قادت إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الغرب لفرض عزلة شاملة على روسيا بعد بداية الهجوم على أوكرانيا، فهل نجحت واشنطن في “تجييش” العالم ضد موسكو بالفعل؟
ومع اقتراب الهجوم الروسي على أوكرانيا من نهايته، تكثف موسكو من تجهيزاتها العسكرية في الشرق بهدف الانقضاض على ما تبقى من قوات أوكرانية في إقليم دونباس ومدينة ماريوبول الساحلية الجنوبية، بينما تتحدث كييف عن المعركة الأخيرة ويطالب الرئيس فولوديمير زيلينسكي الغرب بتزويده بالأسلحة اللازمة لهزيمة روسيا.
وبدأ فرض العقوبات الغربية على روسيا منذ أعلن الرئيس فلاديمير بوتين، الأحد 21 فبراير/شباط 2022، الاعتراف باستقلال لوغانسك ودونيتسك في إقليم دونباس الأوكراني، وتصاعدت وتيرة تلك العقوبات وحدّتها وشمولها مع بدء الهجوم على أوكرانيا، الخميس 24 فبراير/شباط. روسيا تصف هجومها على أوكرانيا بأنه عملية عسكرية خاصة بينما يصفه الغرب بأنه غزو غير مبرر.
التحالف المناهض لروسيا
نشرت صحيفة The Wall Street Journal الأمريكية تقريراً عنوانه “التحالف المناهض لروسيا يفتقر إلى دعم أبرز الدولة النامية في العالم”، رصد كيف سعى زعماء الدول الغربية إلى بناء تحالفٍ عالمي لعزل روسيا عقاباً لها على الحرب التي شنتها على أوكرانيا.
لكن هذه المساعي تُلاقي تمنُّعاً ومقاومة من أكبر الدول النامية في العالم، حتى الدول الديمقراطية منها مثل الهند والبرازيل وجنوب إفريقيا. وترجع معظم هذه المقاومة إلى مصالح اقتصادية بارزة لهذه الدول مع روسيا، وترى الدول الغربية أن انصراف الدول النامية عن دعم العقوبات يحدُّ من تأثير الضغوط المفروضة على بوتين. كما تبرز هذه المقاومة في الوقت نفسه انقسام المجتمع العالمي إلى تحالفات وطوائف على نحو يُذكِّر بالحرب الباردة، عندما حاولت دول كثيرة النأي بنفسها عن التنافس بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
وعلى الرغم من الحشد الأمريكي، وحتى بعد الكشف عن المذابح المزعومة بحق المدنيين والتي تقول كييف وواشنطن إن القوات الروسية ارتكبتها في بوتشا الأوكرانية، بينما تنفي موسكو تلك الاتهامات، صوَّتت 24 دولة من 141 دولة بالأمم المتحدة الأسبوع الماضي بمعارضة تعليق عضوية روسيا في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، وامتنعت 58 دولة عن التصويت، أبرزها الهند والبرازيل والمكسيك وإندونيسيا وجنوب إفريقيا.
وفي حين اتهم قادة الولايات المتحدة وأوروبا الرئيسَ الروسي اتهاماً مباشراً بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، رفض كثير من زعماء الدول النامية، مثل رئيس المكسيك أندريس مانويل لوبيس أوبرادور ورئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، استنكار أفعال الزعيم الروسي. ومن ثمَّ باتت الحصة الأكبر من العقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا تنوء بها دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) وحلفاء مقربون آخرون للولايات المتحدة، مثل أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية.
جون فيلي، السفير والدبلوماسي الأمريكي السابق، قال لوول ستريت جورنال إن “من أبرز آثار ذلك [موقف الدول النامية] أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن ستعود لتتذكر أن حلفاء الولايات المتحدة الموثوقين، ورفقاء دربها الحقيقيين، هم أصدقاؤها في أوروبا وشمال آسيا، وربما يضر ذلك بالتحالف الأمريكي مع إفريقيا، وخاصة مع أمريكا اللاتينية والهند”.
قبل يوم من وصول بايدن إلى أوروبا الشهر الماضي لتعزيز الدعم الدولي لأوكرانيا، وقف سفراء ما يُعرف بدول اقتصاد “البريكس” التي تضم روسيا والصين والبرازيل والهند، والتقطوا الصور مع سيرغي لافروف، وزير الخارجية الروسي، ثم اجتمعوا في محادثات لتعزيز التعاون المتبادل.
قال سوبرامانيام جايشانكار، وزير الخارجية الهندي، في اليوم الذي امتنعت فيه بلاده عن التصويت في الأمم المتحدة ضد روسيا: “موقفنا أن هذه الأزمة ليست أزمتنا، وموقفنا أننا مع السلام. وقرارات السياسة الخارجية الهندية مرجعها المصلحة الوطنية الهندية، نهتدي فيها بأفكارنا ورؤانا ومصالحنا”. الهند حليف قديم لروسيا، وهي لا تريد المخاطرة بإبعاد روسيا عنها وتقريبها من بكين، منافس الهند الإقليمي.
النظام العالمي منقسم بالفعل
نصَّب قادة الصين أنفسهم متحدثين باسم الدول النامية فيما يتعلق بالهجوم الروسي على أوكرانيا، وقال وانغ يي، وزير خارجية الصين، بعد اجتماع مع وزراء خارجية دول إفريقية وآسيوية، إن الدول النامية ينتابها القلق من حشد الضغوط عليها لاتخاذ مواقف أخلاقية قاطعة بشأن قضايا دولية معقدة.
شهد العقدان الماضيان تحولاً في نظرة العالم النامي إلى كل من الولايات المتحدة وروسيا والصين، فقد أنفقت روسيا مليارات الدولارات على تعزيز علاقاتها التجارية والدبلوماسية والعسكرية بتلك الدول، فباعت الأسلحة إلى فنزويلا والهند، وزادت صادرات القمح إلى معظم أنحاء إفريقيا، أما بكين، فبسطت قوتها الاقتصادية ببناء السدود والطرق والجسور وخطوط الأنابيب وسكك الحديد في عشرات البلدان في جميع أنحاء العالم من خلال مبادرة ما يعرف بمشروع “الحزام والطريق”.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن غزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، وصور السجناء العراقيين الذين عذَّبهم الجنود الأمريكيون في سجن أبو غريب، كلها أفعال رسَّخت قناعة في بعض البلدان بأن الولايات المتحدة مذنبة بالجرائم نفسها التي تتهم بها خصومها وتزعم معارضتها، ويشمل ذلك انتهاك سيادة الدول والاعتداء على حقوق الناس فيها. وهو ما يصفه البروفيسور أود آني ويستاد، أستاذ التاريخ في جامعة ييل الأمريكية، بأنه “تركة ما فعلته الولايات المتحدة في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وما ارتكبته في حربها على الإرهاب”.
لا تزال الدول الناشئة تكافح للتعافي من آثار جائحة كورونا، ومن ثم أعرب مسؤولوها عن مخاوف جمة من التداعيات الشديدة للعقوبات الغربية على اقتصادها، وأشاروا إلى أن هذه العقوبات لن تفعل إلا أن تزيد الأمور سوءاً. ففي السودان، الذي يستورد نحو 80% من قمحه من روسيا وأوكرانيا، تضاعف سعر الخبز تقريباً بسبب صعوبات الاستيراد. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فالاعتماد على المحاصيل الروسية والأوكرانية ممتد من تركيا إلى شمال إفريقيا، وكذلك الاعتماد على الأسمدة الروسية.
أدانت مصر، الحليف العسكري للولايات المتحدة، الهجوم الروسي على أوكرانيا في الأمم المتحدة، إلا أنها انتقدت العقوبات الغربية على روسيا في الوقت نفسه. وقال خبراء إن ما اتسم به رد الفعل المصري من اختلاط يدل على مخاوف نظامها من تخلي واشنطن عن علاقاتها الأمنية الوثيقة في الشرق الأوسط، كما يُبرز تحسُّب مصر من أن تصبح مضطرة إلى اعتماد أكبر على موسكو في تسليحها.
ويُعزى رفض إدانة روسيا في دول أخرى إلى رغبة هذه الدول في إرضاء الصين، فزيادة الطلب الصيني على سلع عديدة، مثل خام الحديد البرازيلي وفول الصويا الأرجنتيني، عزَّز مكانة الصين وجعلها شريكاً تجارياً رئيسياً بعد الولايات المتحدة في معظم دول أمريكا الجنوبية. وارتفعت القيمة الإجمالية لتجارة بكين مع إفريقيا بنسبة 35% العام الماضي، لتبلغ مستوى غير مسبوق بنحو 254 مليار دولار أمريكي، وهو رقم أعلى بكثير من قيمة الميزان التجاري للولايات المتحدة مع القارة.
في غضون ذلك، تحتاج نيودلهي إلى دعم موسكو في الدفاع عن حدودها التي تبلغ نحو 3540 كيلومتراً مع الصين، وتشير تقديرات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام إلى أن روسيا تزود الهند بنصف وارداتها من الأسلحة تقريباً، علاوة على غالبية القطع اللازمة لإصلاح معداتها العسكرية.
إمساك العصا من المنتصف
ترى كثير من الدول النامية أن الحرب في أوكرانيا إنما هي مشكلة أوروبية، وبعضها لا يريد استخدامه بالوكالة في معركة بين القوى العظمى. ويتشابه هذا الاتجاه مع اتجاه حركة “عدم الانحياز” التي أنشأتها 120 دولة خلال الحرب الباردة لتجنب التورط في الصراع الدائر آنذاك بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي.
يقول روبنز ريكوبيرو، سفير البرازيل السابق لدى الولايات المتحدة وإيطاليا: “هناك مخاوف من أن يصبح هذا الوضع دائماً، تستمر فيه الانقسامات بين الغرب والولايات المتحدة وحلفائها من جهة، وروسيا والصين من الجهة الأخرى”.
صوَّتت معظم حكومات أمريكا اللاتينية لمصلحة قرار الأمم المتحدة بإدانة الهجوم الروسي لكنها رفضت الانضمام إلى العقوبات على روسيا.
ويذهب بريان وينتر، رئيس تحرير مجلة Americas Quarterly، إلى أن “نهج عدم الانحياز تمتد جذوره بعمق في رؤى هذه الدول، لأنها ترى أنه لا فائدة من الانحياز لأي طرف، لا سيما إذا توسعت معركة النفوذ العالمي بين الولايات المتحدة والصين”.
“إذا كان العالم مقبلاً على حقبة جديدة من صراع القوى العظمى، فإن معظم حكومات أمريكا اللاتينية ستميل إلى التمسك بموقف عدم الانحياز، فهذه الدول تتذكر ما جلبته الحرب الباردة من عواقب وخيمة عليها، وكيف كانت المنطقة بأكملها تستخدم كلوحة شطرنج” في صراعات القوى العظمى.
وعلى النحو نفسه، اختارت ما يقرب من نصف حكومات إفريقيا إبطال صوتها أو معارضة التصويت بإدانة روسيا في الأمم المتحدة الشهر الماضي. ولا عجب في ذلك، فكثير من بلدان القارة تحكمها أحزاب ناصرتها موسكو خلال نضالها من أجل الاستقلال عن الحكم الاستعماري أو حكم الأقلية البيضاء، ولا ينسى قادة الأحزاب في جنوب إفريقيا وزيمبابوي وأنغولا وموزمبيق كيف ساعدهم الاتحاد السوفييتي بالأسلحة والأموال والمستشارين في معركتهم من أجل الحرية من ستينيات القرن الماضي إلى الثمانينيات.
بالإضافة إلى ذلك، أرسلت روسيا دبلوماسيين بارزين لحشد الضغوط على مسؤولي الدفاع والخارجية بدول أوغندا وجنوب السودان وإثيوبيا والحصول على تأييد بلادهم، وتعهدت الوفود بزيادة الاستثمار في هذه البلدان ومساعدات البنية التحتية مقابل التصويت لمصلحة روسيا، أو على الأقل عدم التصويت بإدانتها في الأمم المتحدة.
عربي بوست