يروي موريس هانكاي، سكرتير الحكومة البريطانية أن رئيس الوزراء الفرنسي جورج كليمنصو، اختلى برئيس الحكومة البريطانية، لويد جورج، في مقر السفارة الفرنسية بلندن بعد نهاية الحرب العالمية الأولى (1914 -1918)، فسأل الأول الثاني: «حسنًا عمَّ سنتناقش؟»، فردّ جورج: «عن بلاد ما بين النهرين وفلسطين»، وعلّق كليمنصو قائلًا: «أفصح عمّا تريد؟»، فأجاب جورج: «أريد الموصل»، وكانت من حصة فرنسا في مشروع التقاسم، فأجاب كليمنصو: «ستكون لك» ثم سأل الأخير مُخاطبه: «هل من طلب آخر؟»، فتابع جورج: «نعم، أريد أيضًا القدس». فرد كليمنصو: «ستكون لك».
يُلخِّص هذا الحوار طبيعة العقلية الاستعمارية التي حكمت الوطن العربي حتى منتصف القرن العشرين، ويلقى الضوء على واحدة من أشهر الاتفاقيات في تاريخ الوطن العربي، وهي التي ساهمت في تشكيل الجغرافيا السياسية للوطن العربي في شكلها الحالي، دون أن يكون للعرب رأي أو إرادة فيها، إنها اتفاقية سايكس-بيكو.
فقد جرى توقيع هذه الاتفاقية في 16 مايو (أيار) عام 1916، بين بريطانيا العظمى وفرنسا، بجانب روسيا، وإيطاليا في مرحلة لاحقة، وذلك أثناء اندلاع الحرب العالمية الأولى، وتنص على تقسيم الإمبراطورية العثمانية – بعد هزيمتها في الحرب – بين القوى الاستعمارية.
ورغم أن بعض الخبراء قلّلوا من الأهمية التاريخية لهذه الاتفاقية، على اعتبار أنها لم تكن مؤثرة على مجريات الأحداث اللاحقة في الوطن العربي، إلا أن «سايكس-بيكو» ظلّت في الأوساط الثقافية العربية رمزًا لعصر الاستعمار المُهين، وتعبيرًا عن عالم غربي فتّت يومًا الشعوب العربية واقتنص ثرواتها، وهنا نعود إلى أحد التقارير التي نشرتها المجلة الأمريكية «The Daily Beast» عام 2016، في الذكرى المئوية لهذه الاتفاقية. حيث ورد فيها:
فعلى الرغم من أن سوريا، والعراق، ولبنان كانت مصطلحات تاريخية وجغرافية (أي لا تشير إلى نفس الحدود الجغرافية) قبل الاتفاقية، لكن الدول التي جاءت لحمل هذه الأسماء في مرحلة ما بعد الاتفاقية، كانت ذات صلة محدودة بالواقع على الأرض، فكان تأسيس ما يُعرَف بـ»لبنان الكبير» خطأً فادحًا قوّض تماسك واستمرارية الكيان اللبناني الأصغر داخل إقليم الشام، وكان فرض عائلة ملكية سنية على دولة ذات أغلبية شيعية وأقلية كردية كبيرة، مثل العراق، بمثابة وصفة لعدم الاستقرار، كما كانت سياسة «فرِّق تَسُد» كما كانت زراعة الأقليات في سوريا عقبة رئيسة أمام ظهور كيان سوري مستقر.
توزيع الغنائم قبل انتهاء الحرب
يشير مصطلح «سايكس-بيكو» إلى الاتفاقية التي جرى التوصل إليها في 16 مايو 1916 بين الدبلوماسي البريطاني السير «مارك سايكس»، والدبلوماسي الفرنسي «فرانسوا جورج بيكو»، بشأن مستقبل الهلال الخصيب (بلاد الشام وبلاد ما بين النهرين) في نهاية الحرب العالمية الأولى، على افتراض أن الإمبراطورية العثمانية، شريك ألمانيا في الحرب، ستُهزم وسيجري تقسيمها، وكان من المقرر تقسيم امتداداتها الجغرافية في المنطقة العربية إلى مناطق سيطرة وتأثير بريطاني وفرنسي، مع وضع فلسطين تحت إدراة دولية.
فقد راعت «سايكس-بيكو» المصالح الإستراتيجية البريطانية بالتزامن مع أخذ ادعاء فرنسا التاريخي بمكانة خاصة في بلاد الشام بعين الاعتبار، لذا فقد تصورت الاتفاقية إلى أن بريطانيا سيكون لها بلاد ما بين النهرين، وجسر بري إلى البحر الأبيض المتوسط، وأن يكون لفرنسا لبنان وجزء كبير من سوريا.
وكانت «سايكس-بيكو» مجرد عنصر واحد من الدبلوماسية السرية في زمن الحرب فيما يتعلق بالشرق الأوسط، وقد جرى استكماله باتفاقيات مع قوتين أخريين في زمن الحرب مهتمتين بالمنطقة: روسيا وإيطاليا، بالإضافة إلى سلسلة من الإجراءات والالتزامات البريطانية اللاحقة، مثل وعد بلفور والمراسلات مع الأسرة الهاشمية، لذلك يستخدم البعض مصطلح «سايكس-بيكو» للإشارة إجمالًا إلى التسوية السلمية الشاملة في الشرق الأوسط والنظام السياسي الذي أنشأته.
وكانت بداية هذه التسوية مبكرة جدًا، وبالتحديد مع بدايات الحرب العالمية الأولى، ففي صيف 2014 أجرى الحلفاء – بريطانيا، وفرنسا، وروسيا – العديد من المناقشات بشأن مستقبل الإمبراطورية العثمانية، التي كانت تُقاتل في ذلك الوقت إلى جانب ألمانيا والإمبراطورية النمساوية المجرية، فيما عُرف بـ«دول المركز».
وكانت المناقشات تحاول تحديد مصير الأراضي العثمانية – في الشرق الأوسط، والجزيرة العربية، وجنوب وسط أوروبا – إذا ما أدت الحرب إلى تفكك «رجل أوروبا المريض»، ويبدو أن روسيا كانت أول منْ أثار موضوع تقاسم تركة الإمبراطورية العثمانية، وذلك امتدادًا لأجندة السياسة الخارجية الروسية منذ القيصر نيقولا الأول عام 1844، الذي لقّب تركيا بـ«الرجل المريض».
وفي مارس (آذار) 1915 توصلت دول الوفاق الثلاثي (بريطانيا، وفرنسا، وروسيا) إلى اتفاق مبدئي يقضي بمنح القسطنطينية (إسطنبول) والمناطق المحيطة بها إلى روسيا، وهو الأمر الذي من شأنه توفير منفذ لها إلى البحر المتوسط.
ولكن هذا الاتفاق المبدئي لم يحل إشكالية تداخل مناطق النفوذ، والاهتمام لدى القوى الثلاث؛ ففرنسا كان لديها عدد من الاستثمارات الاقتصادية والعلاقات الإستراتيجية في سوريا (خاصةً في حلب)، وكانت ترى أن المخطط الروسي إزاء إسطنبول يعني منافستها في البحر المتوسط، الذي كانت تعتبره فرنسا محور سياساتها، وعلى شواطئه تقع مناطق خاضعة لهيمنتها، بينما كانت بريطانيا تتطلع إلى تأمين خطوط اتصالها بمستعمراتها في الهند عبر قناة السويس والخليج العربي، وتطلبت كل هذه الإشكاليات مزيدًا من المفاوضات، واتفاق واضح بين الأطراف الثلاثة.
وفي ضوء ذلك قرّرت بريطانيا تشكيل لجنة مستقلة، لجمع وتدقيق الوثائق والخرائط المتعلقة بالأقطار التابعة للإمبراطورية العثمانية في آسيا، وذلك لتقديم تصورات وخطط واضحة لمستقبل ما بعد الانتصار، ونصيب بريطانيا من تركة الدولة العثمانية في آسيا، عُرفت هذه اللجنة باسم «لجنة تركيا الآسيوية»، أو «لجنة دي بونسن» نسبةً إلى رئيسها (الدبلوماسي البريطاني).
وفي أبريل (نيسان) 1915 بدأت اللجنة في اجتماعاتها، وبناءً على توصياتها جرى إرسال الدبلوماسي البريطاني «مارك سايكس» إلى الشرق الأوسط في جولة تقصي حقائق استغرقت ستة أشهر، وخلال هذه الفترة بدأت بريطانيا في مشاورات جديدة مع فرنسا، وذلك بناءً على مستجدات جبهات القتال المختلفة ضد «دول المركز»، وتقرّر أن يكون هناك عضو فرنسي دائم في «لجنة دي بونسن»، وهو الدبلوماسي الفرنسي، فرنسوا جورج بيكو، الذي كان يتقن الإنجليزية، وصاحب الخبرة الطويلة في العمل الدبلوماسي.
ونتيجة تفاقم الخلافات داخل اللجنة بين بيكو والجانب البريطاني، تسلّم سايكس – بمجرد عودته من بعثته المشرقية في ديسمبر (كانون الأول) 1915 – مهمة التنسيق مع الجانب الفرنسي، وهو التنسيق الذي تحوّل إلى صداقة وعلاقات ودية بين الطرفين: سايكس وبيكو.
خط أفقي يُقسِّم الوطن العربي
تمكّن الرجلان من صياغة مبادئ الاتفاقية في يناير (كانون الثاني) 1916، بما يشمل ذلك الخرائط المقترحة، ثم وافقت الحكومة البريطانية عليها في الرابع من فبراير (شباط) 1916، ثم جاءت الموافقة الفرنسية في 17 مارس.
وبعدها سافر سايكس وبيكو إلى روسيا لإقناعها ببنود الاتفاقية، وبعد الكثير من المفاوضات والمناقشات، وقّع الجانب الروسي على الاتفاقية في 26 أبريل (نيسان)، بعد تنفيذ بعض التعديلات، وفي 16 مايو 1916، وقّع عليها كل من وزير الخارجية البريطاني إدوارد جراي، والسفير الفرنسي في لندن بول كامبون، وقد نصّت الاتفاقية على ما يلي:
تستحوذ روسيا على المقاطعات الأرمنية: أرضروم وطرابزون وفان وبيتليس، بجانب بعض الأراضي الكردية في الجنوب الشرقي.
تستحوذ فرنسا على لبنان والساحل السوري وأضنة وكيليكيا، بجانب المناطق النائية المتاخمة لحصة روسيا: عنتاب وأورفة وماردين وديار بكر والموصل.
تستحوذ بريطانيا على جنوب بلاد ما بين النهرين، بما في ذلك بغداد، وكذلك موانئ حيفا وعكا على البحر المتوسط.
يجري تأسيس اتحاد كونفدرالي للدول العربية أو دولة عربية واحدة مستقلة، مقسمة إلى مناطق نفوذ فرنسية وبريطانية.
تظل الإسكندرونة ميناءً حرًا.
تخضع فلسطين بسبب الأماكن المقدسة للإدارة الدولية.
واختصارًا فقد رسمت الاتفاقية على خريطة الوطن العربي خطًا أفقيًا ممتدًا من عكا على البحر المتوسط إلى كركوك، بامتداد يصل إلى 250 كيلومترًا، ليُقسِّم الوطن العربي مناصفةً بين بريطانيا وفرنسا، الشمال (A) يقع تحت النفوذ الفرنسي، والجنوب (B) يخضع للنفوذ البريطاني، بينما تظل فلسطين تحت إدارة دولية.
أمّا إيطاليًا، التي كانت قد تخلّت عن تحالفها مع الألمان والنمساويين، وانضمت لدول الحلفاء بعد أن بدا أنهم أقرب إلى النصر، فقد طلبت تحديد مناطق نفوذها، فجرى توقيع اتفاقية جديدة، بينها وبين بريطانيا وفرنسا، سُميت بـ»سانت جان دي موريان» في 26 أبريل 1917، وفيها جرى منح إيطاليا منطقة أضنة في الأناضول التركية.
ثم اكتملت الترتيبات الاستعمارية للمنطقة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، عندما صدر وعد بلفور وزير الخارجية البريطاني حينئذ، بتأسيس وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، وأخيرًا وفي أعقاب اندلاع الثورة البلشفية وإسقاط روسيا القيصرية في نوفمبر (تشرين الثاني) 1917، كشف البلاشفة عن النصوص الكاملة للاتفاقية للعالم، في صحف ازفستيا وبرافدا في 23 نوفمبر 1917.
إرث سايكس-بيكو.. نحو بلاد قابلة للتفكك
عند دخول الحرب، كانت فرنسا وبريطانيا مقتنعتين بأن الأجزاء العربية من الإمبراطورية العثمانية لم تكن مستعدة للحكم الذاتي، ولن تصبح كذلك على المدى البعيد حتى، وكان رجال الدولة في كلا البلدين متفقين تمامًا على هذه النقطة، وبالتالي لم تكن القضية التي أرادوا تسويتها هي ما إذا كانت هذه المناطق ستكون تحت إشراف خارجي؛ لأن ذلك كان نتيجة مفروغ منها، ولكن أي المناطق ستشرف عليها فرنسا وأيها ستشرف عليها بريطانيا؟
فقدّمت اتفاقية سايكس-بيكو الجواب، بل منحت كلًا منهما الحق في أن تفعل ما تشاء: وضع هذه المناطق تحت الإدارة المباشرة من طرف المسئولين الاستعماريين، أو السيطرة غير المباشرة من خلال حكام محليين من اختيارهم.
وأثناء التفاوض على الاتفاقية، لم تتجاهل بريطانيا وفرنسا فقط مسألة حقوق العرب في التصرف في أراضيهم، ولكنها أيضًا تجاهلت رد فعلهم المحتمل، اقتناعًا منهم بأن العرب ليسوا مستعدين لحكم أنفسهم، وهو ما ثبت خطأه فيما بعد، خاصةً مع ظهور تيارات المقاومة في مختلف الدول العربية منذ ذلك التاريخ.
وخلقت اتفاقية سايكس-بيكو حدود جديدة ومصطنعة بتوزيع سكاني متنوع وغير منسجم، وما زاد الطين بلّة، أن فرنسا وبريطانيا لم يكن لديهما خبرة في علميات بناء الدولة في الخارج؛ لأن سياساتهما الاستعمارية قامت لعقود على فكرة السيطرة والتهدئة والإدارة منخفضة التكلفة، وليس حول بناء الدولة، ورغم ذلك افترض واضعو الاتفاقية أن بلديهما قادران على بناء دول عربية في مناطق نفوذهما الجديدة، وهو افترض ثبت خطأه بكل تأكيد.
فقد واجه البريطانيون تحديات خطيرة مع انتدابهم في بلاد ما بين النهرين وفلسطين، وبلاد ما بين النهرين (كانت تشمل الأراضي التي تقع بين نهري دجلة والفرات في العراق، وتركيا، وسوريا) وإن كان أكثرها يقع حاليًا ضمن حدود العراق.
ففي بلاد ما بين النهرين نصّبت بريطانيا فيصل، أحد أبناء الشريف حسين، ملكًا، على أمل أن يثبت ولاءه في المقابل، وتهنئ الإمبراطورية بالهدوء، ولكن البريطانيين واجههوا هناك مقاومة من التيارات القومية التي سعت للاستقلال، إلى جانب الأكراد الذين سعوا إلى تأسيس دولة خاصة بهم منذ سقوط الإمبراطورية العثمانية، وقد كان لدى البريطانيين القوة الكافية لقمع المعارضة والاحتفاظ بالسيطرة، لكن لم يكن لديهم الوقت أو القدرة على بناء نظام سياسي فاعل ومؤسسات وهوية مشتركة.
وفي عام 1932 عندما انتهى الانتداب البريطاني، اتضح خواء الدولة الجديدة (العراق)، وكان النظام الملكي، الذي أمل البريطانيون أن يكون أداتهم لحكم البلاد، ضعيفًا، ولم يكن يتمتع بالشعبية، خاصةً بعد وفاة الملك فيصل في عام 1933 وخلفه ابنه الصغير غازي الأول.
وكانت أقوى مؤسسة تركها البريطانيون هي الجيش، والذي نجح، عام 1936، في الاستيلاء على السلطة، بقيادة بكر صدقي، وبحلول عام 1941، كانت البلاد قد شهدت خمسة انقلابات عسكرية، وفي عام 1958، استولى عبد الكريم قاسم على السلطة، وألغى النظام الملكي، ودخلت العراق موجات متتالية من عدم الاستقرار وصولًا إلى عهد صدام حسين وحروب العديدة.
وعلى جانب آخر، كان وضع بريطانيا في فلسطين أكثر إشكالية، فهي في هذه الحالة لم تكن تسعى إلى بناء دولة عربية تابعة لها، ولكنها كانت تسعى لتقويض الأمة الفسطينية من أجل تكوين أخرى يهودية، بما استتبعه ذلك من تسهيل كافة مهام المشروع الصهيوني، والسماح بتدفق الهجرات اليهودية إلى البلاد، وهو ما أدى إلى صدام مستمر مع الفلسطينيين، ولكن المثير للسخرية أن الدعم البريطاني للمشروع الصهيوني لم يكن كافيًا من وجهة نظر اليهود؛ مما أدى إلى صدامات بريطانية-يهودية عديدة أيضًا، وبتعبير الباحثة الأمريكية، مارينا أوتاواي:
وكان شرق الأردن، رسميًا جزءًا من الانتداب على فلسطين، لكن يُدار بشكل منفصل، إذ كان أصغر وأقل تعقيدًا في أمور الحكم، وبالتالي استقر سريعًا تحت إمرة ابن آخر للشريف حسين، وهو عبد الله، واعترف البريطانيون باستقلال الإقليم فعليًا في عام 1921، على الرغم من عدم إنهاء الانتداب الرسمي حتى عام 1946.
وعلى جانب آخر، كانت نتيجة الانتداب الفرنسي في سوريا، الذي بدأ رسميًا في عام 1923، ظهور دولتين مضطربتين بشدة، وهما سوريا ولبنان، فعلى عكس الترتيبات التي نصّت عليها اتفاقية سايكس-بيكو، كانت بريطانيا أول من أدار سوريا بعد الاستيلاء عليها من العثمانيين في عام 1918، ونصّب البريطانيون فيصل بن الشريف حسين ملكًا لسوريا (والذي سيصبح لاحقًا ملكًا للعراق)، تقديرًا لمساهمته في الثورة العربية الكبرى عام 1916 ضد الإمبراطورية العثمانية (والتي كانت أحد عوامل إضعافها).
ومنذ البداية كانت سوريا في حالة ثورة، فأراد فيصل دولة سورية مستقلة حقًا تضم فلسطين وشرق الأردن، وكذلك فعل القوميون السوريون الذين كانوا ممثلين جيدًا في البرلمان المنتخب في عام 1919، لكن المفاوضات في مؤتمر باريس للسلام أدت إلى اتفاق تسيطر بموجبه فرنسا على سوريا، وفي عام 1920 تولت فرنسا إدارة المنطقة، وأجبرت فيصل على التنازل عن العرش، ووضع حد للمملكة السورية بعد أربعة أشهر فقط من إقامتها.
كما حاول الفرنسيون السيطرة على الدولة الجامحة من خلال تقسيمها إلى ست دويلات منفصلة: دمشق، وحلب، ودولة العلويين، وجبل الدروز، وسنجق الإسكندرونة (التي أصبحت جزءً من تركيا عام 1939)، ولبنان الكبير، قبل أن تتحول الأخيرة إلى «الجمهورية اللبنانية» عام 1926، ثم صارت دولة مستقلة تمامًا عندما انتهى الانتداب الفرنسي في عام 1943.
ولم يؤد تقسيم سوريا إلى دويلات إلى استقرار سوريا، إذ عارض السكان السنّة بشكل عام اللامركزية، بينما أرادت المناطق الأخرى استقلالًا ذاتيًا أكثر مما كان الفرنسيون على استعداد لمنحهم، فنجحت فرنسا في الجمع بين حلب ودمشق ودولة العلويين في فيدرالية سورية حتى عام 1924، وفي ذلك الوقت انفجرت البلاد في انتفاضة مناهضة للفرنسيين شاركت فيها مجموعات سكانية متباينة، واستغرق الفرنسيون عامين من العمل الوحشي لتهدئة الأوضاع في البلاد، لكنهم لم يتمكنوا من توحيدها.
وعندما أنشأ الفرنسيون الجمهورية السورية في عام 1930، في محاولة أخرى لمعالجة الانقسام، أعلن العلويون حكومة اللاذقية المستقلة، التي انضمت إلى الجمهورية السورية لاحقًا عام 1936، وهو نفس العام الذي شهد أيضًا انضمام دولة جبل الدروز إلى سوريا.
وبشكل عام لم ينجح الفرنسيين في إدارة سوريا، وخلال الحرب العالمية الثانية، فقدت فرنسا «الفيشية» (نسبة إلى حكومة فيشي التابعة للنازيين) السيطرة على سوريا لصالح احتلال بريطاني جديد، بدعم من حكومة فرنسا الحرة (التابعة للجنرال شارل ديجول)؛ مما أدى إلى حدوث ثورة أخرى، ثم استقلت سوريا رسميًا في عام 1943، على الرغم من بقاء القوات الفرنسية هناك لمدة ثلاثة أعوام أخرى.
وليس من المستغرب، بالنظر إلى هذا التاريخ، أن سوريا ظلّت غير مستقرة للغاية بعد انتهاء الانتداب، وبين عامي 1946 و1956، تعرض البلاد لعدة انقلابات وشهدت 20 حكومة، وأربعة دساتير مختلفة، واستمرت دورة الانقلابات العسكرية حتى عام 1970، عندما صعد حافظ الأسد إلى السلطة، ليستقر في الحكم ومن بعده ابنه (بشار)، حتى جاءت الثورة السورية عام 2011، لينفجر إرث سايكس-بيكو من جديد، ممزوجًا بمرارة الحكم الدموي لعائلة الأسد.
محمد محمود السيد – ساسة بوست