على المقهى قبل أو بعد العرض! والنقاش الذى يدور حول السردية السينمائية، وأداء الممثلين والممثلات والإخراج، أو السيناريو والحوار، أو الإخراج! أو الاقتصار على بعض هذه العناصر في الحكاية السينمائية أو الموسيقى التصويرية!

مع ثورة وسائل التواصل الاجتماعي، وبروز دور المنصات الرقمية السينمائية –بالاشتراك– وتحول الشركات المؤسسة للمنصات السينمائية والدرامية التلفازية –الإنتاج للمسلسلات التلفازية- تحول إنتاج السينما إلى هذا المجال، ويتزايد دوره. من هنا تناقصت أعداد من يذهبون إلى دور السينما في العالم لصالح المشاهدة للأفلام والمسلسلات على المواقع الرقمية، وإنتاجها. الأهم أن ذلك أدى إلى تراجع طقس المشاهدة التقليدى بدور السينما، وما كان يحمله من أخيلة وذكريات شخصية أو جماعية من أفلام الأبيض والأسود إلى الأفلام الملونة! تحول طقس المشاهدة، وارتحل إلى المنصات السينمائية، وعروضها للأفلام، وأصبح فرديا أو جماعياً في المنزل، وتغلب عليه الوحدة سواء أمام الألواح الرقمية، أو شاشة التلفاز المتطورة رقمياً، أو فردياً من خلال الأجهزة المتطورة لجهاز الهاتف المحمول!

تثير المنصات الرقمية إشكالية حرية المتلقي في المشاهدة، بالنظر إلى تبني هذه الشركات بعض القيم الجديدة، والمغايرة لما كان سائداً من قبل من منظومات قيم وسرديات سينمائية، ومنها تطبيع المثلية الجنسية، بوصفها اختياراً فردياً حراً سواء المثلية الذكورية أو النسائية، وأيضاً التوسع في الحرية الجنسية، والتعري الجسدي، والبوح الشبقي، والالتحام الحميمي بين الأجساد الملتاعة!

قيم المنصات الرقمية السينمائية، ومسلسلاتها التلفازية، باتت تشكل قيداً على حرية المشاهدة، ومعها العنف بأشكاله كافة، وأيضاً الأفلام المتخيلة عن كائنات إنسانية، وغيرها تهاجم الولايات المتحدة أو الكرة الأرضية، وتهددها بالفناء… إلخ! تبدو هذه المنصات الرقمية جزءاً من عمليات ممنهجة للتغيير في السلوك الإنسانى، والقيم، وطرائق التفكير السائدة، على نحو يشير إلى أشكال جديدة تصنع ثقافة العيون أو الثقافة البصرية، والمشاهدة في إطار مقولب، ومؤثر على الفرد. هى ظاهرة إنتاجية رقمية جديدة، ولها بُعدها الثقافى الاجتماعي، ولا تقتصر على الأفلام، والمسلسلات، وإنما تشمل الموسيقى والأغانى ذات الطابع الاستهلاكي السريع، وأقرب إلى ظاهرة الـ Fast Food إلى ماسبق أن اطلقنا عليه الـ Fast Music، Fast Songs، كجزء من ظواهر الأكل السريع الأمريكي، وما سبق أن أطلق عليه “مكدلة” العالم مع العولمة من وجبة المكدونالد الأمريكية السريعة.

يترتب على ذلك تراجع نسبي في مشاهدة الفنون التى كان يُطلق عليها “الفنون الرفيعة” كالأوبرا والموسيقى الكلاسيك والسيمفونيات والباليه! لا شك أن هذا التغير الثقافي والاجتماعي يشكل تعبيراً سوسيو– ثقافيا عن أذواق الأجيال الجديدة الشابة، ابنة الثورة الرقمية، ونمط وايقاعات السرعة المفرطة في الحياة الكونية. من هنا نفهم ميل بعض الأجيال الشابة إلى استخدام الهاتف المحمول المتطور في تصوير ذواتهم الرقمية في الفيديوهات الطلقة الوجيزة والسريعة، في تصوير ذواتهم وأقوامهم، وآراءهم، أو أجسادهم وبثها على وسائل التواصل الاجتماعي سعياً وراء زيادة المتابعات، وتحصيل بعض الأموال من الشركات الرقمية عند أرقام محددة من تعاظم الـ Likes.

من ناحية أخرى، ثمة ظاهرة أوسع نطاقاً في استخدام مكنة التصوير في الهاتف المحمول/ النقال في تصوير إعداد الطعام –من ثقافات متعددة للمطابخ الوطنية أو الشعبية الآسيوية، وغيرها- أو بعض المشاهد الطبيعية غير العادية، والعادية، أو الممارسات الجنسية للحيوانات، أو الإنسانية في مختلف إشكالها سعياً وراء المال من بعض الشركات الرقمية!

لا شك أن هذه الأشكال السوسيو– ثقافية لاستخدامات الهواتف الذكية والألواح الرقمية ستؤثر في عمليات التغير الاجتماعي والثقافي في تحولات الحياة الكونية، ومن ثم ستكون موضوعاً للرصد والتحليل السوسيو– رقمي.

سابعا: التغير في طقس القراءة الورقية إلى القراءة الرقمية والسماعية
كان الكتاب الورقى، والصحيفة، والمجلات الأسبوعية والشهرية جزءاً من الطقوس والعادات اليومية في الحياة الحديثة والمعاصرة، ولا يزال بعضها حيا في حياتنا، لكنه يتناقص مع تمدد الرقمنة إلى تفاصيل الحياة اليومية في عالمنا!

بغض النظر عن الأدوار التى لعبتها الصحافة الورقية والصورة في نشر بعض الأحداث الزائفة –وفق دانيال بورستين وكتابه الشهير– في الولايات المتحدة وأوروبا، وأيضاً في المنطقة العربية. كانت الصحيفة والمجلة الأسبوعية جزءاً من مفردات وتفاصيل الحياة اليومية في الشارع، والسيارة، والمقهى، ومقار العمل، والقطارات، والطائرات، ومعها الكتاب لاسيما في عربات المترو والسيارات العامة! كانت سلطة الورقي غلابة في القراءة، وأيضاً لدى الطلاب في المدارس -أيا كانت مستوياتها- والجامعات! ولم تستطع أجهزة الإعلام المسموعة أو المرئية مع التلفازات وراديو الترانزستور أن تزيح الورقي وطقس القراءة من حياة الأفراد.

مع ثورة الرقمنة، ووسائل التواصل الاجتماعي، وإدمان الأجيال الشابة كونياً الدخول إليها، والنظرة السريعة على المنشورات والتغريدات والصور والفيديوهات، أثرت القراءة الرقمية السريعة والخاطفة، والتعليقات والمشاركة على مواقع التواصل الاجتماعي على طقس القراءة الورقي، وأصبحت جزءاً من تفاصيل حياة عصر الجماهير الرقمية العادية الغفيرة، وأدى ذلك إلى ظهور الكتب الرقمية، وأيضاً الورقية، وازدادت حتى في بعض المجتمعات العربية والمصرية قبل جائحة كورونا وفيروسها المتحور، وبعد الجائحة التى لا تزال بعض تحوراتها قائمة، من ووهان، والعالم، ثم عودتها متحورة مرة أخرى إلى الصين!

على الرغم من استمرارية التوجه نحو رقمنة الكتب والمقالات والجرائد، إلا أن الكتاب الورقي لا يزال دوره قائماً لاسيما في المجتمعات الأوروبية المتقدمة، وغيرها، ويمكن مشاهدة القراء في عربات المترو، والسيارات العامة، والقطارات، والطائرات، والسفن، يحملون الكتب والروايات والأشعار والقصص في أيديهم!

المشكلة أن الرقمنة أثرت على غالب الصحف والمجلات الورقية في غالب بلدان العالم، وبدلاً منها حل الهاتف المحمول الذكى، وخاصة مع الأجيال الجديدة، في متابعة صحافة المواطن، والأخبار فور حدوثها على المواقع الصحفية الرقمية لصحف العالم!

من ثم تراجع توزيع الصحف والمجلات الورقية، وأصبحت تعاني من مشكلات مالية ضخمة، فاحتجبت صحف لبنانية عريقة، مثل السفير، وصحف سعودية مثل الحياة.

تبدو عملية التحول من الورقي إلى الرقمي بالغة الأهمية والخطر أيضاً على طقس وأساليب القراءة والتلقي الرقمي، وذلك على النحو التالى:

أ- سيطرة القراءة الطلقة فائقة السرعة على القراءة العميقة، وسادت السطحية في تلقي الخبر والمقال والتحقيق، والكتاب، والرواية، والقصة، والقصيدة… إلخ.

ب- غلبة بعض الأخبار، والآراء الكاذبة، على مواقع التواصل الاجتماعي دون فحص لها، من خلال القراءة الطلقة، حتى بعد تصحيحها أو تكذيبها، وهو ما يعنى القراءة لطوفان من الأكاذيب المبثوثة على وسائل التواصل الاجتماعي الرقمية.

ويصف ادوارد جاليانو هذا الوضع ثقافياً بأننا “نعيش في عالم حيث الجنازة أهم من الميت، والزفاف أهم من الحب، والجسد أهم من الفكر. إننا نعيش ثقافة الحاوية التى تحتقر المحتوى”. وترى ليتيسيا دومينغيز أننا “نحب الصورة، الفيديو، المظاهر الفارغة، وليس حقيقتنا. كل شئ يجب أن يكون سريعاً، وجبات سريعة.. صور سريعة وسنصل إلى وقت التعليم السريع”.

وترى “ليتيسيا دومينغيز” أن أغلبية الناس يتفقدون هواتفهم المحمولة على مدار اليوم، للدخول إلى الشبكات الاجتماعية. يريدون معرفة كل شئ ولكنهم منفصلين عما يحيط بهم! وتذهب أيضاً إلى أنه “وكما قال جاليانو نفسه لا نستطيع أن نتنبأ بشكل العالم الذى سيكون، ولكن يمكننا تصور العالم الذى نريد أن يكون”.[3]

لا شك أن بعض من السلبيات الناتجة عن القراءات بالغة السرعة ستؤثر على العقل الإنسانى نسبيا، من خلال ظاهرة الإدمان الرقمي، والقراءات الطلقات، والخلط بين الحقائق والأكاذيب، وهو ما يعيد إلى الواجهة عنوان كتاب آلان دينو Alain Deneault، أستاذ الفلسفة والعلوم السياسية بجامعة كيبيك، عن نظام التفاهة الذى تحدث خلاله عن سطوة المديوكراتية.

الأخطر أن أوضاع القراءة والمعرفة والسلطة وأجهزة الإعلام التلفازية والمقروءة والمسموعة، والرقمية كونيا، وفى مصر والعالم العربي، تعيش فيما سبق أن أطلقنا عليه سلطة “المنيوقراطية”، في حوار لنا مع رئيس تحرير “الفيجارو مجازين”، في أعقاب الغزو العراقى للكويت وتحريرها بواسطة قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة، وهو مصطلح مختلف عن “المديوكراتية”، وهو ما دون الحد الأدنى في كل شئ، في أساليب التفكير والسلطة والإعلام، في عقل الطبقة السياسية الحاكمة، والمعارضات، في ظل سياسة اللا-سياسة التكنوقراطية، والتوتاليتارية، والتسلطية في المنطقة العربية.لا شك أن ذلك أثر على التعليم ومناهجه ومقرراته التى يشوبها السطحية والإيجاز وعدم التأهيل، وغياب عمق المعالجة، والمقاربة النقدية، وثقافة الأسئلة، والاعتماد على الحفظ والاستظهار للمواد المقررة. في ظل أزمة فيروس كورونا المتحور واللجوء إلى التعليم عبر الألواح الرقمية، وعدم النجاح النسبى للتجربة، على نحو أثر على نوعية التعليم ومقرراته الذي ظل ردئ المستوى وخطر!

إن أخطر ما في طقس “القراءة الطلقة” الرقمية يتمثل في مسألة تشتت الانتباه، وتسارع الانتقال بين المشاهد المتتالية، وضغط الزمن جريا وراء الجديد والمغاير، من خلال إغراق المستخدم في فيض من الإثارات وتغيرها، وذلك على غرار السمكة الحمراء في الإناء الزجاجي وذاكراتها التى لا تتجاوز الثواني الثمان، إذ أصبح الجيل الجديد من الناشئة حسبما حسبته غوغل لا يتجاوز التسع ثوانى.

هذه ليست مسألة تقنية، بل هى خطة موضوعة في برمجيات هناكتشغيل المنصات بتوجيه من العمالقة الخمسة لخلق ما يسمى “اقتصاد الانتباه (Economie de l’attention ) للاستحواذ على وقت المستخدم. أنظر برونو باتينو، حضارة السمكة الحمراء مقالة (حول سرق الانتباه، ترجمة وتقديم د. مصطفى حجازى، من المقدمة ص 20، المركز الثقافى العربى، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2021).

لا شك أن هذه الظاهرة الخطيرة اتسع نطاقها كونيا، وباتت، تعيد صياغة العقل الإنساني، والأخطر عالم الأجيال الجديدة الشابة في مجتمعات ثقافات العالم المتعددة، وباتت تخضع للتحليل السوسيو– رقمي، والسوسيو– نفسي، والسوسيو– ثقافي على المستوى الغربي، والمجتمعات العلمية والأكاديمية الغربية أساسا. من ناحية أخرى، لا تزال دراسات علم الاجتماع في مصر والعالم العربي مأزومة، لأنها لا تزال تدور في إطار الأدبيات السوسيولوجية الموروثة تاريخيا من الوظيفية والبنيوية والماركسية، وسردياتها النظرية، أو تطبيقات ميدانية دون المستوى العلمي، والاستثناءات جُد محدودة.

خاتمة: ضرورة درس الحرية الرقمية والعبودية الطوعية، وآثارها الخطرة على الحياة الكونية المتحولة

كتب الكاتب والقاضي الفرنسي، وصاحب النظرية الفوضوية والفلسفة السياسية الحديثة، إتين دي لابويسيه Etienne de La Boetie (نوفمبر 1530– أغسطس 1563) كتابه الشهير حول العبودية الطوعية في عام 1549، وكان عمره اثنين وعشرين عاما. وذهب إلى القول بأن الطغاة لديهم السلطة لأن الشعب أعطاها لهم، وقد تم التخلي عن الحرية مرة من قبل المجتمع، وبقيت بعد ذلك متخلى عنها، وفضل الشعب الرق على الحرية وعلى رفض الهيمنة والانصياع. ويربط لابوسييه الطاعة والهيمنة معا.[4] هذا النمط من العبودية المختارة، أو الطوعية، ارتبط عبر مراحل تاريخية، ولايزال، مع بعض فوائض العبودية والانصياع والخضوع والامتثال السياسي القائمة مع بعض التغيرات في عالمنا العربي من خلال التبرير الديني لثقافة الخنوع السياسي، إلا أن الحريات الرقمية الطوعية، وإدمانها، والباثولوجيا السوسيو– نفسية لمواقع التواصل الاجتماعي، وشبكاته تعتمد على نمط جديد من العبودية الطوعية الإدمانية لشبكات التواصل الاجتماعي الرقمية على نحو غير مسبوق كونيا، وهى حالة يمكن أن نطلق عليها مع بعض التحفظ مرضية، وتخضع للدرس السوسيو– نفسي الرقمي من قبل بعض العلماء الاجتماعيين والنفسيين، لاسيما في الجامعات ومراكز البحث الغربية. نحن إزاء حرية رقمية مختارة، ومعها عبودية طوعية من نمط فريد واستثنائى، حيث يلعب الجميع لعبة السيطرة والخضوع معاً، في ثنائية من نمط فريد، ويدورون في حوارات السعي إلى الظهور الحر في تفاصيل حياتهم، وآرائهم. وفى الوقت نفسه، يحاولون بناء مكانة من خلال خطاباتهم وصورهم وفيديوهاتهم المرئية سعيا وراء المال، ومع ذلك يخضعون طوعيا وباختيارهم لديكتاتورية الخضوع الإدماني لشبكات التواصل الاجتماعي الرقمية، بإرادتهم لتيارات سريعة من الأخبار الكاذبة والآراء التافهة في الغالب، ولسلطة الصورة والمرئيات الوجيزة. الخضوع الطوعي هنا إرادى في الغالب الأعم، ولكنه خضوع مسيطر عليه، فيما وراء الحرية الرقمية من قبل الشركات الرقمية الكونية الكبرى، التى توظف البيانات الضخمة Big Data في إعادة تشكيل الأفكار والسلوك وثقافة العيون، وفق مطالب الشركات الكونية متعدية الجنسيات، في إنتاج وتوزيع السلع والخدمات، وعالم الأشياء، وفق مصالحها الاقتصادية سعيا وراء تنظيم الربحية المليارية الضخمة.

عبودية طوعية ومختارة في ظل الحريات الرقمية غير المسبوقة ولكنها تحت نظم للرقابات السياسية، والأمنية، والاستخباراتية للنظم السياسية –أيا كانت– على المجتمع الكوني الرقمي المتعدد، حيث تخضع الحرية الرقمية، وعبوديتها المختارة، للسيطرة وإعادة التشكيل والتوجيه السياسى والاقتصادى والاجتماعى.

إنها ظاهرة كونية جديدة، وتحتاج إلى المزيد من الرصد والتفكيك والتحليل السوسيو– رقمي، والفعلى، والنفسى، والثقافى.

[1] انظر مقالاتنا بصحيفة الأهرام:
“خطاب القيم في عصر سلطة العاديين”، الأهرام، 27/1/2022.
“الذات الرقمية في عصر العاديين”، الأهرام، 3/2/2022 .
“التدين الشعبى الرقمي الشعبوى .. وفوضى الأسواق الدينية”، الأهرام، 24/2/2022.
“التدين الرقمي والمعارضة السياسية المراوغة”، الأهرام، 3/3/2022.
“دور رجل الدين الرقمي في عصر العاديين”، الأهرام، 10/3/2022.
“محاكم التفتيش الدينية الرقمية”، الأهرام، 19/5/2022.
“ملايين الطغاة الدينيين الرقمين الصغار”، الأهرام، 26/5/2022.
“القيم الاجتماعية المتغيرة والعقل الساكن”، الأهرام، 2/6/2022.
[2] أنظر كلمة أدونيس أثناء تسلمه جائزة “هوميروس” التركية، على موقع independentarabia 9 يونيو 2022. متاح على الرابط التالي:
https://cutt.us/lpA1A
[3] أنظر: لينا الحسيني، “ثقافة الحاوية..! تعريب: لينينا”، موقع ساحة التحرير، 11 يونيو 2022. متاح على الرابط التالي:
https://www.sahat-altahreer.com/?p=100928
[4] انظر: إتين دي لابويسيه، العبودية المختارة، ترجمة صالح الأشمر (بيروت: دار نشر الساقي، الطبعة الأولى، 2016).

نبيل عبد الفتاح – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية

اساسي