يؤدّي الأرشيف الأمني لأجهزة الاستخبارات في كل دولة أو منظمة سياسية دوراً إضافياً إلى جانب الوظيفة الأساسية في دعم عمليات اتخاذ القرار، وهو تأسيس الثقافة لدى الكادر المتخصص في دوائر القرار. على أن الأرشيف الاستخباري، بحجمه الهائل، لا يتحول إلى مادة ثقافية إلا بعد العكوف عليه وتحويله إلى مادة علمية خضعت للاختيار والربط والتحليل الدقيق. كتاب «المتاهة اللبنانية» للكاتب الصهيوني رؤوفين أرليخ هو نموذج عن تلك المادة الجاهزة للاستفادة، وقد نشر الكتاب قبل أشهر قليلة من تحرير جنوب لبنان عام 2000، ويعكس عنوانه المأساة العميقة لجيش الكيان الصهيوني المؤقت في المستنقع اللبناني. الكاتب رؤوفين أرليخ جنرال صهيوني بولندي الأصل، مختص في الشؤون اللبنانية والسورية والفلسطينية، عمل لثلاثين عاماً في قسم المخابرات، وما بين عامَي 1985 و2000 كان نائباً لأوري لوبراني منسق النشاطات الإسرائيلية في لبنان.
استند الكتاب بشكل رئيسي إلى مادة أرشيفية من مراسلات زعماء الحركة الصهيونية، قادة الكيان المؤقت، مسؤولي الوكالة اليهودية (وخصوصاً القسم السياسي)، موظفي وزارة الخارجية، قادة الـ«هاغاناه» وجيش الاحتلال، مصلحة الأخبار (الجهاز الاستخباري التابع لمؤسسات المشروع الصهيوني) واستخبارات العدو. يتعرّض الكتاب لـ«سياسة الحركة الصهيونية ودولة إسرائيل تجاه لبنان (1918 – 1958)»، تفصلنا عن تلك الفترة 64 عاماً، تغيّر فيها الكثير في لبنان والمنطقة وفلسطين.
يتعرض الكتاب لنقاش بديهيات معروفة في الأدبيات الوطنية اللبنانية، لكن يعود الجدال حولها حالياً بفعل اشتداد الأزمة الاقتصادية/ السياسية الناتجة من الفساد الذي هندسته الولايات المتحدة كنظام تشغيلي للدولة اللبنانية منذ عام 1992، وكذلك بفعل الحصار الأميركي الجاري. الرغبة الصهيونية بتجزئة لبنان وعزل مكوناته بعضها عن بعض تظهر بشكل واضح في المواد الأرشيفية التي يعرضها الكتاب، كما تظهر بشكل أوضح في السياسات الأميركية الدؤوبة الهادفة إلى تفكيك تحالفات المقاومة، وكذلك منعها من القيام بفتح علاقات مع الجهات اللبنانية التي تدور في الفلك الأميركي وتتصرف ببراغماتية مرنة نسبياً، مثل تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي.
سنستفيد من بعض الوثائق التي وردت في الكتاب للإضاءة على الرؤية الصهيونية وتحليل سياسة حزب الله الداخلية التي تأخذ بالاعتبار بشكل أساسي نيات العدو واستراتيجياته، وقيمة الوثائق هنا، رغم أنها تذكّرنا بسياسات العدو المعروفة، أنها توضح لنا بشكل ملموس ومباشر ولا لبس فيه مدى تجذر تلك السياسات في الوعي الصهيوني.
الاستراتيجية الصهيونية
تساءل ديفيد بن غوريون خلال اجتماع للوكالة اليهودية في منتصف الأربعينيات، قائلاً «”ماذا يمنحنا ذلك في أرض إسرائيل، وماذا نمنح نحن لهم؟” أجابه إسحق غرينبويم عضو مجلس إدارة الوكالة اليهودية أن هذا الأمر سيضعف العرب ويتيح حلفاء للاستيطان اليهودي و”يزيد قيمتنا وقوتنا السياسية في أرض إسرائيل”» (ص 30). يظهر هذا الحوار المصلحة الجوهرية للكيان المؤقت للحصول على حلفاء في دول ممزقة وضعيفة.
يلخص رؤوفين أرليخ الأفكار الأساسية لدى قيادة الوكالة اليهودية تجاه لبنان بالقول: «الموارنة، حملة راية الوطنية اللبنانية، هم على تناقض جوهري مع سوريا والحركة القومية العربية بسبب التزامهم بقيام لبنان ككيان سياسي مستقل ومنفصل عن سوريا» (ص 27). تاريخياً، افترضت النظرة الصهيونية إلى لبنان أن يكون فيه مشروع انفصالي داخلي، معزول عن المنطقة، فتفكيك لبنان مصلحة إسرائيلية، بالدرجة الأولى يبدأ تحقيق هذه المصلحة من خلال عزل الفئة الرافضة لوجود الكيان المؤقت عن الفئات الرمادية وتحفيز الفئات الانفصالية. تجدر الإشارة إلى أن الحديث هنا عن الموارنة كحالة انفصالية وليس المقصود هنا الحديث عن الطائفة، فالحالة الغربية التي تصب حركتها الحالية في مصلحة الكيان المؤقت متنوعة نسبياً طائفياً وسياسياً.
تنعكس هذه الرؤية العامة في الخطط والمشاريع الصهيونية التي يكشفها الكتاب، واللافت أن التدخل في الانتخابات النيابية اللبنانية كان بنداً رئيسياً في إحدى تلك الخطط، ففي المذكرة التي أرسلها إلياهو ساسون، رئيس الدائرة العربية في الوكالة اليهودية، إلى موشيه شاريت، رئيس القسم السياسي في الوكالة، في 20 تشرين الثاني 1946، تحت عنوان «مقترح خطة للعمل في البلاد المجاورة» اقترح ساسون في الجزء اللبناني من المذكرة: «محاولة التدخل في الانتخابات البرلمانية المقبلة بهدف ضمان تعيين حكومات تميل نحو تقليص علاقات لبنان مع العالم العربي، وتشجيع جهات تطمح إلى تقسيم لبنان إلى دولتين، مسيحية ومسلمة، أو إعادة لبنان إلى حدود 1917 وإقامة دولة مسيحية صافية» (ص 55). تعكس هذه الوثيقة النيات المتقدمة للوكالة اليهودية تجاه لبنان, ففي مرحلة متقدمة بعد مشاركة أهل جبل عامل في دعم الفلسطينيين خلال الثورات التي سبقت قيام الكيان المؤقت، بدأ التفكير الصهيوني يتجه نحو تفكيك لبنان وتجزئته، ليتحول إلى مرتكز وظهير للكيان. نلاحظ هنا أن السياسة الصهيونية نظرت إلى تقاطع المصالح مع الغرب كنقطة أساسية لتشكيل كيانات موازية في المنطقة، وفي الواقع الحالي نلاحظ أن السياسة الأميركية في لبنان لا تزال تعمل على خيار تفكيك لبنان، ويشكل الحصار الأميركي أهم عنصر دافع بهذا الاتجاه، والتفكيك هنا يبدأ في المستوى السياسي والاقتصادي ويبقى العمل على التفكيك الجغرافي وتأسيس الفدرالية مرتكزاً على اعتبارات أمنية، وشكلت الانتخابات دوماً فرصة للأميركي وحلفائه الإقليميين للتدخل بهدف تحقيق أكبر قدر من التفكك، وبشكل أساسي تشتيت تحالفات المقاومة الداخلية.
لم تثمر هذه السياسات كما تمنى اليهود, ويشير أرليخ، الذي عمل طويلاً في لبنان، بشكل واضح إلى تعارض السياسة الصهيونية مع حالة استقرار التوازنات اللبنانية الداخلية، ويعتبرها مشكلة رئيسية للكيان المؤقت: «الطابع التعددي للمجتمع اللبناني ومنظومة التوازنات الحساسة القائمة فيه لا تشكل ميزة، وإنما عائقاً وكابحاً للعلاقات بين الحركة الصهيونية والطائفة المارونية، أو أي طائفة أخرى في لبنان. وبسبب التوازن الهش الموجود في لبنان، ليس هناك مجموعة أو طائفة يمكنها أن تمثّل كل لبنان أو تلزمه بسياسة علنية موازية للصهيونية» (ص 30). يشير هذا التحليل، الذي قدمه أرليخ، واطّلع على آلاف الوثائق المتعلقة بالسياسات الصهيونية تجاه لبنان، وكان جزءاً من جهاز تنفيذ تلك السياسات خلال الثمانينيات والتسعينيات، إلى أن التشابك السياسي الداخلي في لبنان، الذي يعبّر عنه أحياناً بالتعايش أو الوحدة الوطنية أو التحالفات السياسية، هو عائق أساسي أمام المشروع الصهيوني. لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن: هل لا يزال هذا المشروع محتملاً في المستقبل؟ وفي الإجابة نرى أن المانع هو التشابك. في حال انهيار التشابك أو تراجعه، كما حصل خلال الحرب الأهلية، سنرى أن الحركات الانعزالية ستدخل في المشروع الصهيوني مجدداً، أما عندما يستقر التوازن اللبناني الداخلي نسبياً، فتتعثر المساعي الصهيونية التي ترعاها حالياً الولايات المتحدة والسعودية ودول أخرى تسعى إلى إثارة الفتن الداخلية بشكل دائم.
تهجير الشيعة
بموازاة هذه الرؤية التفكيكية وفي ظلها، تظهر السياسة الصهيونية تجاه الشيعة تحديداً، لنرى مفردة التهجير والتسفير جزءاً من ذلك المشروع، يقول أرليخ: «كان يُنظر إلى منطقة جنوب لبنان بوصفها هدفاً محتملاً للاستيطان اليهودي وتوجيه الهجرات اليهودية نحوها، رغم أن لبنان كان من حصة الانتداب الفرنسي» (ص 23). النظرة الصهيونية الأساسية تجاه جبل عامل كانت تقوم على التوسع والنهب والسيطرة على الأرض، لكن بعد وجود مقاومة صلبة ورادعة، ينزل مستوى الطموح الصهيوني إلى درجة عزل المقاومة عن باقي المكونات اللبنانية، وعزلها، في المستوى الأكثر طموحاً، عن بيئتها الحاضنة، وتحويل جبل عامل إلى لقمة سائغة للتوسع الصهيوني، وإن كان هذا المستوى قد انتقل إلى درجة الهدف الحالم، وليس الهدف الممكن حالياً.
ارتكزت هذه الرؤية الصهيونية على فهم خاطئ للحالة الشيعية في لبنان، يقوم هذا الفهم على أساس أن الشيعة لا ينتمون إلى وطنهم ولا يندمجون بالمكونات الأخرى، ويورد أرليخ المستند الأساسي لهذه الرؤية «في المسح الذي أعدّه القسم السياسي عام 1943، إذ رأى أن الشيعة المتاولة، انطلاقاً من الجهل وانعدام المعرفة، طائفة لا ترى مصيرها مرتبطاً بلبنان على الإطلاق، وذلك بسبب طموحها إلى بيع ممتلكاتها والهجرة تدريجياً إلى العراق» (ص 28). نستفيد هنا أن مشروع التفكيك لا يقتصر فقط على إدارة الفئات الانعزالية الانفصالية، بل على التهجير كذلك، وخصوصاً لأهل جبل عامل. نعود بالذاكرة فنلاحظ أن عودة هذا التفكير إلى الأذهان الصهيونية خلال حرب تموز، بالتنسيق مع فؤاد السنيورة الذي أراد منع النازحين من العودة إلى قراهم بعد توقف الحرب، ما يؤكد استمرارية الرواسب التي نشأت في تلك المرحلة في توجيه العقل الصهيوني، وكذلك العقول التي تحركها السفارة الأميركية في لبنان التي لا تزال إلى اليوم تتحدث عن الاحتلال الإيراني للبنان، وتحاول إسقاط الهوية الوطنية للشيعة اللبنانيين.
يورد الكاتب، في السياق ذاته، محضر حوار جرى بين ممثل عن الرئيس بشارة الخوري وإلياهو ساسون، يعكس مدى تقاطع الحالة الانفصالية الانعزالية في لبنان مع مشروع تهجير الشيعة، «اعتبر بشارة الخوري أنه “يوجد بيننا وبينكم حائل يجب إزالته وهو جبل عامل. ثمة ضرورة لإخلائه من سكانه الشيعة الحاليين، الذين يشكلون خطراً دائماً على البلدين، والذين تعاونوا أثناء الأحداث مع العصابات العربية التابعة للمفتي المقدسي”. لأجل ذلك، اقترح الخوري إخلاء منطقة جبل عامل من سكانها الشيعة وإسكانها بعد الحرب بالموارنة المقيمين في الولايات المتحدة. إن تنفيذ هذه الفكرة سيتيح لليهود والموارنة “الوقوف كتفاً واحداً ضد التيار العربي في الشرق. اليهود على وجه الخصوص سيتمكنون من ضمان جبهتهم الخلفية في الجزء الشمالي من أرض إسرائيل”» (ص 52). بحسب بعض الوثائق التي أوردها أرليخ، لم يكن بشارة الخوري من دعاة الانعزال، لكن الاحتلال البريطاني للبنان وطرد قوات حكومة فيشي، أثارا المخاوف لديه بإمكانية ضم لبنان إلى سوريا، ما يظهر أن فكرة الانعزال والانفصال والتحالف المصلحي مع الصهاينة تتولد في ظروف اختلال التوازن اللبناني.
هذا الحوار يبين لنا كيفية التقاء مشروع تهجير الشيعة من جبل عامل مع مشروع الانعزال والالتحاق بالمظلة الأمنية للكيان المؤقت، وهو ما ظهر في نيات فؤاد السنيورة إبان حرب تموز، كما يلتقي تيار الانعزال مع فكرة مواجهة حالة التحرر، بما يشكل نقطة تقاطع مصالح مع الكيان المؤقت. لا تزال الأفكار سارية المفعول إذاً، وهذا الأرشيف يشكل مستنداً يوضح لنا طريقة التفكير اليهودي تجاه لبنان، والذي لا يزال قائماً في أساسياته، مع تغير الظروف، لكن مع استمرار الأحلام والطموحات والمساعي كذلك.
توظيف النزعات الانفصالية
من الناحية الجيواستراتيجية، يرى أرليخ أن «الفرضية التي انطلق منها مخططو السياسة الصهيونية كانت أن لبنان شكل ظاهرة خاصة في العالم العربي بفعل طابعه المسيحي وكونه محاطاً ببيئة مسلمة وعربية معادية لم تسلم بقيامه ككيان مستقل. على أساس هذه الفرضية، مال مخططو السياسة الصهيونية إلى الاعتقاد بوجود مصالح متماثلة بين الاستيطان اليهودي ولبنان المسيحي الماروني تسمح بالتعاون في مواجهة الأغلبية المسلمة والقومية العربية» (ص 27). يوضح كلام الكاتب هنا بشكل عملي أن التيارات التي تؤيد الاتجاه الطائفي الحاد إلى حد العنصرية، تتلاقى بشكل تلقائي مع مصالح الكيان المؤقت، ذلك أنها لن تجد موئلاً في المحيط العربي المؤيد لعودة الحق الفلسطيني، والداعي إلى التلاحم العربي، بل بطبيعة الحال ستجد ضالّتها في حالة انعزالية مماثلة تبحث عن حليف. الفائدة التي يجنيها الصهاينة من الانقسامات الحزبية والسياسية والطائفية اللبنانية هي أن تقوم القوى المؤيدة لبقاء الكيان المؤقت بمواجهة القوى المعارضة لوجوده وبقائه، من دون أن تتحمل الجماعات اليهودية تكلفة القتال وخصوصاً على الصعيد البشري. وفي حال عدم وجود القدرة على المواجهة العسكرية، فإن الحروب الهجينة هي البديل، والدمج بين العمليات السياسية والإعلامية والاقتصادية والثقافية لمحاصرة المقاومة وتعطيلها، وعزلها ومنعها من التأثير في المكونات الأخرى.
يفسر أرليخ خلفية النيات الصهيونية تجاه الحالات الانفصالية اللبنانية بقوله: «الموارنة الذين يناضلون ضد سيطرة المسلمين والذين هم عرضة لتهديد أيديولوجي وعملي من قبل القومية العربية أو فكرة سوريا الكبرى، اعتُبِروا حلفاء طبيعيين للمشروع الاستيطاني اليهودي في أرض إسرائيل» (ص 29). الدرس المستفاد هنا هو أن أي نزاع في لبنان يعتبر فرصة للكيان المؤقت، لأنه يتيح المجال لبعض الأطراف للاستفادة من الرغبة الصهيونية في تفكيك لبنان، وبالمقابل فإن بناء تحالفات مبنية على أسس رؤية استراتيجية وطنية، ولو بالحد الأدنى، هو أفضل من انعدامها. من ناحية أخرى، فإن إنشاء المقاومة شبكة تحالفات واسعة يمنع التيار الانفصالي من توسيع تحالفاته.
طرح البطريرك بشارة الراعي فكرة حلف الأقليات خلال الحرب السورية، ولم يتم التجاوب معها، لأنها تعني التشريع للتفكير الانعزالي، وتعود الفكرة في الحقيقة إلى المطبخ السياسي الصهيوني قبيل قيام الكيان المؤقت، يقول أرليخ: «طور عدد من القيادات في الحركة الصهيونية نظرية “حلف الأقليات” التي تقوم على التعاون السياسي والاقتصادي بين الأقليات غير المسلمة وغير العربية في الشرق الأوسط في مواجهة العدو المسلم والعربي المشترك من أجل تحقيق طموحاتها القومية» (ص 30). هذه الرؤية تتأسس على النظرة إلى الذات والهوية والبيئة، والرواسب اللبنانية التاريخية مؤهلة لاستمرار هذه الاتجاهات.
لكن مقابل هذا التيار، ثمة تراث مسيحي تقليدي يقف إلى جانب القضية الفلسطينية، فليس هناك رؤية أحادية، مضافاً إلى بشارة الخوري في مرحلة من حياته السياسية، والكثير من الشخصيات والقوى والتيارات، نفاجأ بأن حزب الكتائب كان يحمل رؤية مضادة لفكرة الانعزال، يقول أرليخ: «شارك الكتائب في “اتحاد الأحزاب اللبنانية للنضال ضد الصهيونية”، الذي تأسس في 15 آب 1944، وأيد عملياً كل خطوات الحكومة اللبنانية في هذا المجال» (ص 50). يمكن أن نفهم من هذا السياق أن التحول العوني له جذور تاريخية، مؤسس على رؤية وطنية لمصلحة المسيحيين تخرجهم من الانعزال وتدمجهم في التنوع اللبناني، بما يتطلبه ذلك الاندماج من رعاية للتوازنات الداخلية.
تجدر الإشارة إلى أن الكتاب تعرض للعلاقات الصهيونية مع اللبنانيين من كل الطوائف، وأعطى لكل طائفة فصلاً خاصاً بها، الشيعة وخصوصاً آل الأسعد في الطيبة وآل العبد الله في الخيام، وسياساتهم المتناقضة بين تسهيل عمل الثوار الفلسطينيين من جهة، ومهادنة أهالي المستوطنات المحاذية للقرى اللبنانية، وكذلك أشار إلى التعاون الذي قام مع بعض الدروز والسنّة. لكننا هنا نركز على الظاهرة المناسبة للمقارنة مع الوضع الحالي في لبنان، الحالة المتحفزة نحو التفكيك والانفصال. وهي حالة تظهر في بيئتين، الأولى المؤيدة للمقاومة وتعتبر أن ثمة حاجة للتخلي عن بعض التحالفات التي تقيد حركة المقاومة في الداخل، والثانية التي تنساق للدعاية الخارجية/ الداخلية التي تدفع نحو تحقيق مصالح الكيان المؤقت وتشكيل بؤر انعزالية سياسياً واقتصادياً، وربما في يوم ما جغرافياً.
بالعودة إلى موقف بيار الجميل، مؤسس حزب الكتائب، في تلك الفترة، لم يكن نابعاً من تصور أيديولوجي أو أخلاقي، بل من رؤية عملية، يقول أرليخ: «من حيث المبدأ، هو يؤمن بفائدة التعاون بين لبنان المسيحي وأرض إسرائيل اليهودية، لكنه يعتقد أنه “يجب دراسة المشكلة بشكل عملي”» (ص 50). التفكير العملي يحكم الكثيرين في لبنان، وكذلك التفكير المالي النفعي، وهو سيف ذو حدين، إذ قلّما حقق الممول الغربي أهدافه من خلال القوى اللبنانية، من ناحية أخرى يظهر من كلام الجميل أنه ليس هناك ارتباط أيديولوجي بين التيارات الانعزالية واليهود الصهاينة، إنما علاقات سياسية مصلحية محددة.
عندما وصل بشير الجميل إلى السلطة على دبابة صهيونية، عاد إلى التفكير جغرافياً بالإطار الوطني، ولم يذهب إلى تفكيك الجغرافيا اللبنانية التي قامت على أسس رؤية اقتصادية تربط الوسط بالأطراف بشكل مصيري. لكن التفكير العملي هو الذي وضع الكتائب في الحضن الصهيوني عام 1975، وكما قال لي جوزف أبو خليل، محرر صحيفة العمل الكتائبية التي كانت تعبر عن الرؤية الرسمية للحزب خلال الحرب الأهلية، حين التقيته عام 2005، وسألته في حال تكررت أحداث 1975 أو ظروف مشابهة لها، هل تضعون يدكم في يد إسرائيل، فأجاب بصوت واضح ومتوتر: أكيد سنقوم بذلك.
المصلح العملية تحرك اللبنانيين، الذين يقدمون أنفسهم عادةً على أنهم رجال تجارة، وهناك الكثير من اللبنانيين الذين عبروا عن مواقفهم ولا يزالون إلى جانب المشروع الغربي في المنطقة، وبعضهم بدأ يرطن بخطيئة التطبيع والخيانة لمصلحة العدو، ولذلك فإن التحرك وسط هذه المتاهة، كما سماها الكاتب الصهيوني، دون الالتفات إلى تعقيداتها يعني الوقوع في الفخ الصهيوني. ويشير أرليخ إلى نموذج آخر في هذا السياق، فقد «أثيرت مسألة الدعوة إلى المؤتمر البرلماني في القاهرة، فتملّص الخوري من الإعراب عن موقف حيال القضية التي من شأنها أن تعقّد، بحسب أقواله، علاقات لبنان مع البلدان المجاورة: “إذا شاركنا فسوف نثير حفيظة اليهود، وإذا لم نشارك فسنثير حفيظة العرب”» (ص 52).
مخاطر عزل المقاومة
عملياً، لم يقم تعامل الحالات الانعزالية/ الانفصالية مع المشروع الاستيطاني الصهيوني على أساس وحدة المصير أو المصالح الواضحة وذات الجذر التاريخي، وإنما على تقاطعات تحركها الظروف، ينقل أرليخ أنه «حين حاول إلياهو ساسون إقناع (إميل) إده باتخاذ خطوات عملية ضد نشاط المفتي ورجاله في بيروت، امتنع إده عن الالتزام بأي خطوات عملية واكتفى بالوعد بأنه سيتحدث عن هذا الأمر مع المفوض السامي، وبتقديم نصيحة لساسون بتركيز الجهود في باريس مع وزارة الخارجية الفرنسية كي تصدر التعليمات المناسبة للمفوض السامي في بيروت» (ص 35). القوى الانعزالية ليست مستعدة، ولم تكن يوماً مستعدة، للتضحية بمواردها أو المخاطرة بوجودها لأجل المصلحة الصهيونية، بل هي تبحث عن المنافع من تلك العلاقة ليس إلا، وكنموذج إضافي من النماذج الكثيرة جداً والموثقة بدقة في الكتاب: «صيف 1946 التقى إميل إده في باريس ديفيد بن غوريون ورؤوفين شيلواح، وبعد عودته إلى بيروت بعث برسالة إلى القدس تتضمن طلباً مالياً كبيراً (25 ألف ليرة أرض إسرائيلية) من أجل محاولة السيطرة على الحكم في لبنان، وهو اقتراح غير عملي على الإطلاق في تلك الفترة. وذكر إده أمام محاوريه أنه بعد أن ينجح في ذلك، سيكون مستعداً للتعامل مع اليهود وسيوافق على ضم جنوب لبنان (على ما يبدو حتى الليطاني) إلى البيت القومي لليهود» (ص 37). بناءً عليه، يمكن أخذ الدرس المستفاد الآتي: معالجة التدخل الصهيوني في لبنان، وفي السياق نفسه، التدخل الأميركي والخليجي، الخادم للكيان المؤقت ومصالحه الأمنية، يرتكز على الحفاظ على التوازن الداخلي، وهذا يذكّرنا بخطاب المغيّب السيد موسى الصدر الذي كان يؤكد أن الوحدة الوطنية هي سلاح رئيسي ضد العدو الصهيوني.
في مرحلة متقدمة، حاول حزب الكتائب الاستفادة من الدعم الإسرائيلي خلال الحرب الأهلية، لكنه لم يقم بتحقيق الأهداف الصهيونية، بل اضطر جيش الكيان المؤقت للدخول إلى لبنان عام 1982 لتحقيق الأهداف الأمنية، لكن هذا التقاطع في المصالح بين الحالة الانعزالية والحالة الصهيونية كانت له آثار تدميرية على البلاد.
لنأخذ حالة أكثر وضوحاً وحدّة في تأييدها للمشروع الصهيوني، وننظر في خلفياتها ودوافعها، يقول أرليخ: «شخصية بارزة أخرى كان مطران بيروت الماروني، أغناطيوس مبارك، أحد رجال الدين الموارنة البارزين في لبنان. مبارك أظهر تأييداً علنياً وصاخباً للصهيونية. وهو أيد بشكل منهجي إقامة دولة يهودية ورأى في إقامتها الدفاع الأفضل عن لبنان المسيحي» (ص 39).
يورد إرليخ محضر لقاء يوضح مدى تطرف مواقف مبارك «كان المطران في شهادته أمام اللجنة الأنكلو أميركية قد رأى أن تطور لبنان مرتبط بشكل وثيق بتطور أرض إسرائيل، وأشار إلى “أننا كمسيحيين في لبنان ندرك ذلك”. أرسل مبارك مذكرة إلى القاضي إميل ساندستروم، سكرتير لجنة الأمم المتحدة الخاصة بفلسطين، فصل فيها الأسباب الموجبة لأن يكون لبنان وفلسطين وطنين قوميين للمسيحيين واليهود في الشرق الأوسط» (ص 45). بغض النظر عن الدوافع الشخصية عند المطران، فإن النظرة الانفصالية الأحادية لديه وعند من يؤمن بها من المعاصرين، تعطي المشروعية لقيام الكيان المؤقت واستمراره. فالمطران يقول إن الوطن القومي للمسيحيين في لبنان هو أمر تاريخي (كما كان الأمر دائماً)، وبالتالي فإن المنطقة مؤهلة لقيام كيانات قومية للأقليات. من هنا نفهم مدى أهمية هذه الحالة العنصرية بالنسبة إلى الكيان المؤقت، ومن ناحية أخرى مدى أهمية الاندماج الداخلي اللبناني، وخصوصاً مع عودة أصوات التطبيع، ورثة المطران وإميل إده والآخرين.
يحلل إرليخ دوافع المطران، ويؤكد أنها تعود بشكل أساسي إلى النزاع الداخلي والمصالح السياسية المباشرة، يقول الكاتب: «في خلفية طلبات المطران مبارك، كان يكمن خلاف حاد اندلع عام 1947 بينه وبين الرئيس بشارة الخوري في أعقاب الانتخابات البرلمانية التي امتنع الخوري فيها عن دعم مقربي مبارك. رداً على ذلك، شن مبارك هجوماً عنيفاً على الرئيس واتهمه بتزييف نتائج الانتخابات وبممارسة حكم ديكتاتوري في السلطة» (ص 47). الدرس المستفاد هنا هو أن تأمين المصالح السياسية للأطراف الداخلية بحسب الإمكان، وربطها بنظام مصالح محلي، يبعدها بالنسبة والتناسب عن الغرق في الارتباط بالخارج، وهذا ما حصل مع تيار المستقبل من ناحية عملانية. وفي الواقع اللبناني الحالي، وبسبب قوة حزب الله، فإن الأطراف الأخرى حين تشعر بأنها بعيدة ومنفصلة ومعزولة عن حزب الله، فسوف تشعر بالخطر وتذهب لتنفيذ السياسات الخارجية.
بنظرة عملية، تكمن خطورة النزاع الأهلي في أنه يوجِد الدوافع القتالية على خلفيات طائفية أو حزبية، وبالتالي يستطيع الكيان المؤقت، في حال اندلاع النزاع، أن يدعم بمشاركة أميركية خليجية القوى التي تبحث عن تمويل وسلاح خارجي، وبالتالي فإن تلك القوى سوف تتضخم عددياً وتتطور على مستوى الدوافع القتالية لمجتمعها، وبالتالي سيعود مشهد القوات اللبنانية وترسانتها التسليحية إبان الحرب الأهلية إلى الواجهة.
ثمة مسافة، بلا شك، بين عزل المقاومة وبين الحرب الأهلية والنزاع المحلي، فمن جهة القدرات، ليس هناك استعداد كاف لدى الجهات الفاقدة للشعور بالهوية والسيادة للانتقال من المواجهة السياسية مع المقاومة عبر العزل إلى المواجهة الوجودية عبر السلاح. من ناحية أخرى، لن يتحول حلفاء المقاومة إلى خصوم أو أعداء، لكنها قد تفقد دعمهم وستبقى في مواجهة التحديات المصيرية منفردة في أحيان كثيرة. ومن جهة سياسات المقاومة وأسلوب عملها، فهي لن تسمح بتحول عملية العزل السياسي إلى نزاع واقتتال، لكن العزل بحد ذاته هو البيئة المناسبة للتضييق على مهام المقاومة بالتدريج، ما سيدفع حكماً إلى النزاع والاقتتال لاحقاً.
الدروس المستفادة
في خلاصة هذه المطالعة لجزء من كتاب «المتاهة اللبنانية»، نخرج بعدة استنتاجات ودروس مستفادة، أولها أهمية هذا الكتاب والاطلاع على السياسات الصهيونية تجاه لبنان لفهم سياسات حزب الله الداخلية، وخصوصاً تلك التي تتضمن وثائق سرية مكشوفة بفعل مضيّ الزمن. والدرس الثاني هو أولوية التفكيك وعزل المكونات في الرؤية الأمنية الصهيونية، وتنامي مخاطر التحالف بين المتغرّبين والصهاينة في ظل التطبيع العربي الجاري. الدرس الثالث، أهمية الانتخابات النيابية وما يمكن أن تفضي إليه من قيام سلطة مؤيدة للكيان المؤقت. الدرس الرابع، أهمية تحالفات المقاومة كاستراتيجية دفاعية تحمي وجود لبنان وليس فقط السلاح، كما تحمي الوجود الشيعي من التهجير والتسفير. الدرس الخامس، هو أن لبنان كيان يحتمل أن يؤول إلى التفكك في حال اختلال التوازن فيه. الدرس الأخير، خطورة النزاع الأهلي على المقاومة رغم تنامي قوتها العسكرية والسياسية.
هادي قبيسي – الاخبار