تعاني الولايات المتحدة منذ حضورها العسكري إلى العراق، محتلة أرضه وناهبة ثرواته، من أزمة تشخيص ضرورة البقاء. وثمّة حوار وجدال مستمر في المجتمع السياسي الأميركي حول الأرباح والتكاليف والمخاطر. وأخيراً، عبّر أحد كبار الخبراء في واشنطن عن استمرار هذا النقاش الآن، وهو جون ألترمان، مدير برنامج الشرق الأوسط في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن: «أنظروا إلى مكان كالعراق، حيث استثمرت أميركا أكثر من تريليون دولار ولديها العديد من القوات، القدرة الأميركية على هيكلة السياسات العراقية بأي طريقة بناءة تريدها أميركا محدودة للغاية، وذلك حيثما قامت أميركا باستثمار كبير». جاء كلامه الشهر الماضي خلال ندوة في «معهد الشرق الأوسط»، محاولاً ثني بعض من يدعو الولايات المتحدة إلى زيادة منسوب تدخّلها في لبنان.
في آذار من عام 2019، تولّى الجنرال ذو الميول النظرية في المجال الاستراتيجي كينيث ماكينزي، قيادة منطقة الشرق الأوسط، في لحظة انكسار المشروع الأميركي عبر «داعش» والمعارضة السورية للسيطرة على سوريا والعراق. لحظة محاولة استعادة التوازن احتاجت خبيراً في توازن القوى وإدارة فترات ما بين الحروب عبر مفاهيم الردع. جاء ماكينزي وقدّم مقاربته تحت عنوان «الردع المتنازع عليه» ليصف حالة الصراع مع إيران، ويحدّد مقاربته في مواجهتها. سنناقش هنا هذا المفهوم وأسسه وتطبيقاته الواقعية، بما يلقي الضوء على واقع ومستقبل الحضور الأميركي المحتل.
المفهوم المبكر
في ورقة بحثية أعدّها عام 2000 خلال عمله في «مركز دراسات الاستراتيجيات الوطنية»، التابع لكلية الدفاع الوطني، يتطرّق ماكينزي إلى مسألة الردع، والورقة تتناول مسألة التهديدات اللامتماثلة، ومن المفيد أن نعود إلى النظرة المبكرة لديه حول هذا المفهوم، حيث يحدّد الردع الذي تمارسه القوى اللامتماثلة بالقول إن «تدابير الردع هي تلك الإجراءات والأنظمة المصمّمة لمنع الولايات المتحدة أو حلفائنا من نشر قوات أو أشكال أخرى من المساعدة السياسية والعسكرية في منطقة في أزمة. يمكن تحقيق ذلك من خلال إظهار القوة أو الدبلوماسية التي تجعل تكلفة الإجراء المقترح تبدو مرتفعة للغاية، عند النظر إليها مقابل مستوى المصلحة الوطنية الأميركية على المحك». فيعتبر أن الولايات المتحدة تكون مرتدعة في حال تم منع تدخّلها في منطقة تشهد «أزمة» من خلال رفع تكلفة الحضور الأميركي بالمقارنة مع المصلحة الوطنية الأميركية. عند انتقاله إلى قيادة المنطقة المركزية سيحاول ماكينزي بشكل متكرّر إثبات أن المصلحة الوطنية الأميركية أكبر من تكلفة الحضور المباشر.
يشير ماكينزي، في ورقته البحثية تلك، إلى أدوات غير مكلفة قد تحقّق الردع، قائلاً: «إن عرض المعدّات العسكرية والاستخدام الدقيق للخطاب حول التوظيف المحتمل سيكون تدابير رادعة. ستكون خلفية ذلك، بالطبع، حسابات الخصم حول مستوى المصلحة الوطنية الأميركية المعرّضة للخطر، متوازنة مع الإجراء المتوخّى». هنا يحتل الخطاب مكانة أساسية في الردع. لكن ماكينزي سيواجه إشكاليّة في تجربته اللاحقة عند العمل في الشرق الأوسط، حيث لن يكون للخطاب التأثير الكبير، لكنه سيستخدم الخطاب لتبرير هذا الإشكال أمام صانعي القرار في واشنطن، ويقدّم لهم حالة ملتبسة على أنها إنجاز من خلال انتاج مفهوم جديد هو «الردع المتنازع عليه».
معالجة فشل الردع هي الإشكالية الأخرى التي يتعرّض لها ويفترض ضرورة القيام بعمليات مكلفة للقوات اللامتماثلة التي اخترقت الردع، «لمواجهة التهديدات غير المتكافئة بشكل فعّال، يجب أن تقلّل سياساتنا من نقاط ضعفنا أمام الهجوم غير المتكافئ عن طريق ردع المهاجمين المحتملين ومن خلال امتلاك القدرة على الدفاع بنجاح ضد الهجمات غير المتكافئة ضد كل من القوات المنتشرة والوطن، إذا فشل الردع. إذا ثبت نجاح هجوم غير متماثل، فإننا بحاجة إلى إظهار الكفاءة في إدارة النتائج في الداخل والمرونة التشغيلية للانتصار في مواجهة الهجوم غير المتماثل للقوات المنتشرة. سيؤدي امتلاك هذه القدرات إلى جعل الهجمات غير المتكافئة أقل جاذبية للخصوم المحتملين». والآن في التجربة العملية لم يستطع الكاتب تطبيق نظريته وتحويلها إلى واقع ملموس، حيث لم يمتلك المقاربة المناسبة للرد على استهداف قاعدة عين الأسد بالصواريخ، ونشأت معادلة قابلة للاختبار مستقبلاً، تقوم على مشروعية استهداف إيران للقواعد الأميركية في المنطقة بالصواريخ البالستية في حال تعرّض مواقع أو قيادات إيرانية لاعتداء أميركي.
أمّا التهديدات غير المتكافئة (اللامتماثلة) التي هي هدف الورقة البحثية، والتي تتميّز بقدرتها على إحداث تأثير غير متناسب مع حجمها ومواردها، فهي تمثّل تحدّياً مميّزاً، فـ«في التعامل مع التهديدات غير المتكافئة، سيكون من الضروري منع التأثير غير المتناسب. هذا هو جوهر الميزة غير المتكافئة، ويجب مواجهتها على جميع مستويات الحرب، على الرغم من أن منع الانتقال التصاعدي للتأثير التكتيكي والتشغيلي إلى المستوى الاستراتيجي هو العنصر الأكثر أهمّية في هذا النهج». فإذا ظلّت تأثيراتها في المستوى التكتيكي تبقى محتملة، والأهم هو منع انتقالها للمستوى الاستراتيجي. وهذا بالتحديد هو الاحتجاج الذي سيلجأ إليه ماكينزي بشكل موارب خلال عمله في القيادة الوسطى، حيث سيقبل مضطراً بالاستهداف المتواصل لفصائل المقاومة العراقية لقواته، مقدّماً ذلك الاستنزاف في صورة التحرّك التكتيكي غير المؤثّر. لكن السؤال: هل سيكون لتراكم العمليّات التكتيكية أثر استراتيجي؟ حيث أن عمليات الاستنزاف البعيدة المدى عادةً ما أثبتت نجاعتها في إكراه المحتلّين على الانسحاب.
مشكلة التحدّي اللامتماثل
المراجعة الدفاعية الرباعية هي تقييم تجريه وزارة الدفاع الأميركية كل أربع سنوات حول القضايا العسكرية. ونشرت كلية الدفاع الوطني عام 2001 كتاباً حولها قدّمت فيه أوراق بحثية من قبل مجموعة من الخبراء في المجال الدفاعي. ومن بين الأوراق قدّم ماكينزي طرحه بعنوان «التهديدات اللامتماثلة: أولويات التخطيط الدفاعي»، ينقل فيه مقطعاً حرفياً كان قد نشره في السنة الماضية في الورقة التي أشرنا إليها أعلاه، وهو المقطع الذي يتحدّث عن مواجهة التهديدات عبر زيادة تكلفة العمليات على الطرف الآخر.
يشير في ورقته المتضمّنة في الكتاب إلى المعضلة التي سيواجهها لاحقاً في الميدان، وهي التبرير السياسي والإعلامي للعملية العسكرية والنشاط الميداني: «إن الهدف النهائي لأي نهج غير متماثل هو البحث عن تأثير استراتيجي ضد إرادة الخصم. يمكن تحقيق ذلك من خلال الردع أو الإكراه، أو – بمجرّد الانضمام إلى المعركة – من خلال مناهج مثل تكتيكات المحاربين واختيار ساحة المعركة. في حين إن كل إجراء موصى به لهذه النقطة سيميل إلى المساهمة في الحد من هذا التأثير، فإن أهم خطوة يمكن اتخاذها في هذا الصدد هي أن تشرح القيادة للشعب الأميركي الغرض من العملية».
بالعوة إلى الواقع العملي، نجح ماكينزي حتى الآن في تبرير الحضور العسكري في منطقة صلاحياته، لكنه يخوض صراعاً واضحاً مع القيادة العليا العسكرية والسياسية لتعزيز القيادة الوسطى بالمزيد من القدرات، كما سنلاحظ في ما سيأتي من الطروحات التي قدّمها، عاجزاً عن تقديم المبررات الكافية للحفاظ على موقع القيادة الوسطى لناحية حظها من الموارد بين القيادات القتالية الأخرى للجيش الأميركي، وبالتأكيد لو كان بإمكان ماكينزي العثور على مقاربة مجدية لاستطاع الحصول على الموارد المطلوبة لها.
التحسّب والاستباق
شهدت سيرة ماكينزي المهنية انتقالاً من الأكاديمية إلى الميدان بعد أحداث الحادي عشر من أيلول وبدء الاحتلال الأميركي لأفغانستان والعراق، ولذلك لم أعثر على كلام له حول قضايا الردع من عام 2001 وحتى نهاية عام 2018، حين تحدّث في جلسة التصديق على تعيينه في الكونغرس، مقدّماً حججاً استباقية قد تخفّف عنه مسؤولية عدم النجاح المتوقّع في الشرق الأوسط، إذ أشار إلى تراجع أولوية المنطقة بالمقارنة مع الأولويات الدفاعية الأخرى: «ستعمل استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018 على تقليص وضع القوات الأميركية في المنطقة الوسطى وإعادة تنظيم الموارد للأهداف ذات الأولوية العليا في استراتيجية الدفاع الوطني. يمثّل تحويل موارد الولايات المتحدة بعيداً عن القيادة المركزية الأميركية تحدّياً لقدرة القيادة على توفير الردع بقوات قتالية متمركزة في الأمام وذات مصداقية. سيتطلب ذلك من القيادة المركزية الأميركية تطوير مفاهيم جديدة وتقوية علاقاتها مع الشركاء والحلفاء الإقليميين.
بالإضافة إلى ذلك، يوفّر الوجود الأميركي المنخفض فرصة للمنافسين لزيادة تأثيرهم المحتمل مع شركائنا. كما ذكرنا سابقاً، فإن هذا يخلق خطراً متزايداً إذا فقدت القيادة المركزية الأميركية أيضاً التمويل الذي من المحتمل أن يتم أخذه من برامج المشاركة والتعاون الأمني اللازمة لتعويض إعادة هيكلة تموضعنا». بمرونة وواقعية كان قد هيّأ الأجواء لتقبل المفاهيم الجديدة المنخفضة الطموح والتي سيلجأ إليها عندما تتعرّض القدرة الأميركية في المنطقة للاختبار، فلم يكن ماكينزي من الأساس مرتفع التوقعات على ما يبدو من كلامه. وهذا ما يعيدنا إلى السؤال حول سبب اختيار القيادة العليا لماكينزي كي يتولى قيادة المنطقة في هذا الظرف الدقيق، فهل كان ذلك بسبب اهتمامه بقضايا الردع واتساع خبرته النظرية الاستراتيجية على حساب خبرته الميدانية القتالية؟ هذا ما يحتاج إلى مزيد من البحث لاحقاً.
أقر ّماكينزي بالحاجة لمقاربة خاصة وجديدة لمواجهة إيران: «يتطلّب من [القيادة المركزية] أن تبني تقنيات جديدة مبتكرة للحفاظ على الردع ضد إيران». لكنه يستدرك في السياق ذاته تاركاً المجال مفتوحاً لاستيعاب الاستهداف الإيراني: «دعامة كل شيء آخر سيجري في المسرح هي القدرة على ردع إيران والرد إذا لزم الأمر»، فالرد إذا لزم الأمر وليس الرد على أي استهداف، هذا التحفظ يعكس شخصيته الملتزمة بالتدقيق الاصطلاحي والقلقة تجاه المهمّة الموكلة، خصوصاً إذا نظرنا إلى التجربة القاسية التي عايشها في مواجهة «قوة القدس» خلال احتلال العراق عام 2003 وما بعدها. لكن يجدر القول كذلك إن هذه المحدودية التي تقيّد التعامل الأميركي مع التحدي الرئيسي، هي بطبيعة الحال خاصية التحدّيات الرئيسية عادةً.
بداية التحدي
قبل ثلاثة أيام من انعقاد «مؤتمر المنامة للأمن الإقليمي» الذي خصّص للحديث عن مواجهة إيران، بعد عملية «آرامكو» في 14 أيلول 2019، نقلت «نيويورك تايمز»: صرّحت القيادة المركزية، الجنرال كينيث ماكينزي، أن عمليات الانتشار الأميركية خلال أيار – تشرين الأوّل ربما تكون قد ردعت إيران عن مهاجمة أهداف أميركية، لكن «لن أستبعد [هجوماً إيرانياً آخر مثل هجوم 14 أيلول على البنية التحتية للنفط السعودي] في المستقبل». توقّعاته هنا كانت صائبة تماماً، فقد تكرّر الهجوم على المنشآت النفطية السعودية الكبرى في ينبع والدمام وغيرها لمرّات متعدّدة، وهذا ما يشير إلى معرفته المتزايدة بالنموذج الإيراني بعد عام على توليه المهمّة، لكنه غفل عن أن الدفاعات الجوية الإيرانية أسقطت الطائرة الأكثر تكلفة في سلاح الجو، المسيّرة «غلوبال هوك»، في حزيران من ذلك العام، أي بعد بدء زيادة الانتشار الأميركي، ولم تتجرّأ القوات الأميركية على الرد. ورغم أنه لم يكن حاسماً في مسألة ارتداع إيران، بل قدّم الفكرة تحت عنوان الاحتمال مستخدماً تعبير «ربما»، فإنه مال إلى التوظيف الإعلامي بدلاً من التقرير الموضوعي الواقعي، متجاوزاً حادثة إسقاط الطائرة باعتبارها حادثة دفاعية ربما.
خلال المؤتمر، الذي جمع عدداً كبيراً من الدول، تطرّق ماكينزي محاضراً إلى مسألة الردع، معتبراً أن تشكيل شراكة دولية وإقليمية سيكون له التأثير المنشود، معتمداً على التأسيس النظري المعتمد لديه في تعريف الردع: «ينشأ الردع من التأثير الذي يشكّله تظهير القدرات والإرادة في ذهن خصم محتمل أو عدو محتمل. ومع ذلك، سواء كانت إيران أو دولة أخرى، فحين يحصل العلم لديها بأن هناك إرادة دولية لتشكيل هذه الأنواع من الشراكات والقدرات لتوثيق وفضح أولئك الذين ينتهكون القانون الدولي، فإن ذلك يؤثّر على حسابات الردع». هذه الهفوات التي تعود إلى تغليبه الاستناد إلى النظريات، على الممارسات الواقعية العملية، تعود كذلك إلى سوء فهم صانع القرار الإيراني من قبل الأميركيين وماكينزي تحديداً، وهو ما سيشير إليه بتواضع بعد تقدّم تجربته في المواجهة.
أولوية ردع إيران
في الورقة الرسمية الصادرة عن القيادة المركزية للجيش الأميركي أوائل عام 2020، تم ربط الردع بحملة الضغوط القصوى: «يجب على القيادة المركزية الأميركية العمل على إنشاء واستمرار الردع العسكري مع إيران، لا سيما في سياق حملة الضغط الاقتصادي والدبلوماسي القصوى المستمرة»، ما يثير أسئلة حول جدوى الردع في غياب حملة الضغوط القصوى، وإمكانية تأثّر الأنشطة العسكرية الإيرانية بعد رفع العقوبات، وإمكانية إعادة نظر القيادة السياسية الأميركية بالإجراءات العسكرية في المنطقة في حال تم رفع العقوبات، فهل ستذهب باتجاه التخفيض أم التصعيد بهدف كبح الحيوية الإيرانية في المنطقة بعد عودة التدفق المالي، نقطة أخرى ينبغي الإشارة إليها وهي فشل سياسة الضغط الأقصى منفردة في تحقيق الردع.
تحاول الورقة التأكيد على ضرورة استمرار الردع حتى في حالات تراجع التهديد: «في حين إن فترات انخفاض التوتر قد توفّر الوهم بالعودة إلى الحياة الطبيعية، إلا أن هناك معلومات استخبارية كثيرة تشير إلى رغبة النظام الإيراني في مواصلة العمليات التي تهدّد حرّية الملاحة والتجارة الإقليمية والطاقة العالمية، والاقتصاد العالمي». تشير هذه النقطة إلى أن ماكينزي الذي صدرت هذه الورقة عن مؤسّسته واقع بين حدّين: الأوّل، تبيين وجود التهديدات المستمرة من قبل إيران وخطورة أعمالها. الثاني، إثبات أن إيران مردوعة بسبب وجود القوات الأميركية. لكن النتيجة هي أن هذا الردع محدود، وبالتالي هو مضطر للقول إن هناك ردعاً متنازعاً عليه، ليبقي الحاجة إلى استمرار ودوام الانخراط في المنطقة، في نفس الوقت الذي يثبت فيه أن هذا الانخراط مفيد ومؤثّر.
تحدّد الورقة وظيفة القوات الأميركية المتواجدة في المنطقة بالمستوى الدفاعي: «الموقف الأميركي المستمر لا يتطلب وجود قوات هجومية في مسرح العمليات». وتقرّ من ناحية أخرى بأن هذا الردع المنشود معرض للتأثير: «يمكن الطعن في الردع – إذ يحتفظ النظام الإيراني بالقدرة على التدخّل في جهودنا للردع». وتقرّ بأن إيران استطاعت احباط قدرة أميركا على الرد من خلال الأنشطة القابلة للإنكار، لتؤكد أن استهداف مواقع «كتائب حزب الله» واغتيال الحاج قاسم سليماني أظهر توفّر القدرة على الرد، وهذه القدرة هي الجزء الثاني من منظومة الردع بحسب ماكينزي، والتي يفترض أن تجمع بين الإرادة والقدرة، لتغفل عن استمرارية تعرّض القوات الأميركية للعمليات القابلة للإنكار، مع الإشارة إلى أن الورقة غير المؤرخة الصدور قد تكون نشرت بعد فترة قصيرة من عملية الاغتيال، لكن التغافل الواضح عن استهداف الصواريخ الإيرانية لقاعدة عين الأسد، يوضح وجود خلل في منظور الردع الذي تحاول تسويقه، كما يشير إلى القلق الكبير من الاعتراف بهذه الحادثة، ومحاولة كنس الغبار تحت السجاد.
لرأب هذا الصدع الواضح تلجأ الورقة الرسمية إلى مفهوم «الردع المتنازع عليه»، وتقدّم له بالقول: «يجب أن يستمر النظام الإيراني في رؤية أنّ الولايات المتحدة لديها ما يكفي من القوات المنتشرة في الخطوط الأمامية للحصول على قدرة عسكرية موثوقة وبأنها على استعداد لتوظيف هذه القدرة للدفاع عن المصالح الأميركية باقتناع». وتذيل هذا التعليل باستدراك نسبي وعام لتعرفنا بأنه «قد يكون إنشاء الردع وقياسه أمراً صعباً، كما أن الحفاظ عليه مكلف».
بناءً على هذا التعقيد الإجرائي تخلص الورقة في خاتمة الجزء الأوّل منها، والذي يحدّد الأولوية الأولى للقيادة المركزية بـ«ردع إيران»، إلى تقييم فائدة وتكلفة الردع بالمقارنة مع المواجهة الواسعة: «في حين إن تكلفة استعادة الردع والحفاظ عليه باهظة التكلفة، إلا أنها تبقى أقل تكلفة من نشر القوات المطلوبة للقتال في صراع واسع النطاق: وهذا دليل على فشل الردع. وبالتالي، فإن هدف القيادة المركزية الأميركية هو وضع قوات ذات عمق عملياتي في المنطقة لتحقيق حالة ردع مستدامة ضد النظام الإيراني دون استفزاز لا داعي له، وأن تكون قابلة للتكيّف مع التهديدات الإيرانية المستقبلية بينما تستمر حملة الضغط الأقصى الأميركية».
ونعود هنا للسؤال عن جدوى ربط الردع بالعقوبات والذي ختمت به المسألة كلها، حيث يبدو أن هناك تعويلاً واستناداً على حملة الضغوط القصوى لتبرير السياسات التي تتبناها القيادة المركزية أمام الرأي العام الأميركي؛ فطالما أن السياسة العامة هي حملة الضغوط القصوى، فلا بد أن يترافق ذلك مع توفير متطلبات الردع استجابة لردود فعل إيران المحتملة تجاه تلك الضغوط، أو أن هناك تعويلاً على الضغوط القصوى للتوصل في المدى البعيد إلى حالة من الإحباط الإيراني نتيجة الاستنزاف الاقتصادي.
المساءلة الواقعية
بعد ثلاثة أشهر على اغتيال قائدي «قوة القدس» و«الحشد الشعبي»، قدّم ماكينزي شهادته الدورية للجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ، حينها كان السؤال لا يزال مطروحاً حول حقيقة الردع المتحقق. السيناتور إينهوف يسأله عن جدوى نشر 14 ألف جندي في المنطقة والتصريح بأن الهجمات الإيرانية لا تزال واردة ومحتملة، فما فائدة نشر القوات؟ يلجأ ماكينزي إلى إزاحة نظرية، يبدأ بتعريف الحاضرين على مفهومه للردع، عنصري الإرادة والقدرة، ويردف قائلاً: «خلال الأشهر الماضية أظهرنا كليهما، ونتيجة لذلك، أعتقد أننا أعدنا إنشاء شكل تقريبي للردع، ما يمكن أن أسمّيه الردع المتنازع عليه، مع إيران، على مستوى هجمات دولة ضد دولة. لذلك نحن في فترة حيث، في مستوى دولة مقابل دولة، أعتقد أننا حققنا الردع. لكن مع أنشطتهم بالوكالة – وبينما هم أساسيون في العراق، فإنهم لا يقتصرون على العراق وهناك مناطق أخرى ينشطون فيها أيضاً. هذه هي الفترة التي نعيشها الآن مع إيران، سيدي الرئيس».
هكذا ترك السؤال من دون إجابة. فمن دولة مقابل دولة هناك ردع، لكن على مستوى حركة الوكلاء في العراق ليس هناك جواب. لكن السؤال الذي يطرح، إذا كان الاغتيال قد حقّق الردع، فهل كان رداً على فعل دولة مقابل دولة؟ أم كان في سياق الرد على حركة شعبية حاصرت السفارة الأميركية وحركة الفصائل التي استهدفت القواعد قبل ذاك بأيام؟ لا شك أن دوافع الاغتيال موجودة منذ سنين طويلة، لكن سياق القرار وما يتعلّق بكونه رادعاً، فإنه رادع فعلاً لعمليات الفصائل التي كانت تجري، أمّا إن كان التحرّك، الاغتيال الذي يجمع بين الإرادة والقدرة، مبنيّاً على أساس العمليات التي جرت خلال احتلال العراق عام 2003، كما قال ترامب بُعَيْد الاغتيال، فيكون الاغتيال عملية انتقام، ذلك أنه لم يحقّق الردع فعلاً، ولم يؤد إلى وقف العمليات.
أدرك هذا الغموض السيناتور جوش هاولي، الذي سأله: لقد ذكرت بأن لدينا مشكلة في ردع الأنشطة الإيرانية غير المتكافئة، فما هي استراتيجيتنا في هذا الخصوص؟ يردّ قائلاً: «أنت تريد في النهاية إقناع المصدر النهائي للعدوان بأن الهدف الذي يسعى إليه مكلف للغاية. لذلك عندما تفكر في ذلك، تفكّر في الذهاب إلى المصدر. إذاً أنت تنظر حقاً إلى إيران. على إيران أن تفهم أننا نحمّلهم المسؤولية النهائية عن هجمات الفصائل في العراق. ولذا أعتقد أن أفضل طريقة لإقناع هؤلاء – إقناع إيران بالتوقّف عن إعطاء الأوامر لتلك الأنشطة هو أن تنقل لهم أنهم لن يحصلوا على ما يريدون وقد يكون لها في الواقع عواقب وخيمة عليهم». ظلّت الإجابة بعيدة عن السياق الواقعي، وغير قادرة على الاستفادة من التجارب والدروس، وفي النتيجة لم يتم إقناع إيران، ولو بنسبة محدّدة، بوقف الأعمال، وربما فضل رفع المسؤولية إلى المستوى السياسي، الذي يعود إليه اتخاذ الإجراء بحق دولة مثل إيران، بأعبائه ومخاطره وتكاليفه.
النقاش البديل هو البحث عن مدى الصلة العملياتية المباشرة بين إيران والفصائل العراقية، يردف ماكينزي في نفس الإجابة على سؤال هاولي قائلاً: «لكن هناك عنصراً واحداً – القيادة والسيطرة بين إيران وميليشياتها الشيعية في العراق على وجه الخصوص، ولكن عناصر أخرى أيضاً – إنها ليست مثالية. إنه ليس 1.0. إنه ليس مثل تسلسلنا القيادي حيث أنا واثق تماماً إذا أعطيت أمراً سيتم اتباعه. هذه ليست الطريقة التي تعمل بها، كما تعلم، مع تلك المجموعات. هناك درجة – هناك درجة – هناك فجوة بين النية والتنفيذ. لذا فهي ليست تحكماً مثالياً». هل أراد التلميح هنا بشكل غير مباشر إلى أن إيران لا تتحمّل مسؤولية كل العمليات؟ وبالتالي هو يبرّر عدم قيام القوات الأميركية بإقناع إيران وردعها بالقوة عبر تدفيع الثمن المناسب؟
لم يترك السيناتور هاولي الموضوع يمر بسهولة، قال له: إذا لم تنفعنا زيادة القوات في ردع عمليات الفصائل، كيف يمكننا التوصل إلى الردع في المجال اللامتكافئ؟ يجيب ماكينزي: «قد تحصل في النهاية على مستوى منخفض من هجمات الوكلاء في المنطقة. قد لا تكون قادراً على التخلّص تماماً من ذلك. أود أن أقول لك بالتأكيد – أو أعتقد أن الخط الأحمر للولايات المتحدة سيكون موت أفراد الخدمة الأميركية أو من شركائنا وحلفائنا. لذلك – هذا خط أحمر». لكن الاختبارات الجارية كانت تشير إلى صعوبة الالتزام بهذا الخط الأحمر والدفاع عنه، فأردف موضحاً: «كما تعلم، كانت هناك مجموعة متنوعة من الهجمات خلال الشهر الماضي حيث لم تقع إصابات. هجمات صغيرة منخفضة المستوى. بالطبع هجوم الأمس مأساة. لكن مرة أخرى، أعتقد أن الطريقة الفعلية لردع هؤلاء على المدى الطويل هي إقناع مصدر تلك الهجمات بأنهم لن يصلوا إلى أهدافهم من خلال تلك الهجمات».
كان قد حصل قبل يومين من إدلائه بالشهادة في مجلس الشيوخ هجوم على معسكر التاجي بالصواريخ سقط فيه جنديان أميركيان وجندي بريطاني، وفي نهاية أيار من هذا العام أفادت تقارير بحصول استهداف عبر طائرة مسيرة لقاعدة سرية لوكالة المخابرات المركزية في مطار أربيل وسقوط قتلى من جهاز المخابرات، من دون اعتراف أميركي بذلك، ورفض البيت الأبيض الذي اهتم بمتابعة العملية مباشرة الرد على إيران، كما أفادت «واشنطن بوست».
تجدر الإشارة إلى أنه لم يستغل كلام هاولي عن زيادة القوات، ربما لأنه يدرك أن زيادة العديد في العراق يزيد المخاطر، ولأنه يدرك كذلك أن حضور قوات إضافية في المنطقة لن يؤثّر في ردع إيران على مستوى العمليات اللامتكافئة، وتبقى مناشداته لزيادة القدرة في نطاق صلاحياته تتعلّق بالردع الكلاسيكي وحماية الحلفاء الخليجيين.
في محاولة أخرى لتبرير استمرار العمليات، يرجع الجنرال سبب تصاعدها إلى توصّله لمستوى متقدّم من الثبات يوحي بإمكانية بقاء قواته في العراق بالتوافق مع الحكومة العراقية، ما يدفع القوى المعارضة إلى تصعيد العمليات. ورغم أنه يبدي التردد حيال إمكانية البقاء ويحيل القرار إلى المستوى السياسي، فإنه يستفيد من هذه الإشارة بقوله: «لذلك أعتقد أنه عندما تدرك إيران ذلك، وربما يكونون قد فعلوا ذلك، فإن هجماتهم ستبدأ – لقد خفضوا نوعاً ما من هجماتهم، والآن سيبدأون في الانتعاش قليلاً». إنه فن الإجابة من خلال عرض مقدمات محتملة، ومن ثم ترتيب نتائج ظنية عليها، لفتح المجال في أذهان المستمعين لأمل موهوم بتحسن الظروف.
يشير في نفس الشهادة، وهي من المرات القليلة، إلى استهداف الصواريخ الإيرانية لقاعدة عين الأسد، موضحاً أن ما جرى إيجابي ولصالح تأسيس قواته للردع ضد إيران: «نعتقد أن ما وصلنا إليه الآن نتيجة للهجوم الصاروخي الباليستي على (قاعدة عين) الأسد، في أعقاب ذلك، أعيد تأسيس حالة قاسية في مستوى ردع الدولة، ويبدو أن إيران لا تريد ذلك. الانخراط في تبادل آخر من هذا القبيل، لأن ذلك سيكون في النهاية نتيجة سيئة للغاية بالنسبة لهم، وأعتقد أنهم – يدركون ذلك». فرغم أن البادئ بالاعتداء على إيران هو الجيش الأميركي، وهو الذي فتح مجال المواجهة المباشرة، ورغم تكرار الفصائل العراقية المقاومة للسلوك الذي دفع الأميركيين للقيام بالاغتيال والرد على إيران مباشرةً، وهو قتل جنود أمريكيين، وفق الخط الأحمر الذي أشار إليه ماكينزي، فإن الأميركيين لم يكرروا رد فعلهم الذي يفترض أنه يردع إيران، لكن ماكينزي قدم ما يجري على أنه شاهد على ارتداع إيران، ولا أظن أن دور الخطاب هو انتاج الردع بمعزل عن الوقائع.
استدراك عاجل
في اليوم نفسه، بعد شهادته في مجلس الشيوخ، يعقد ماكينزي مؤتمراً صحافياً، يبدو أنه يحاول من خلاله ترميم ثغرات خطاب الردع في شهادته الرسمية: «نستخدم عبارة “الردع المتنازع عليه” لوصف ما نحن فيه الآن مع إيران. نعتقد أننا أنشأنا مستوى من الردع بين دولة وأخرى، بحيث لا تسعى إيران إلى تبادل عسكري واسع النطاق مع الولايات المتحدة». هنا تتحول الحالة إلى إنجاز. حالة الردع المتنازع عليه، التي هي نتيجة تفاعل طرفين، يتم تقديمها على أنها فعل أميركي تم تحقيقه. ويتم إدراج تهديد تم التخلص منه. فمتى كانت إيران تعمل وفق رؤية مواجهة شاملة مع الجيش الأميركي؟ وهل كانت هذه الفرضية مطروحة قبل الاغتيال الذي يفترض أنه قد أزاحها من التداول؟ واللافت في ذلك المؤتمر الصحافي، أن عنوانه بحسب ما هو منشور في موقع وزارة الدفاع، هو «العمليات الدفاعية ضد إيران».
يطرح عليه أحد الصحافيين السؤال حول الحل الممكن لمواجهة عمليات الفصائل العراقية. هنا نجد أن المشكلة تعود إلى نفس المربع الأول: «في بعض الأحيان يكون من الصعب إقامة ردع مع كيان غير حكومي. قد تكون أفضل طريقة لصياغة الأمر أن يعلموا أنه ستكون هناك تكلفة كبيرة إذا استمروا في هذا السلوك في المستقبل، ونحن على استعداد لذلك – نحن على استعداد لجعلهم يدفعون هذه التكلفة ويجب أن يكون من الواضح جداً بالنسبة لهم نتيجة لذلك». من الواضح، بعد كل هذا الوقت، أنه لم يكن واضحاً بالنسبة لهم، ولم يستطع ماكينزي، رغم كل الإجراءات السياسية والأمنية والعمليات المباشرة، من إيصال رسالة الردع. ربما أن السبب هو نظرة الفصائل إلى قيمة المصلحة المتمثلة في إخراج المحتل، فهي أكبر من أي تكلفة ممكن أن تدفعها تلك الفصائل.
مقابلة بعد أربعة أشهر
بعد أربعة أشهر، كانت لا تزال الفكرة/الملجأ، الردع المتنازع عليه، هي المخرج الذي ألهمته براعته اللغوية الأدبية بأنه سيعطي للقيادة المركزية تبريراً لتعثرها في مواجهة المستنقع العراقي: «ما زلت أقدّر أننا في فترة الردع المتنازع عليه. إن مهمة القيادة المركزية للولايات المتحدة هي: بينما تستمر حملة الضغط الأقصى، فإن مهمة القيادة المركزية الأميركية هي ردع الإيرانيين عن الاعتقاد بأنهم يستطيعون الرد، إما علناً أو سراً، ضدنا أو ضد الشركاء وأصدقاء التحالف في المنطقة من أجل زعزعة الاستقرار وإعادة ضبط قواعد حملة الضغط الأقصى». لكن، هل سيصمد هذا الاصطلاح المبهم، الذي يتيح إمكانية تداوله بشكل مفتوح على كل الاحتمالات؟
هنا يبدو أن ماكينزي قد بدأ يشعر بضعف هذه اللغة. يلجأ إلى المسار السياسي، فهناك قد يكون الحل. يجيب على سؤال الصحافي: «لكن، كما تعلم، فقد وصفت بالردع المتنازع عليه لأنه ليس نقياً. لا تزال هناك أنشطة جارية حول الحواف. هنا في العراق تشاهد بين الحين والآخر الهجمات الصاروخية على قواتنا. أعتقد أن إيران لا تزال ترغب في متابعة رؤية خروج الولايات المتحدة من المنطقة. وأعتقد لفترة من الوقت في وقت مبكر من هذا العام، أنهم شعروا أن لديهم مساراً سياسياً للقيام بذلك في العراق. لا أعتقد أنهم يرون أن هذا المسار متاح لهم بعد الآن. ونتيجة لذلك، فهم نوعاً ما يقيّمون إلى أين سيذهبون. لكنني أعتقد أنهم ما زالوا في طور التفكير في كيفية انطلاقهم من أحداث كانون الثاني. ولا أعتقد أن هذا قد تم استيعابه بالكامل في عملية اتخاذ قرارات الأمن القومي». يعتقد أنه أربك المسار الإيراني الرامي لإخراج قوات الاحتلال، لم يعد ثمّة أمل بمسار سياسي، والحلقة المفرغة تستكمل ذاتها. توقّف المسار السياسي يعني عودة العمليات بوتيرة أعلى، وهكذا يغرق خطاب الردع بين الواقع والمصطلحات، في لعبة دائرية مستمرة.
يتعاطف الصحافي، على ما يبدو، مع الجنرال محاولاً إخراجه من الإشكالية اللغوية، فيسأله عن تراجع أولوية الشرق الأوسط، نطاق إشرافه العملياتي، في قائمة أولويات السياسة الأميركية، وتأثير ذلك على القدرات والمعدات العسكرية المفرزة للمنطقة. يستعيد أنفاسه ويستفيد من الفرصة ويكشف عن المعاناة التي يتعرّض لها في محاولة الحفاظ على الموارد التي كانت تحت تصرفه سابقاً: «لا يزال لدينا الكثير من الأشياء هنا. وأود أن أقول لك، لا يمكن للقائد المقاتل (رتبة مسؤول منطقة عسكرية في الجيش الأميركي، وهنا المقصود المنطقة المركزية أي الشرق الأوسط) أن يرى أنه العرض الوحيد في المدينة. كما تعلم، هناك أماكن أخرى نحتاج فيها إلى وضع بعض هذه المعدات. ولذا فإنني أدرك ذلك. لا يمكنك أن تركز بشكل كامل على ما تفعله. عليك أن تدرك أن الولايات المتحدة لديها متطلبات عالمية وأن تلك المتطلبات العالمية يجب أن تكون لها مواردها. لذلك قد لا تحصل على القدر الذي تريده. وأنا أشارك بقوة في تلك المناقشات عندما نتحدث عن توزيع القوات. ولكن عندما يتم قول وفعل كل شيء، عليك أن تدرك أن الولايات المتحدة قوة عالمية ولدينا متطلبات في كل مكان علينا أن نلبيها. لذلك أنا أقبل ذلك وسنمضي قدماً بما لدينا، مع العلم أنه يمكننا إعادة الأشياء بسرعة كبيرة إذا لزم الأمر».
في الحقيقة يرجع أصل المشكلة إلى تراجع جدوى التدخل الأميركي في المنطقة، وليس فقط العجز عن العثور على مصطلح للردع الهش القائم، وإنما هناك مشكلة أساسية هي عدم القدرة على الدخول في مواجهات حقيقية في المنطقة، سواء مع فصائل مقاومة أو مع القوات الإيرانية، نظراً لنتائج المواجهات السابقة منذ 2003، ونظراً لانشغالات الولايات المتحدة بعيداً عن المنطقة. من هنا تبدأ المشكلة كلها، وهي ليست مشكلة تكتيكية، وقد تتعلق بكيفية إدارة المواجهة الحالية غير المباشرة مع ايران إلا بشكل جزئي موضعي.
عام على الاغتيال
لا زال النقاش مستمراً بين ماكينزي وبين قيادته حول ضرورة توفير المزيد من القوات، وبالتالي الردع المتنازع عليه يعاني من نقص الموارد، ولا يزال الجيش المحتل يتعرّض للاستهداف دون وجود رؤية للعلاج، لكن مجموعة المفاهيم والأفكار والمسارات التي يقدمها ماكينزي لا تزال متناسبة مع حاجات السياسة الأميركية للتواجد العسكري في العراق، خصوصاً وأن مستوى الخسائر لا يزال مقبولاً مقابل المصالح: «أنا في نقاش نشط طوال الوقت مع رئيس هيئة الأركان المشتركة ومع وزير الدفاع حول القوات التي نحتاجها لردع إيران، لأن هذا هو هدفنا، لإقناعهم أنه ليس في مصلحتهم الهجوم. ليس من مصلحتهم مهاجمتنا، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر وبطريقة غير مباشرة، أعني من خلال وكلاء». عملية الإقناع لم تحصل إذاً، لكن السؤال هل إن زيادة القوات تؤدي إلى الردع؟ إذا عدنا إلى تجربة 2003، حين يصرح المسؤولون الأميركيون في مختلف المراحل حول مسؤولية «قوة القدس» عن العمليات التي استنزفت القوات الأميركية، في وقت كان الانتشار قد بلغ 120 ألف جندي، كانت العمليات أكثر كثافة والخسائر أكبر بما لا يقارن، والنتيجة كانت في النهاية انسحاب القوات.
يخطو ماكينزي خلال هذه المقابلة خطوة إضافية على صعيد التخفيف من اعتماده على مفهوم «الردع المتنازع عليه» ويصفه بأنه غير مثالي، ويخطو خطوة أخرى نحو مزيد من التواضع: «تتضارب هذه الأشياء، ومن الصعب جداً، وأحياناً ما يكون غامضاً، النظر إلى أعلى مستويات صنع القرار الإيراني ومحاولة فهمها. أنا في الواقع متواضع جداً في قدرتي على الحكم على ما سيفعله الإيرانيون أو لا يفعلونه». هنا في الحقيقة يحتاج ماكينزي إلى مراجعة تجربته الخاصة، وربما قام بذلك فعلاً، فقد كان مسؤولاً في لواء قتالي في العراق خلال بداية الاحتلال عام 2003، فاللغة لا يمكن أن تغيّر الوقائع، في حين لم يستطيع 120 ألف مقاتل أن يؤثروا في عملية اتخاذ القرار الإيراني. يقول: «لقد تمكّنا من القيام بذلك، على ما أعتقد، من خلال الاحتفاظ بمستوى مناسب من القوات في قوى المسرح التي من الواضح أنها كافية للدفاع، وإذا لزم الأمر، للرد، ولكن في نفس الوقت لا يكفي أن نكون استفزازيين وإضافة درجة حرارة إلى ما هو بالفعل وضع خطير للغاية. لذلك نحن ندير ذلك بعناية شديدة». هل يمكننا الاستنتاج هنا أن الردع المتنازع عليه يتضمن عدم الاستفزاز؟ رغم التعرّض بشكل دائم لعمليات منخفضة الشدة من قبل فصائل المقاومة العراقية؟ هل العناية الشديدة تعني التعرّض للردع، والقبول بالتعرّض للعمليات العسكرية المتكررة؟
استعادة المعنويات
بعد شهرين من المقابلة الأخيرة، يخرج في محاضرة مع بول سالم في «معهد الشرق الأوسط»، ليقدّم إنجازات كان قد تخلى عنها، وليعيد استخدام المفهوم الهجين المستحدث والمبهم: «أعتقد أن وجودنا في المنطقة، الدفاعي في الغالب، قد أوصلنا إلى فترة من الردع المتنازع عليه مع إيران. يرسل هذا الوجود إشارة واضحة لا لبس فيها لقدراتنا وإرادتنا للدفاع عن الشركاء والمصالح الوطنية للولايات المتحدة، وهي إشارة استقبلها النظام الإيراني بوضوح». اضطراب واضح في الخطاب وفي بناء الصورة، وسلوك غير متوقّع من شخص دقيق من الناحية العلمية وبارع من الناحية اللغوية، وهذا يعكس حقيقة الواقع المقلق من جهة، والحاجة إلى التأكيد على الدور والفعالية، وإرضاء الشركاء الإقليميين، الذين يرتبط معهم ماكينزي شخصياً بروابط شخصية غير واضحة الغايات. فهو مضطر للحفاظ على الجدوى في نظر القيادة العليا، التي تبدو من خلال تتبع تصريحات ماكينزي، أنها محل شك. في هذه المحاضرة ينسف ماكينزي مقولاته المتواضعة ويقدّم مادة معاد تصنيعها للاستهلاك: «في الوقت الحالي، نحن نتمتع بالسيطرة على حالة الردع المتنازع عليه، لكن هذا لا يُقصد به أن يكون دولة لا نهاية لها. بل إنه يضع الشروط التي تسمح للدبلوماسيين بأداء عملهم». إذا كان الردع يبنى على الخطاب والوقائع بحسب تأسيسات ماكينزي النظرية، وهي تأسيسات مقبولة في المجتمع السياسي العالمي، فإن هكذا خطاب مضطرب ينبغي أن يكون محل تدقيق في تأثيره على الردع، وربما يتسبّب هذا التذبذب بتعريض قواته للخطر.
الالتفاف على المشكلة
استمرار الأزمة يدفع إلى توسيعها، توسيع الرؤية لكي تصل إلى الجذور، الجذور تكمن في المسرح الدولي والتوجه الأميركي نحو الشرق. بدأ ماكينزي يناقش السياسات العامة، ربما شعوراً منه بتحولات بعد تثبيت بايدن لأقدامه داخل المؤسسة: «مع قيام الولايات المتحدة بتقليص وجودها العسكري في جميع أنحاء الشرق الأوسط للتركيز على منافسة القوى العظمى مع الصين وروسيا، فإنها تخاطر بمنح هاتين الدولتين فرصة لملء الفجوة وتوسيع نفوذهما حول الخليج». خروج من النقاش العسكري إلى النقاش السياسي، وانتقاد واضح لاستراتيجية الدولة، في كفاح مستمر للحفاظ على أمن الدول التابعة لأميركا في المنطقة التي تتراجع أهميتها يوماً بعد يوم، فخرج النقاش من الغرف المغلقة إلى العلن.
في حزيران 2021، بعد شهر واحد على التدخل في شؤون الدول العامة وسياسة أميركا العالمية، يعود ماكينزي إلى النقاش العسكري، خلال لقاء خاص في نطاق وزارة الخارجية، في أول احتكاك علني مع المؤسسة الجديدة في عهد بايدن. يحاول هنا ترتيب العلاقة، نقاش علني لكن في إطار رسمي، يتيح له عرض وجهة نظره بشكل مفتوح: «من الواضح أن الصين وروسيا تسعيان إلى نفوذ أكبر وعلاقات أقوى مع دول المنطقة. تحاول الدولتان استغلال أي تراجع محسوس في انخراط الولايات المتحدة في إقامة علاقات انتهازية وتعزيزها». هنا لم ينتقد سياسة الولايات المتحدة، فقط لجأ للتحذير وتبيين المخاطر الداهمة ليس إلا، لكنه يرتكب هنا هفوة أساسية، فعندما يذهب لتوضيح طبيعة الردع الذي نجح في إقامته، يقول: «أولوية أخرى هي ردع أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، والتي لا تزال تشكل أكبر تهديد للاستقرار في الشرق الأوسط. أعتقد أن موقفنا في المنطقة كان له تأثير رادع على إيران وجعل من الصعب عليهم إنكار مسؤوليتهم عن أنشطتهم». لقد أصبحت صعوبة انكار العمليات التي تقوم بها الفصائل العراقية المقاومة التي تدعمها إيران بشكل علني إنجازاً لإجراءات ماكينزي، ورغم أنه من الصحيح أن عدم انكار المسؤولية يمكن اعتباره مقدمة لتشريع الرد الأميركي، لكن سياق الصراع كله لا يؤدي بنا إلى هذا الاستنتاج.
استشراف
بعد كل هذا المسار من التجارب والطرح النظري والتداخل غير المنتظم بينهما، يجدر السؤال حول قدرة القيادة المركزية على تحديد مقاربة حقيقية متناسبة مع تحدي الاستنزاف، كما يجدر السؤال حول مدى تحمّل الجيش الأميركي لحصول أي تحول في مستوى الاستهداف نوعياً وكمّياً، وهل ستصمد اللغة أمام الواقع منفردة؟ ما قدّمته تجربة ماكينزي حتى الآن من إجراءات ومصطلحات يشير إلى وجود ثغرة عميقة في الأسس التي يبنى عليها بقاء القوات الأميركية في العراق وسوريا، وقد نشهد قريباً تصدّع تلك الأسس.
هادي قبيسي – الأخبار اللبنانية