المقدمة
عقد مجلس الأمن الدولي، يوم الاثنين الموافق 31 يناير/كانون الثاني 2022، جلسة مفتوحة تحت بند التهديدات للسلم والأمن الدوليين؛ لمناقشة التوتر بين أوكرانيا وروسيا، جاءت هذه الجلسة لمناقشة التصعيدات الروسية المتمثلة في حشد قوات عسكرية بالقرب من الحدود الأوكرانية، وهو ما رأت فيه الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاؤها الغربيون خطوة قد تفضي إلى التدخل في أوكرانيا على غرار ما حدث في جورجيا في 2008، وهي اتهامات عدَّها المندوب الروسي في الأمم المتحدة، فاسيلي نيبنزيا، خطيرة ولا دليل عليها، مشيراً إلى تنفيذ عمليات انتشار مماثلة سابقاً داخل الأراضي الروسية دون التسبب بإحداث مخاوف أو تهديدات.
تتهم الولايات المتحدة ودول غربية وأوكرانيا، روسيا بنشر نحو 100 ألف جندي، وأعداد كبيرة من الآليات، ومنظومات صاروخية بينها منظومة إس-400 (S-400) قرب حدود جارتها الغربية استعداداً لمهاجمتها. غير أن موسكو تؤكد أن هذه المخاوف ترتبط بالدعاية الغربية، وفي الوقت نفسه تتهم كييف بالتحضير لعملية عسكرية ضد الانفصاليين الموالين لموسكو في إقليم دونباس (شرقي أوكرانيا).
يبحث تقدير الموقف في دوافع التصعيد الروسي في أوكرانيا، وما إمكانية احتواء هذه التصعيدات عن طريق المفاوضات؟ وما إمكانية أن تنخرط روسيا والولايات المتحدة وحلفاؤها في حرب مباشرة؟
دوافع التصعيد الروسي
يربط بين كلٍّ من روسيا وأكرانيا خلفية ثقافية تمتد لمئات السنين، كما تشتركان في روابط لغوية وعرقية، وتعد أوكرانيا ثاني أقوى جمهورية سوفييتية بعد روسيا؛ إذ كان لها أهمية استراتيجية واقتصادية وثقافية. ومنذ انفصالها عن الاتحاد السوفييتي تنافست كل من روسيا والغرب لتحقيق نفوذ أكبر في البلاد من أجل الحفاظ على ميزان القوى في المنطقة لمصالحهما، وقد عُدَّ نجاح روسيا في احتلال شبه جزيرة القرم، وضمها لاحقاً إلى روسيا، تفوقاً بحرياً في المنطقة، كما رفع من شعبية الرئيس فلاديمير بوتين داخل روسيا. ورغم إدانته دولياً، وفرض عقوبات قاسية على موسكو من قبل الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، واصلت روسيا سياستها الهجومية، إذ عدَّت الحشد والتأهب العسكري الأوكراني ضد الانفصاليين الموالين لها في إقليم دونباس تهديداً مباشراً لحدودها. ومن هنا زاد التصعيد الروسي الذي يعد جزءاً من “سياسة حافة الهاوية” التي تتبعها روسيا لتحقيق مجموعة من الأهداف الاستراتيجية، التي على رأسها:
رغبتها في استعادة مكانتها الدولية
ابتدأت أزمة العزلة الروسية بعد تفكك الاتحاد السوفييتي عقب انتهاء الحرب الباردة، إذ تفردت الولايات المتحدة في بناء نظام عالمي جديد يراعي مصالحها خاصة. وللحفاظ على هذه المصالح عمدت إلى تعزيز مركزية حلف الناتو في ضمان أمن ومصالح الغرب، مع تهميش المصالح الروسية في المنطقة على اعتبار أنها دولة أصبحت آيلة للتضاؤل.
لكن الوضع اختلف جذرياً في العقد الأخير، خصوصاً بعد أن تبنت روسيا- بقيادة بوتين- مقاربة جديدة لا تسعى إلى التقارب مع المصالح الغربية، بل تعدها عدواً ومهددة للمصالح الاستراتيجية الروسية، ومن هنا تقرأ أي تحركات من قبل الدول المجاورة لها للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي أو الناتو على أنها تهديد مباشر للمصالح الروسية الاستراتيجية.
التصعيد الروسي في الوقت الراهن لا ينبع من فراغ، وإنما ثمة عوامل أسهمت في تعزيزه، فمن جهة تحسن الوضع الاقتصادي لروسيا، كما أنها تمتعت في السنوات الأخيرة باستقرار سياسي في ظل امتلاك قيادتها الإرادة السياسية والدعم الشعبي المتمثل بتولي الرئيس فلاديمير بوتين زمام القيادة. وقد عاصر بوتين خمسة رؤساء أمريكيين، ويدرك الأزمة التي تعانيها الولايات المتحدة في الوقت الراهن، فمن جهة تعاني من انقسامات داخلية، ومن جهة أخرى تعاني من انسحابات عسكرية من “ساحات القتال” التي خاضتها مطلع الألفية الجديدة، كل هذه العوامل تخلق فرصة مواتية لروسيا لتعيد تموضعها في مجالها الحيوي جيوسياسياً وعالمياً.
تطبيق سياسة منع الانتشار ووقف توسع الناتو شرقاً
تطبيق سياسة منع الانتشار ووقف توسع الناتو شرقاً جاء على رأس أولويات المطالب الروسية لوقف تصعيدها في أوكرانيا، إذ تعد روسيا توسع الناتو شرقاً تهديداً أمنياً صريحاً ينبغي مجابهته. رغبة الناتو في التوسع شرقاً وضم أوكرانيا يأتي ضمن استراتيجية غربية تهدف إلى احتواء التهديدات الروسية المحتملة، فقد عمل الناتو على توسيع نفوذه في 4 موجات من انضمام دول أوروبا الشرقية للحلف حدثت كلها خلال عهد بوتين، تمثلت في ضم دول البلطيق وسلوفاكيا وسلوفينيا ورومانيا وبلغاريا عام 2004، وكرواتيا وألبانيا عام 2009، والجبل الأسود عام 2017، ومقدونيا الشمالية عام 2020.
لم يكن بمقدور روسيا في ذلك الوقت صد هذه الموجات، لكنها أصبحت تشعر الآن أن الفرصة أمامها متاحة لتحسين موقفها في حدودها الغربية، وعدم السماح للولايات المتحدة الأمريكية بتطويقها وإخضاعها لمعادلة الأمن الغربي على حسابها. ومن هنا حددت روسيا مجالها الحيوي ليشمل حدود ما بعد الاتحاد السوفييتي، وبنت في سبيل ذلك استراتيجيتها القائمة على “منع نشوء بيئة معادية في مجالها الحيوي”، وما يعنيه ذلك من ضرورة أن يتخلى جيرانها في شرق أوروبا عن أفكار الانضمام لحلف الناتو والاتحاد الأوروبي. ويعد الغزو الروسي لجورجيا عام 2008 لحظة فارقة في التعبير عن التوجهات الروسية الجديدة، وهو ما يخشى الغرب من تكرره في أوكرانيا التي لها مكانة خاصة أمنياً بالنسبة لروسيا.
دوافع الناتو في مواجهة التهديد الروسي
في 12 يناير/كانون الثاني 2022 عقد اجتماع بين مجلس الناتو وروسيا، في العاصمة البلجيكية بروكسل، بهدف مناقشة قضايا عدة، منها الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا، وشارك فيه كل من الأمين العام للناتو ينس ستولتنبرغ، ووزير الخارجية ألكسندر غروشكو، ووزير الدفاع ألكسندر فومين عن الجانب الروسي. وكان الأمين العام للناتو قد حذر روسيا مسبقاً من “كلفة عالية” ستتكبدها في حال شنت هجوماً جديداً على أوكرانيا، مؤكداً دعم الحلف لـ”حق أوكرانيا في الدفاع عن نفسها”.
ويأتي دفاع الناتو عن أوكرانيا متوافقاً مع الاستراتيجية الأمنية التي تتبناها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إذ تعد أوكرانيا- بالنسبة لهم- منطقة عازلة حاسمة بين روسيا والغرب. ومع تصاعد التوترات مع روسيا، تصمم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بشكل متزايد على إبعاد أوكرانيا عن السيطرة الروسية. ومن هنا استمرت الجهود المبذولة لإدخال أوكرانيا في حلف الناتو منذ سنوات عديدة ويبدو أنها تسارعت وتيرتها مؤخراً.
الجهود الدولية لوقف التصعيد الروسي
تمتلك روسيا أوراق ضغط عدة مؤثرة في الأزمة الأوكرانية، تتمثل هذه الأوراق في تعدد مطالبها المقدمة للغرب والناتو، وعلى رأسها وقف سياسة الانتشار وتوسع الناتو. تعدد هذه المطالب يعطيها فرصة لتناور أكثر وتحقق الأهداف التي تسعى إليها. كما أن قدراتها العسكرية التي تطورت خلال العقود الأخيرة، والعقيدة العسكرية الصارمة التي يتبناها الكرملين حالياً، تثير لدى الأطراف الدولية القلق حيال أي خطوة يمكن أن تتخذها روسيا، ومن هنا تفهم سياسة الاستنكار والاحتشاد الأمريكي والأوروبي في الصف الأوكراني ضد الروسي.
فعلى الرغم من نفي روسيا لمزاعم التهديدات التي وجهت لتحركاتها العسكرية على الحدود الأوكرانية، تدرك الولايات المتحدة والدول الغربية أن مسألة اندلاع مواجهات مباشرة في أوكرانيا هو أمر وارد، خصوصاً أن لروسيا تجارب سابقة في عدم الخضوع للعقوبات والتهديدات الغربية، لا سيما إذا تعلق الأمر بالمصالح الروسية، وعليه فإنها حريصة كل الحرص على اتخاذ كل الإجراءات التي من شأنها أن تمنع إمكانية اندلاع صراع في أوكرانيا، ومن أجل تحقيق هذا الهدف تتبنى هذه الدول مجموعة من الوسائل الهادفة لمنع روسيا من المضي في خططها، ومن هذه الوسائل:
تفعيل الجهود الدبلوماسية
تعد الحلول الدبلوماسية هي الأقل تكلفة في التعامل مع القضايا الحساسة، لكن هذه الحلول عادة ما تصل إلى طريق مسدود، وهو ما حدث في المفاوضات التي جمعت بين الجانبين الروسي والأمريكي، حيث لم تنجح المحادثات الروسية مع حلف شمال الأطلسي (ناتو) (NATO) التي جرت في بروكسل في 11 يناير/كانون الثاني 2022. كما لم تسفر جولات الحوار التي جمعت وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف ونظيره الأمريكي أنتوني بلينكن في جنيف- في 21 من نفس الشهر- عن اختراق مهم حول مجمل القضايا المطروحة بين الجانبين، وعلى رأسها الأزمة الأوكرانية، خصوصاً أن الجانب الروسي لم يرض عن الرد المكتوب الذي قدمه الجانب الأمريكي بشأن مقترحاتها حول توسع الناتو شرقا؛ إذ قال وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إن رد حلف الناتو على الضمانات الأمنية التي طلبتها بلاده كان رداً “أيديولوجياً”.
وعلى الرغم من حالة الاحتشاد التي تنبئ عن إمكانية حدوث صراع وشيك، يبقى الخيار الدبلوماسي مفتوحاً من أجل تجنب الكلفة الأكبر المترتبة على حدوث الحرب، ومن هنا تتواصل الجهود والحراك الدبلوماسي لمنع حرب محتملة بين أوكرانيا وروسيا. فمن المقرر أن يتوجه وزيرا الخارجية والدفاع البريطانيان، ليز تروس وبن والاس، إلى موسكو لإجراء محادثات مع نظيريهما الروسيين. كما أعلن كل من وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك أنهما سيزوران كييف يومي السابع والثامن من فبراير/شباط المقبل.
تفعيل العقوبات الاقتصادية
وإلى جانب الجهود الدبلوماسية تأتي العقوبات الاقتصادية بوصفها إحدى الوسائل المستخدمة من أجل احتواء التهديد الروسي، وهناك سلسلة من العقوبات الاقتصادية التي قد تفرض على روسيا في حال رفضت الاستجابة للجهود الدبلوماسية، حيث أعلنت المتحدثة باسم البيت الأبيض، جين ساكي، أن واشنطن أعدت عقوبات تستهدف أشخاصاً ينتمون إلى الدائرة المقربة من الكرملين ولهم علاقات مالية وثيقة مع دول غربية. ستطبق هذه العقوبة في حال أقدمت روسيا على غزو أوكرانيا. من جهته أشار رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ الأمريكي، بوب مينينديز، إلى مشروعي قانون يستهدفان فرض “عقوبات ضخمة” على أكبر البنوك الروسية. كما قد تشمل هذه العقوبات الاقتصادية فرض قيود على قطاع الطاقة الروسي الذي يعدّ أحد أعمدة الاقتصاد الروسي، ثم يليها في الخيارات فرض قيود مالية واستبعاد روسيا من نظام التحويل المعروف بـ”سويفت”، وهو ما سيجعل من الصعب على البنوك الروسية القيام بأعمال تجارية مع الخارج.
بالإضافة إلى إمكان منع روسيا من التعامل بالدولار الأمريكي، وهو ما سيؤثر على عمليات بيع النفط والغاز؛ حيث يمثل الغاز الروسي على سبيل المثال أكثر من 40% من الواردات الأوروبية. ومن بين الخيارات المتداولة فرض عقوبات على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نفسه، وهو خيار ردّت عليه موسكو بالتحذير من أن يؤدي إلى ما سمته آثاراً مدمرة.
من جهتها أعلنت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تروس، أن الحكومة ستقدم مشروع قانون جديداً يرمي إلى تشديد حزمة العقوبات الاقتصادية التي يمكن للندن أن تفرضها على روسيا إذا هاجمت أوكرانيا، تشمل هذه العقوبات حجز الممتلكات الروسية في بريطانيا، وتجميد الأصول، الذي قد يشمل شركات النفط الروسية لكونها مصدراً رئيسياً لعائدات الكرملين، وحظر السفر على الأفراد والمؤسسات الروسية ذات الأهمية الاستراتيجية، وهو ما اعتبره المتحدث باسم الرئاسة الروسية (الكرملين)، ديمتري بيسكوف، أنه يمثل بادرة خطيرة تهدد الأعمال الدولية، وأن موسكو سترد على العقوبات البريطانية عند اتخاذها.
سيناريوهات المشهد الروسي- الأوكراني
تتدرج روسيا في مطالبها وفقاً للأهداف التي تسعى إلى تحقيقها، إذ يلاحظ أنها على الرغم من قدراتها العسكرية حريصة على المضي في الجهود الدبلوماسية، ويتضح ذلك من خلال الأوراق الكثيرة التي تحركها من أجل تحقيق أهدافها، وتأتي احتمالية غزو أوكرانيا ضمن تلك الأوراق التي تستخدمها موسكو من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية.
إمكانيات المفاوضات
ضمن سياسة تأمين وجودها جيوسياسياً تحرص موسكو على منع توسع الناتو في مجالها الحيوي، ويأتي تقارب أوكرانيا مع الناتو ضمن هذه التهديدات التي تسعى موسكو إلى احتوائها، ويعد مطلبها بسحب جميع البنية التحتية العسكرية وعودة الوضع إلى ما قبل عام 1997- بانسحاب دول شرق أوروبا التي انضمت إلى الناتو- المطلب الوحيد عالي السقف الذي قد يكون وضعه على الطاولة كورقة للتفاوض، بحيث يمكن التراجع عنه لاحقاً، وهو ما يدل على استعداد موسكو لتقديم تنازلات، ورغبتها باستمرار المفاوضات لكن وفق رؤيتها واستراتيجيتها، وتأتي مطالبتها بعدم ضم أوكرانيا إلى الناتو مطلباً يمكن تحقيقه عن طريق المفاوضات. إذ نجحت روسيا في إجبار الولايات المتحدة على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، ومن ثم تمكنت من تقديم مسودة معاهدة واتفاقية تحدد مطالب روسيا من الغرب بشأن مسألة الأمن الأوروبي، وهو ما قد يدفع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها لتقديم تنازلات على غرار عدم قبول عضوية أوكرانيا في الناتو.
يعزز إمكانية المضي والاستمرار بالمفاوضات التكلفة الباهظة المترتبة على الدخول في مواجهة مع روسيا، خصوصاً أنها بلغت حداً بعيداً من التطور العسكري، لكونها قادرة على تحريك صواريخ تزيركون (Tsirkon) التي تفوق سرعتها سرعة الصوت صوب السواحل الأمريكية، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية وحلفاءها الغربيين ليسوا مستعدين لتحمل مسؤولية الدفاع العسكري عن حلفائهم؛ أوكرانيا وجورجيا، ومن غير المرجح أن يتغير ذلك.
بالإضافة إلى ذلك يعد حضور الناتو في أوكرانيا في شكل أسلحة هجومية، وقواعد عسكرية، ومستشارين عسكريين، وإمدادات أسلحة، غير مهم، إذ تمتلك الولايات المتحدة قدرات عسكرية في إطار الدرع الصاروخي حول روسيا، وحاملات الطائرات كفيلة باستغنائها عن وجود مباشر في أوكرانيا. لكن بالمقابل سيكون من الصعب الاتفاق على إنهاء التعاون العسكري والتكنولوجي العسكري بين أوكرانيا والولايات المتحدة والناتو. كما تسعى موسكو إلى الاتفاق على القيود المفروضة على طبيعة الأسلحة التي يمد الغرب بها كييف، وهو سقف قد يكون مقبولاً لروسيا.
احتمالات المواجهة
على الرغم من أن سيناريو المفاوضات يبدو الأرجح فإن احتمالات حدوث مواجهة هو أمر وارد في ظل حالة الاحتشاد الروسي من جانب، والأوكراني من جانب آخر، غير أن تكلفة هذا السيناريو هي الأكبر، ولذا يحاول الجميع تجنبه. لكن ينبغي الأخذ في الحسبان أن فرص تنفيذ الولايات المتحدة لمطالب روسيا بالشكل والإطار الزمني اللذين حددتهما موسكو لن يكون وارداً؛ لتكلفتهما السياسية والأمنية، لكن تبقى احتمالية الاتفاق من الناحية النظرية حيال عدم التوسع وعدم الانتشار ممكنة، غير أنها ستكون ذات طابع سياسي، وليست ملزمة قانوناً، نظراً لتعقيدات المشهد الداخلي الأمريكي، ورغبة الولايات المتحدة في تجنب الخلاف داخل المعسكر الغربي.
وفي حال لم تنجح الجهود الدبلوماسية والمفاوضات ستكسب موسكو في الحالتين؛ فسياستها القائمة حالياً تهدف إلى ترسيخ مخاوفها الأمنية في أوروبا، والتي أصبحت واضحة أكثر بالنسبة للدول الغربية، وهو ما يتطلب منها أن تتعامل بحذر مع هذه الحقيقة، فموسكو لن تمانع في الاشتراك في المفاوضات من أجل حماية استراتيجياتها السياسية في أوروبا، لكن في حال لم تتمكن من تحقيق أهدافها بالوسائل الدبلوماسية، فستحتاج إلى اللجوء إلى أدوات وأساليب أخرى تعتمد أساساً على استخدام القوة العسكرية.
خاتمة
انطلاقاً من الدوافع والأهداف التي تضبط تحركاتها ميدانياً، يتضح أن روسيا مستعدة لتبني مختلف الاستراتيجيات ولاستخدام مختلف الأساليب من أجل تحقيق هذه الأهداف، صحيح أنها منفتحة على خيارات المفاوضات، لكنها في الوقت نفسه قادرة على استخدام قدراتها العسكرية إن لزم الأمر. وبناءً على تعقد فهم السياسة الروسية في ظل حكم بوتين من جهة، وتعقد المشهد السياسي في أوروبا الشرقية، من جهة أخرى، لا يمكن التنبؤ بالموقف الروسي حيال الأزمة الأوكرانية، إذ قد تستجيب موسكو لجهود المفاوضات وتسحب جنودها، أو تكتفي بإرسال إشارات واضحة لحلف الناتو وواشنطن، أو قد تفاجئ الجميع بغزو أوكرانيا في توقيت تراه مناسباً، ويبقى السؤال حول مدى استعداد واشنطن وحلفائها لتحمل النتائج في حال أقدمت روسيا على حرب حقيقية؟
مركز الفكر الاستراتيجي للدراسات