كل ما يدور حولنا يفيض بالمرارة، ويحرّك ثورة غضب صامتة ونخوة كرامة وطنية في أي إنسان طبيعي يشعر بمهانة أن يصل حال البلاد إلى درك انهيار سحيق، لم يكن قدرا محتوما، بنتيجة نهج سياسي اقتصادي مالي، وشَرَه لصوصي فاجر ميّز النخب التي انساقت على عماها خلف التبعية للغرب الاستعماري وهيمنته اللصوصية، فأدمنت التعيّش على فتات العمولات بروح التكسب والارتهان النفعي، وخربت وعطلت كثيرا من فرص النمو على قاعدة الاستقلال والشراكات المجزية والمفيدة عربيا ودوليا، وها هي الحصيلة بعد الخراب الكبير الذي يغرق لبنان، فقد تحوّل المسؤولون إلى التسوّل باسم لبنان وشعبه العزيز المهان بذلّ السؤال، ومعونات تافهة، لا تمثّل شيئا مما يمكن أن تعود به من ربح وفير أي خطة وطنية للتنمية، تكسر قيود الكساح، وتخلع روّاد التسول المذلّ من مواقع المسؤولية.
أولا: ليس مشرّفا لأيّ لبناني طبيعي أن ينتظر الجيش الوطني معونة خارجية لضمان انتظام الرواتب والتموين. وكيف يصون الجيش ولاءه الوطني إذا كان مدينا لأي جهة خارجية برواتبه وتموينه اليومي جنودا وضباطا ورتباء ؟ وهل يمكن قبول هذا الانحطاط الخطير وما فيه من مذلّة وانخلاع وانعكاسات على مفهوم السيادة؟ وهل يصحّ مثل هذا الواقع في جمهورية، أم يجدر بما هو أحط من مستعمرة تافهة وهيكل دولة مخلعة ؟ ألا يشعر أيّ مسؤول في أيّ موقع كان بصفع الإهانة على خشمه عندما يقرأ ويطالع التقارير والأخبار عن هذا الموضوع؟.
ألا يرف جفن لأيّ من السادة وهم يتربّعون على هيكل دولة، يجعلون جيشها في حالة جوع وفاقة، يستعطي الرواتب والتموين من الولايات المتحدة الدولة الداعمة للعدو الصهيوني، التي تمنّن جيشنا وجمهوريتنا الكسيحة البائسة العاجزة برواتب عسكرنا و”القروانة”، وتغدق من خزائنها المليارات على عدونا الأول وترسانته المكرّسة لقتلنا وتخريب بلادنا وإحراق صروح عمرانها؟.
ثانيا: الغريب العجيب أن يمرّ هذا المشهد ولا يلتفت أيّ مسؤول أو يرفّ جفنه إلى الدرك المفجع الذي انحدرنا إليه. وهل أخطر من أن يخشى كل مواطن أو جندي في لبنان من جوع داهم لعائلته وأهله، بينما يستمرّ السجال البيزنطي دون توقف، فلا تخفت السجالات، ولا نقرأ كلاما لمسؤول في أيّ موقع يقرع جرسا أو يخترع فكرة مفيدة. وحين يتصل الأمر بـ”شنشول” المنافع والمكاسب، كنا نشهد تفتّق عبقرياتهم بالاقتراحات والاختراعات وأخرجوا من جيوبهم على طريقة السحرة كل ما لم يخطر على بال الناس يوما من بهلوانيات السياسة والمال والصفقات، وما من أحد منهم اليوم يقرع جرس الخطر أو يجود غلينا بفكرة مفيدة يقدح بها زناد عبقريته الرشيدة لينبّه ويحذر مما نحن منزلقون فيه من مهانة وخراب بعيون مفتوحة وألسنة متدلية.
بل إننا وبراحة ضمر وافرة نجزم بأن بعض ساستنا الأشاوس باشروا الاتصال بمشغليهم وسماسرتهم ليقطفوا غنيمة عمولة على بيع كسر البلد وركامه، ويستحضرون شطارة فينيقيا في بيع الخراب العظيم وهيكل البلد المتهتك، بعدما خربوه ونتفوا ريشه، ونهشوا لحمه، وطحنوا عظامه، والناس في سكرتهم غافلون بمحض إرادتهم في استلاب مشين.
ثالثا: لا ندعو اللبناني العادي إلى اتقان التفكير في خطة إنقاذ، قد تعصى على بعض الفطاحل المنتفخين بالادعاء الفارغ، حتى لو احتشدت الشهادات الأجنبية خلفهم على جدران المكاتب، ولكن ماذا يفعل الحشد الوطني التحرّري، الذي يضم كثيرا من الخبراء والمثقفين القادرين على الابتكار، ولديهم أدوات معرفية وتقنية متعددة في معاينة أزمتنا واستشراف الحلول والخيارات، التي تتطلّب معرفة ودراسة لواقعنا الملموس، وبحثا عن عِبر التجارب المشابهة في العالم، وفرص ابتكار وصفات عينية تناسب بلدنا بتوظيف بعض الخيال وحس المغامرة والتحدي والاستعداد للكفاح في سبيل الشعب والوطن وقهر المصاعب. وهذا ما شكّل عبر تاريخنا محرّك الخلق في سيرة أجيال لبنانية خاضت مغامرات مشهودة في الوطن والمهجر، وحققت إنجازات مبهرة.
إن حجم التحدي وطبيعته يوجبان عملا وطنيا جذريا تلتقي عليه إرادة حشد لبناني سياسي وشعبي للإنقاذ وإعادة البناء الوطني بعد إنجاز وقف الكارثة ومنع تماديها. وهذا يفترض أوسع نقاش فكري سياسي ثقافي في الخيارات الممكنة على مستوى المجتمع، والتحرّر من عبودية الهياكل القائمة في الواقع السياسي وقيود التحرّك من خلالها. ومن هنا أعتبر أن تحريك الحوارات عبر وسائل الإعلام كافة في الوطن والمغتربات، واستدراج الاقتراحات والأفكار المبتكرة حول كيفية تنمية واستثمار الفرص والإمكانات الكامنة في بلدنا، هي الوصفة المناسبة لحوارات مفيدة وبناءة. ويقينا هي أجدى من النحيب والبكاء على أطلال بلد لم نلتقط فرص إحيائه وتنمية قدراته واستثمار المزايا والكفاءات الوطنية الوافرة.
غالب قنديل – وكالة أخبار الشرق الجديد