تكشف تحركات روسيا الميدانية، مع انقضاء الشهر الأول من الحرب التي اندلعت في 24 فبراير الفائت (2022)، أنها تسعى إلى خطة عزل أوكرانيا بالكامل عن محيطها الخارجي براً وبحراً. فمع الإعلان عن انتهاء المرحلة الأولى من عملياتها العسكرية، كانت قد سيطرت على القوس الشرقي من البلاد، والذي يمتد من شريط حدودها الشمالية المتاخمة للحدود الروسية–البيلاروسية، مروراً بالشريط الشرقي الذي يشمل حدود خاركيف وإقليم الدوبناس، وصولاً إلى الشريط الساحلي الجنوبي الذي يمتد من بحر آزوف في أقصى الشرق من الجنوب وحتى ميكولايف في منتصف الشريط الساحلي عند مدخل أوديسا الشرقي. ووفق التصريحات الروسية حول خطة التحركات التالية، يبدو أن موسكو ستركز على تضييق الخناق أكثر على العاصمة كييف، بالتوازي مع إغلاق الحدود الغربية-الأوكرانية واستكمال الحصار البحري، وهو ما انعكس في دفعها بتعزيزات عسكرية من بيلاروسيا سيتم نشرها بالتتابع على خط الحدود الغربي طولياً، من أجل منع تدفق الدعم العسكري الغربي إلى الداخل الأوكراني.
رهان على عزل أوكرانيا
يدحض هذا التصور نظرية السيطرة المساحية على البلاد من الشرق إلى الغرب، والتي كانت متوقعة في بداية الحرب، وبالتالي لا يبدو أن روسيا تسعى إلى السيطرة السريعة على المدن الكبرى في شرق البلاد وجنوبها، مثل كييف العاصمة، أو خاركيف وأدويسا على التوالي، بينما سيطرت على المدن الصغيرة التي تقع على هذا الشريط الذي يُطوِّق القوس الشرقي من البلاد، مثل سومي شمالاً، وماريوبول وخيرسون وميكولايف جنوباً.
وفي حال نجاح خطة عزل أوكرانيا على هذا النحو، تراهن موسكو على تقلص خيارات الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي، حيث ستحبط بدورها الدعم العسكري الذى يحصل عليه من القوى الغربية، ما سيحد من رهان الأخير في المقابل على تحسن وضع المقاومة خارج العاصمة، وهو ما يرجح فرضية أن روسيا ربما لجأت إلى هذه الخطة كتكتيك فى ظل رفض زيلينسكي الاستسلام عبر تطويق كييف فقط، وهي الخطة التي كانت روسيا تعتمدها في الأسبوع الأول من الحرب، ويفسر في الوقت ذاته لماذا لم تقتحم القوات الروسية قلب العاصمة.
كما يفسر ذلك من جانب آخر تغير طلبات زيلينكسي الدفاعية مؤخراً، فبعد أن كان يطالب بالمزيد من المنظومات المحمولة مثل ستينجر وجافلين المضادة للدروع والطائرات على مستوى منخفض، أصبح يطالب بمنظومات دفاع جوي وأسلحة هجومية بحرية كى يتمكن من مواجهة مساعي روسيا للسيطرة على الأجواء البرية والبحرية.
نقاط القوة والضعف في أداء الأطراف
وفقاً لهذا التصور، يمكن القول إن الحرب الروسية في أوكرانيا شكلت نموذجاً جديداً في التخطيط الروسي في العمليات العسكرية، حتى وإن لم تغير في الأداء بشكل كبير، فتحركات القوات الروسية كانت غامضة إلى حد كبير، ولم يكن بمقدور القوى الغربية توقع خطواتها التالية، حيث كان تركيز معظم تقارير الاستخبارات الغربية ينصب على أن القوات الروسية تتباطأ نتيجة عدم القدرة على التحرك لاحتلال المدن.
كذلك من ناحية أداء القوات الروسية عسكرياً، من المتصور أن القوات الجوية والبحرية حققت الكثير من الأهداف، التي تبنتها خطة العمليات الروسية، والتي انطوت على تدمير البنية العسكرية الهجومية والدفاعية الأوكرانية، مع السيطرة على المنشآت النووية، والمعامل الكيميائية والبيولوجية. لكن في المقابل، يبدو الأداء القتالي لقوات المشاة أضعف بكثير مما كان متوقعاً، كما أن حجم الخسائر هو الأكبر في صفوف هذه القوات، وهو ما يعكس الثغرة الرئيسية في هذه العملية من الجانب الروسي، فإذا كانت روسيا تسعى إلى تطويق الحدود فقط، فلم تكن بحاجة إلى هذا الكم الكبير من القوات الذي يضعها هدفاً في مواجهة القوات ومجموعات القتال الأوكرانية التي تدربت لسنوات على عملية استهداف المدرعات والمركبات والطيران المنخفض بشكل رئيسي، انطلاقاً من التصور السائد بأن روسيا تمتلك جيشاً من المدفعية.
كما يعكس ذلك طبيعة التسليح الغربي لأوكرانيا، في أعقاب سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، إذ لم تقم الدول الغربية بإعادة تسليح أوكرانيا كجيش نظامي، وإنما كمجموعات قتالية مؤهلة لحرب المدن، حيث يراهن الغرب على إنهاك واستنزاف القوات الروسية وتحميلها كلفة عسكرية أكبر ما كانت تتوقع حتى تضعف موقف القيادة الروسية سياسياً في الداخل، كما تهدد استقرار القوات داخل أوكرانيا إذا ما قررت البقاء فيها.
نقطة الضعف الأخرى التي تعاني منها روسيا تتمثل في عدم استسلام السلطة الأوكرانية المركزية في العاصمة كييف أو السلطات المحلية في الأقاليم والمدن المختلفة، وكرد فعل على عدم الاستجابة لنداءات موسكو للاستسلام، فإن القوات الروسية تكثف من هجماتها من كافة المحاور في العمق، وتتقدم ببطء مع إحكام الحصار، وهو ما سيزيد من حجم الدمار وسقوط المزيد من الضحايا المدنيين من الجانب الأوكراني، على نحو يفسر أيضاً مدى اهتمام روسيا بالممرات الإنسانية لتقليل عدد الضحايا المدنيين قدر الإمكان وكتكتيك لخطة التفريغ الديمغرافي التي ستوظف لاحقاً في رفع مستوى التصعيد العسكري بحيث ستتعامل مع من سيتبقى كأهداف عسكرية، من جهة، وتصدير أزمة لاجئين على عاتق القوى الغربية من جهة أخرى. لكن هذا التوجه من الجانب الروسي سيصب في صالح الحملة الدعائية الغربية لتشويه روسيا.
السيناريو الميداني التالي
يبدو أن إغلاق الحدود الغربية-الأوكرانية سيكون له تداعيات صعبة على كييف والقوى الغربية الداعمة لها، لكن ذلك سيشكل متغيراً في معادلة العلاقة ما بين الغرب وأوكرانيا، حيث ستتخلص القوى الغربية من ضغوط زيلينسكي لإمداده بالمزيد من الأسلحة الغربية، في الوقت الذي تنتهز فيه تلك القوى الفرصة لنقل المزيد من الأسلحة لدول شرق أوروبا، ونشر المزيد من القوات العسكرية فيها، كخطة ردع استباقي لمرحلة ما بعد سقوط كييف، وهو ما سيكون نقطة ضعف أخرى لموسكو مستقبلاً في إطار مقاربة الهدف الاستراتيجي، فوصولها إلى حدود أوكرانيا الغربية يعني أنها أصبحت على حدود الناتو عملياً، وستكون محاولة روسيا لاستخدام القوة لاحقاً مغامرة غير محسوبة، كما سيكون بمقدور الحلف ضم المزيد من الأعضاء الأوروبيين مثل السويد وفنلندا، ولن يكون بمقدور روسيا الاعتراض على ذلك باستخدام القوة العسكرية، فميزان القوى الجماعي للحلف يتضاعف حالياً، بالإضافة إلى اتجاه دول ذات ثقل في هذه المعادلة كألمانيا وبولندا إلى خطة تنمية دفاعية استراتيجية سريعة وقصيرة المدى، وهي نقطة إضافية لن تكون في صالح روسيا أيضاً.
على هذا النحو، تراهن روسيا تكتيكياً على إغلاق الحدود الغربية لتحرم القوى الغربية من الرهان على عدم استقرار التواجد العسكري الروسي في أوكرانيا في المدى المنظور، بالتوازي مع قيام القوات الروسية بقصف المخزون العسكري والإمدادات والبنية العسكرية كالمطارات ومنظومات الدفاع ومخازن الوقود في الجهة الغربية، حتى تقلل بالتدريج من تبعات حرب الاستنزاف التي تخوضها أوكرانيا ضدها، لكن ذلك سيتوقف على عامل الوقت، ومدى قدرة الجانب الأوكراني على الإسراع في الحصول على الدعم العسكري المطلوب قبل تنفيذ خطة العزل الروسية لحدود أوكرانيا الغربية.
كاستنتاج عام، يمكن القول إن عزل روسيا لأوكرانيا سيحقق أهدافاً عسكرية تكتيكية في المرحلة السابقة من العمليات العسكرية، وربما المرحلة التالية، لكن لا توجد ضمانات لتحقيق الأهداف الاستراتيجية في نهاية المطاف، فبالإضافة إلى التكاليف العسكرية والاقتصادية المرتفعة لهذه الحرب والتي ستجعل من أى نصر عسكري تحرزه روسيا في هذه الحرب مجرد نصر رمزي على بلد جرى تدميره ومحاولة إسقاط نظامه – الذي أظهر استعداده للبقاء حتى النهاية- بالقوة العسكرية. وفي المقابل، لا يعتقد أن زيلينسكي يراهن على الانتصار عسكرياً في هذه الحرب بقدر ما يهدف إلى تحقيق انتصار سياسي عبر تشويه صورة روسيا بسبب هذه الحرب. كذلك لا توجد ضمانات تؤكد أن عملية إخضاع كييف ستمكن موسكو من فرض شروطها على طاولة التفاوض مع الناتو في المستقبل، بالإضافة إلى أنه لا توجد مؤشرات واضحة على قدرة موسكو على تنصيب نظام سياسي مستقر في كييف سيكون معزولاً وغير معترفاً به عالمياً. فضلاً عن ذلك، فإنه حتى مع إنجاز خطة عزل أوكرانيا عن العالم، فإن روسيا ستواجه معضلة أكبر في عزلها هى الأخرى عن العالم خارج هذا المحيط.
أحمد عليبه – مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية