كلّ جريمة هي فعل مروّع، حتى تلك التي لا تخلّف جثثًا ولا يُفتح لها ملفّات تحقيق. وحين نتحدّث عن مجزرة كالمجزرة التي صفعتنا في أنصار، والتي أودت بحياة كلّ من الأم باسمة وبناتها ريما وتالا ومنال صفاوي، فحول المجزرة ارتكبت جرائم عدّة: التباطؤ الذي حصل في التحقيق وفي متابعة قضيّة اختطافهنّ كان اشتراكًا بالجريمة. الأقاويل التي استهدفتهن وحاولت تظهير اختفائهن وكأنّه فعل إراديّ كانت اشتراكًا في الجريمة. الشائعات التي سرت كالنار في هشيم منصات التواصل والتي اعتمدت على خيالات كتابها ومروجيها في تحليل الجريمة وعناصرها ودوافعها كانت اشتراكًا في الجريمة. محاولة استخدام الجريمة لمآرب انتخابية (يا عيب الشوم!) أو لاستهداف أي طرف سياسي في المنطقة التي فُجعت بما حدث فيها هي أيضًا جريمة. وأخيرًا إدخالها في السجال ذي المنطق “النسوي” الذي أظهر أن جماعات النسويات كنّ حرفيًا بانتظار جنازة “يشبعن فيها لطم” ليبدأن على وقع الدم المسفوك نغمة النظام الأبوي وكلّ ما يرافقها من شعارات مقيتة.
هذا الكمّ من الجرائم المختلفة والذي يقع في فلك مجزرة مروّعة واحدة لا يُصنّف في القوائم العقابية كفعل يحاسب عليه مرتكبه، لا سيّما وأننا في بلاد يمكن أن ينجو فيها المرتكب للمجازر المشهودة أصلًا من العقاب المنصوص عليه، أو يناله مخفّفًا، أو يُعفى عنه بعد الحكم القضائي!
حتى الساعة لم تُعرف دوافع المجزرة بعد، ولكن من السهل معرفة الدوافع التي تسبّبت بالجرائم الجانبية التي حدثت على هامش المجزرة: فالتباطؤ دافعه الإهمال والاستهتار بحياة الناس (على الأقل، ما لم تظهر دوافع خفيّة أخرى)، والأقاويل التي رافقت اختفاءهن المفاجىء كانت بدافع الميل الجماعي إلى استبعاد الاحتمال المروّع والتعامل باستخفاف معه كاحتمال قائم. أما الشائعات فدافعها التسلية وملء الفراغ بالكلمات غير المناسبة، أو الترويع واستخدام الغموض في أي حادثة لتعميم الذعر، بشكل مقصود أو غير مقصود. والجريمة الأغرب كانت استخدام المصاب الأليم وتسييسه في شعار انتخابي أقل ما يقال فيه إنّه سطحي وساذج و”بلا أخلاق”. أما جريمة النسويات في التعاطي مع القضية فهي حالة متكرّرة ومعروفة خلفياتها.
مجزرة أنصار التي صبغت بالحداد خيالاتنا منذ الأمس، ينبغي أن تكون درسًا لنا جميعًا على عدة مستويات، وأهمها على مستوى احترام “حرمة الموت” وتحاشي “الفزلكة” في حضرته، وعلى مستوى تجنّب تداول الشائعات في أي قضية ولا سيّما تلك التي تحوي مساسًا بالأعراض وتلك الهادفة إلى الترويع وتعميم الذعر، كحكاية الإتجار بالأعضاء التي لا يعلم أحد منشأها ومن المستفيد من تداولها، إلا إذا ربطنا هذه الجزئية بادعاءات وتخاريف تلك الجريدة التي تواصل انحدارها النهاريّ التي اخترعت قصة إتجار حزب الله بالأعضاء البشرية.
بعيدًا عن الدعوات الانفعالية والمفهومة إلى الثأر المباشر من القاتل، ورغم اللاثقة بعدالة الأرض التي مهما تكاملت لن تأتي بقصاص يفي ببشاعة الجرم، ومع انعدام احتمال العودة بالزمن إلى ما قبل المجزرة، جميعنا اليوم أمام حقيقة واضحة تقول إنّ ما جرى على الضحايا وما ترافق معه هو محطة يجب علينا التوقف عندها، ولا سيّما بما يخصّ التعاطي الإعلامي -ولا سيّما على منصات التواصل- مع الحادثة: صحيح أن الأولوية في العقاب تقع على مرتكب المجزرة وهو أمر لسنا موكلين بتنفيذه كمجتمع، إلّا أن معاقبة المشتركين فيها مجتمعيًا هي مسؤولية كلّ فرد: وهذه المعاقبة تتمثل بمقاطعة كلّ من ساهم في الارتكابات المحيطة بالمجزرة عبر بث الشائعات سواء المسكّنة أو المروّعة أو عبر تجاهل الاحتمال الجرميّ والركون إلى احتمال “هربت مع بناتها”.
أنصار، الجنوب، وكل البلد اليوم يقف اليوم أمام جثامين أربعة، خلف أب مفجوع، وعائلة متألّمة، وقرية تحار في توزيع صدمتها بين مواساة أهل القتلى ومواساة أهل القاتل المذهولين والمقتولين خجلًا مما فعل مجرم منهم. هذه الوقفة هي درس لنا جميعًا، وإن كان الجمرُ لا يحرق إلّا كفّ حامله، فلسعُ الحريق يصفع وجوهنا كلّنا.