يحيى السنوار.. الرجل الذي تخشاه إسرائيل حيًا وميتًا

بدأت القصة حسب ما أوردت صحيفة “جيروزاليم بوست” يوم 26 يونيو/حزيران 2006، حين أحسَّ الجندي الإسرائيلي “جلعاد شاليط” ببعض الإعياء بينما أشارت الساعة إلى الرابعة و35 دقيقة. صحيح أن الدبابة كانت مؤمَّنة، بيد أن تعليمات الاستخبارات الداخلية الإسرائيلية “شين بيت” كانت واضحة أيضا: على الجميع الحذر من احتمال تسلُّل مقاتلي حماس لاختطاف جنود إسرائيليين، وهو تحذير تكرَّر في أثناء اجتماع للوحدة الإسرائيلية. لم يُصغِ شاليط جيدا إلى التحذيرات، وفي أثناء غفوة خفيفة، تعرَّضت دبابته لقصف صاروخي من رجال المقاومة، فنهض الجندي الإسرائيلي مرعوبا من نومه دون سلاح في يده أو خوذة على رأسه أو سترة واقية تقيه وابل الرصاص. أبى شاليط أن يخرج من الدبابة كما فعل زميلاه اللذان قُتِلا في الكمين، ثم سرعان ما دخل في الصلاة من أجل حياته، قبل أن يُسلِّم نفسه في الأخير لمقاتلي حماس.

نجا شاليط بحياته بالفعل ولم يلقَ مصير زميلَيْه، بيد أنه بقي في أسر رجال المقاومة لوقت طويل. وقد احتاجت إسرائيل إلى أن تُقدِّم الكثير من أجل تحرير “ابن الجميع”، كما وصفه الرأي العام الإسرائيلي آنذاك، إذ أطلق الاحتلال سراح 1027 أسيرا فلسطينيا في صفقة ضخمة سمَّتها المقاومة “وفاء الأحرار”، وشملت الكثير من أسرى حركات “فتح” و”حماس” و”الجهاد الإسلامي” وغيرهم. من بين كل أولئك الأسماء، كان ثمّة رجل استطاعت المقاومة انتزاعه ضمن مجموعة أخرى من الرجال، وندمت عليه إسرائيل كثيرا فيما بعد، “يحيى إبراهيم حسن السنوار”.

الطريق نحو عقدين من السجن
تُعَدُّ مدينة “المَجْدَل عَسْقَلان” من أقدم المدن الفلسطينية، وهي تقع إلى شمال شرق غزة، وقد سقطت عام 1948 في أيدي جيش الاحتلال الذي غيَّر اسمها إلى “أشكلون”. ومن هذه المدينة جاءت أسرة يحيى السنوار، الذي لم يعرف بلدته الأم لأنه وُلِد في مُخيَّم “خان يونس” للاجئين سنة 1962، ومثله مثل بقية أطفال المُخيَّمات، ترك الفقر والحياة القاسية أثرا كبيرا في طفولة السنوار، فقد شهد منذ صغره الاعتداءات التي قامت بها دولة الاحتلال في حق أهالي المُخيَّمات.

درس السنوار في الجامعة الإسلامية بغزة، وحصل على درجة البكالوريوس في اللغة العربية، وترأس “الكتلة الإسلامية” أثناء دراسته الجامعية، وهي الذراع الطلابي للإخوان المسلمين في فلسطين. وقد كانت هذه الفترة مهمة في حياته، إذ ساعدت القيادي الفلسطيني على الاستعداد للأدوار التي تبوَّأها فيما بعد داخل حركة حماس، ورغم أن الرجل لم يكن من المؤسِّسين الأوائل للحركة، فإنه بات من كوادرها الذين سطَّروا توجُّهات وأُسس المقاومة الإسلامية على مدار سنوات طوال.

رأى القيادي الفلسطيني أن كسر الاحتلال لن يتم إلا بالقضاء على جميع أدواته، وأولى هذه الأدوات هو خنجر العملاء المسموم الذي يخترق النسيج الفلسطيني. واقترح السنوار على الشيخ “أحمد ياسين” حينئذ بعض الأفكار التي من شأنها تعزيز الجانب الأمني للمقاومة، وأبرزها تأسيس جهاز الأمن والدعوة “مجد”، الذي تولَّى الملفات الأمنية الداخلية. وتمكَّن السنوار حينها من قيادة مجموعة من الكوادر الأمنية وتتبُّع عدد من العملاء الذين عملوا لصالح الاحتلال، ونجحت مجموعته في تصفيتهم. وبمرور الوقت، أضحت “مجد” نواة أولى لتأسيس النظام الأمني الداخلي لحماس، وصار دورها بجانب إجراء التحقيقات مع عملاء إسرائيل هو اقتفاء آثار ضباط المخابرات وأجهزة الأمن الإسرائيلية نفسها، وتوسَّع عمل الجهاز حتى أطاح في بعض الأحيان بأشخاص داخل حماس ممن اتُّهِموا بالتعاون مع دولة الاحتلال.

شكَّلت هذه القضية مصدر تساؤل كبير أحاط بـ “الرجل الغامض” في حماس، خاصة بالنظر إلى إشرافه شخصيا على ملف العملاء داخل الحركة. وقد صرَّحت مصادر مُقرَّبة من المقاومة في حديث مع “ميدان” أن اسم السنوار حضر كثيرا في هذه القضية لأنه تبوَّأ وقتها رأس العمل الأمني والعسكري في المكتب السياسي لحركة حماس، رغم أن الواقع يقول إن هذه الإجراءات العِقابية لا تتم داخل الحركة إلا عبر لجان شرعية وقضائية متخصصة، وإن حكمت هذه اللجان بعقوبة الإعدام، فإن التصديق على قرار مهم كهذا لا يحدث إلا بعد الاطلاع الكامل من طرف مسؤولي حماس. وقد أكَّدت المصادر ذاتها أن ثمَّة تجنِّيا على رئيس حماس في غزة بسبب هذا الملف، في حين يعرف الجميع أن الحركة تعمل بنظام الشورى ولديها نظام داخلي يسري على الجميع، ومن ثمَّ يكون الوصول إلى قمة الهرم في الحركة عن طريق انتخابات نزيهة يفوز بها الشخص القادر على إقناع أكبر عدد من المصوِّتين بفكره ومشروعه، حدّ تعبيرهم.

لم تكن تحرُّكات السنوار الداخلية لتمر بعيدا عن أعين الاحتلال، فقد اعتقل جيش الاحتلال الإسرائيلي القيادي الفلسطيني عام 1982، أي قبل تأسيس جهاز “مجد”، وحُكِم عليه حينها بالسجن ستة أشهر بتهمة المشاركة في نشاطات أمنية ضد إسرائيل. بيد أن الحُكم الأثقل أتى في 20 يناير/كانون الثاني 1988، حين حُكِم عليه بالسجن مدى الحياة أربع مرات، بالإضافة إلى حُكم بالسجن مدة 30 سنة، بعد أن وُجِّهَت له تُهم تتعلَّق بتأسيس جهاز أمني والمشاركة في تأسيس الجهاز العسكري الأول للحركة الذي عُرَف باسم “المجاهدون الفلسطينيون”. وقضى السنوار 23 عاما داخل السجون الإسرائيلية أسيرا، حتى جاء تحريره ضمن صفقة تبادل الأسرى عام 2011، التي عُرِفَت إعلاميا باسم “صفقة شاليط”.

أقرب للعدو
على مدار سنواته الطويلة في الأسر، كان السنوار متابعا جيدا للمجتمع الإسرائيلي، وواظب على متابعة ما صدر في الإعلام العبري باستمرار، كما اطلع على الكثير من الدراسات المكتوبة بالعبرية التي تناولت الوضع الداخلي الإسرائيلي، وهو ما انعكس كثيرا على أسلوبه وتعاطيه مع مجتمع الاحتلال. وعقب خروجه من السجن، شارك السنوار في الانتخابات الداخلية لحماس سنة 2012، وفاز حينها بعضوية المكتب السياسي للحركة، كما تولَّى مسؤولية الإشراف على الجهاز العسكري لكتائب عز الدين القسام.

ونتيجة هذه التحرُّكات القوية خارج الأسر، ضغطت الولايات المتحدة لوضعه مع اثنين من قادة حماس على قائمة الشخصيات الإرهابية الدولية (وهُما “محمد الضيف” القائد العام للقسَّام، و”روحي مشتهى” عضو المكتب السياسي للحركة)، كما وضعت إسرائيل السنوار على قائمة المطلوبين للتصفية في قطاع غزة. ورغم هذه التضييقات، انتُخِب السنوار رئيسا للمكتب السياسي في غزة خلفا لسَلَفِه “إسماعيل هنية”، مما شكَّل نقطة فاصلة في حضور حماس داخل وخارج الأراضي الفلسطينية المحتلة.

وقد اعتبرت جريدة “الغارديان” في مقال لها عام 2017 أن وصول السنوار سيضع حدًّا للمنافسة الداخلية في حماس بين الجناحَيْن السياسي والعسكري، ويُعيد تعريف سياسة الحركة، لا سيما في ظل التحديات التي تواجهها غزة. وأضافت الصحيفة البريطانية أن انتخاب السنوار جاء إشارة واضحة على أولوية غزة، إذ يرى الرجل في القطاع أولوية للنشاط السياسي والعسكري على خلاف النهج السابق الساعي للتقارب مع قيادة السلطة الفلسطينية. لكن بعيدا عمّا خلُصت إليه الغارديان، فقد أشار موقع “راديو فرنسا الدولي” إلى أن السنوار كان المهندس الحقيقي للمفاوضات التي شهدتها القاهرة في أكتوبر/تشرين الأول 2017 الرامية إلى إعادة تفعيل ملف المصالحة الفلسطينية. كما نقل المصدر نفسه عن محللين قولهم إن ثِقَل السنوار داخل حماس، ومكانته المهمة التي وضعته ضمن الشخصيات الأبرز في الحركة، يعطيانه جانبًا كبيرًا من الحرية ليقود دفة سياسة المقاومة نحو مناطق معيَّنة، لم تكن القيادة السابقة قادرة على المجازفة بالوصول إليها، بحسب وصفهم.

بدأت خطوات السنوار تلك تجاه فتح تؤتي أُكُلها جزئيا في الوقت ذاته، فقد أشادت بعض قيادات فتح بالسنوار واعتبرته مجاهدا عنيدا وصادقا مع شعبه وقضيته، إذ أعرب “رأفت عليان” القيادي في حركة فتح عن فخره بما قامت به الفصائل في غزة العام الماضي في الحرب الأخيرة مع إسرائيل، بعد أن تمكَّنت من إثبات قدرتها على الردِّ بقوة في مواجهة الاعتداءات الإسرائيلية على القدس. وقد ظهرت حِدَّة مواقف السنوار بوضوح في خطابه الأخير بداية مايو/أيار 2022، الذي أعلن فيه التصعيد ضد قوات الاحتلال، حيث هاجم سلطات الاحتلال في مؤتمرَيْن صحافيَّيْن عقدهما منذ أيام، مُحذِّرا من “حرب دينية” كبرى في المنطقة في حال تواصلت الانتهاكات الإسرائيلية واستمر الصمت الدولي تجاه التجاوزات الصهيونية في القدس المحتلة.

لم يقف تصعيد السنوار عند هذا الحدِّ، بل تجاوزه إلى التهديد بزوال إسرائيل إن واصلت مُخطَّطاتها بتهويد القدس، مشيرا إلى أن المقاومة خطَّطت لإنهاء المعركة الأخيرة برشقة صاروخية من 300 صاروخ، لكنها عدلت عن الأمر احتراما وإكراما للوسيطَيْن المصري والقطري. وفي الوقت نفسه، أكَّد رئيس حماس بغزة أن المقاومة ستحرق الأخضر واليابس حتى تُحسِّن من حياة أبناء الشعب الفلسطيني.

وسرعان ما تطرَّق السنوار إلى الداخل الفلسطيني المحتل، فاعتبر أن القائمة الموحَّدة لا تضطلع بأي دور حقيقي، بل تُشكِّل شبكة أمان “للحكومة الصهيونية التي أخذت القرار باستباحة المسجد الأقصى”، مُتَّهِما بعض وجوه القائمة بالخيانة. وبدوره، لم يتأخر منصور عباس، رئيس حزب القائمة العربية الموحَّدة، في الرد على السنوار، إذ قال في تصريح صحافي إن حزبه ليس مدينا لأي شخص بأي شيء، وهو يعمل لمصلحة المجتمع العربي والشعب الفلسطيني، مؤكِّدا في الوقت نفسه أن الجهود التي تقودها القائمة العربية هي في سبيل تعزيز التسامح والسلام الشامل بين “شعب إسرائيل” والشعب الفلسطيني.

رغم أن بعض قادة القائمة العربية دعمت منصور في تصريحاته، ورأت أن العمل الذي تقوم به المقاومة في غزة مختلف عما يقومون به مع عرب الداخل المحتل، فإن شخصيات أخرى قالت إنه لم يكن هنالك داعٍ للردِّ على السنوار لأن القائمة العربية لن تستفيد شيئا بالدخول في خلافات مع حماس، لا سيما أن هذا الخطاب الصدامي لن يتغيَّر من جانب السنوار، الرجل الذي لا يقتنع كثيرا بالحلول الوسط، ويبدو مستعدا حسب تصريحاته وتحرُّكاته الميدانية للذهاب إلى أبعد ما يُمكِن لمواجهة الاحتلال.

الرجل الذي تخشاه إسرائيل حيا وميتا
ليس سِرًّا أن دولة الاحتلال تَعُدُّ يحيى السنوار عدوا خطيرا، فهي تصِفُه بالعنيد ورئيس جناح الصقور في حماس، كما ترى فيه الحكومة الإسرائيلية نسخة “مُتطرِّفة” بالمقارنة مع قيادات أخرى. وقد نشر معهد السياسات والإستراتيجية الإسرائيلية التابع لمركز “هرتسيليا” تقريرا حول شخصية السنوار اعتبر فيه أن الأخير يُغيِّر قواعد اللعبة مع إسرائيل، وقال إنه لا يمكن قراءة سلوك السنوار في إطار انعدام العقلانية أو الابتعاد عن الواقع، فهو يعمل ضمن خيارات واعية ويُقيِّم تحرُّكاته على أساس التجربة ونتائجها الخاطئة والصحيحة. وضرب المصدر نفسه المثل بالحرب الأخيرة التي دخلتها حماس ضد إسرائيل لأجل القدس، حتى وإن لم تكن هنالك احتكاكات في غزة تُسوِّغ هذه المواجهة المباشرة. وأوصى المعهد الإسرائيلي الحكومة الإسرائيلية بالاستعداد لمعركة إضافية قد تكون قريبة.

ورغم الدعوات الإسرائيلية الأخيرة لاغتيال السنوار بوصفه المسؤول الأول عن التحريض على العمليات التي شهدها الداخل الفلسطيني المُحتَل مؤخرا، فإن بعض المراقبين استبعدوا إقدام دولة الاحتلال على اغتيال زعيم حماس في قطاع غزة، فالأمر ليس إلا بعض المزايدة بين المعارضة والحكومة الإسرائيلية التي لم تُثبت حضورا قويا حتى الآن. علاوة على ذلك، تُدرك تل أبيب أن اغتيال السنوار من جانبها سيكون شرارة ستحرق المصالح الإسرائيلية وتدفع حكومة الاحتلال إلى مواجهة جبهتين ساخنتين بغزة والضفة الغربية في آنٍ واحد، ناهيك بالداخل العربي الهشِّ في المجتمع الإسرائيلي.

من جهتها، بدأت المعارضة بقيادة رئيس الوزراء الأسبق “بنيامين نتنياهو” في التحرُّك لإسقاط حكومة “نِفتالي بينيت”. وتخشى إسرائيل كثيرا من ردود فعل الجانب الفلسطيني الذي بدا واضحا وقويا مؤخرا، إذ شهدت مدينة خان يونس جنوبي قطاع غزة مسيرة جماهيرية داعمة للسنوار بسبب التحريض والتهديد الذي تعرَّض له من طرف الإسرائيليين. وتوالت التصريحات الداعمة لرئيس حماس في غزة بداية بالناطق باسم كتائب القسام “أبو عبيدة”، الذي حذَّر إسرائيل قائلا إن المسَّ بالسنوار يعني زلزالا شاملا في المنطقة، فيما اعتبر “خالد البطش”، القيادي في حركة الجهاد الإسلامي، أن المساس بأيٍّ من قادة المقاومة الفلسطينية يعني فتح أبواب جهنم.

لا ترى دولة الاحتلال في السنوار سوى عدو على غرار غيره من أعداء إسرائيل، فهو مُجرِم يستحل دم أبنائها ويُهدِّد أمن وسلام الدولة الصهيونية، ولكن رغم ذلك، سيكون على الحكومة الإسرائيلية أن تلتزم ضبط النفس والنفس الطويل مع السنوار إذا ما أرادت استعادة الأسرى الإسرائيليين الأربعة الذين تحتفظ بهم حماس حتى اللحظة، فالمفاوضات لن تكون سهلة أبدا، لا سيما مع قيادي خرج هو نفسه من الأسر في صفقة سابقة، بل وكان مُعارِضا أصلا لصيغة الاتفاق آنذاك رغم أنه منحه الحرية، فقد أصرَّ السنوار على إخراج جميع الأسرى مقابل الأسير الإسرائيلي، ولعل هذ يشي لنا بطبيعة الرجل ونهج الحركة تحت قيادته، ويُنبئ الحكومة في تل أبيب بصعوبة المهمة القادمة في مواجهة حماس.

المهدي الزايداوي – الجزيرة

اساسياسرائيلحماسغزةفلسطينيحيى السنوار