نيوم: أول مستعمرة إسرائيلية في العالم العربي

إلّا أنّ بن سلمان لا يمتلك القدرات اللازمة لتنفيذ مخطّطات “المدينة الذكية” دون دعم مالي وتقنيٍّ خارجيّ، تعجز السعودية عن استقطابه. فقرّر ولي العهد، فتح باب الاستثمار أمام الشركات التكنولوجية والرقمية الإسرائيلية، مع إصراره على بقاء التعاون سريًّا في الوقت الحالي.

أيّ أنّ “إسرائيل ستكون بمثابة الركيزة الأساسية في قيام المدينة الذكية” التي ستصبح ـ نتيجة التغلغل الصهيوني فيها ـ أول مستعمرةٍ صهيونيةٍ في العالم العربي، خصوصًا مع مرحلة التطبيع الجاري على قدم وساق.

أما على الصعيد الرقمي، فاستثمار الشركات الإسرائيلية في مشروع نيوم، سيتيح لها السيطرة والتحكم بمفاصل هذه المدينة، كون جميع المعلومات ستصبّ في نهاية المطاف في قاعدة بيانات تُدار من قلب “إسرائيل” ما سيمنحها نفوذًا استخباريًا أمنيًا هائلًا.

هذا وتقوم “إسرائيل” بإنشاء ميناء إيلات التجاري، وتحديث ميناء أشدود وعسقلان لتبدو مشاريعًا “مكمّلةً لنيوم”، باعتبارأنّ المنافع ستكون مشتركة نظرًا لقربها من الأسواق العالمية.

والجدير بالذكر أن هذه الدراسة الصادرة عن مركز باحث للدراسات الاستراتيجية من إعداد د.علي دريج، أشارت إلى أنّ “بناء هذه المدينة سيتم على حساب حقوق أبناء القبائل التي سكنت المنطقة منذ أكثر من 800 عام، إذ تسعى الحكومة السعودية إلى نقل أكثر من 30 ألف شخص -من سكّان المنطقة- لبناء مشروع نيوم الجديد”.

تفاصيل الدراسة:

على الرغم من التحديات السياسية والمالية الحادة، وتولّي إدارة جديدة مقاليد السلطة في أميركا، وتصاعد جائحة كورونا وما تركته من أثر اقتصادي سلبي على السعودية، فضلًا عن فتح ملف مقتل الخاشقجي من جديد وتحميل بن سلمان مسؤولية هذه الجريمة، لم يتغير الواقع بأن “نيوم” لا تزال مركزية في رؤية ولي العهد محمد بن سلمان لتحوّل السعودية 2030.

وقد أطلق بن سلمان، في شباط 2021، مشروع مدينة مليونية، باسم “ذا لاين”، وهي تقع ضمن مدينة “نيوم”، والتي قال “إنها ستكون صديقة للبيئة” وتضم مجتمعات ادراكية معززة ومرتبطة بالذكاء الاصطناعي، كدليل على أن بن سلمان ماضٍ وبإصرار على تنفيذ خططه فيما يتعلق بـ “نيوم”، بالرغم من التعثر الذي واجهته.

وإذا كان بن سلمان لا يزال يتريث، حتى تاريخ كتابة هذه السطور، في الالتحاق بقطار التطبيع مع كيان الاحتلال في فلسطين لأسباب تتعلق بموقع السعودية المعنوي وما تشكله من مرجعية للكثير من المسلمين، فإن الاستثمارات الأجنبية التي يراهن عليها بن سلمان لنجاح رؤيته، ستدفعه للعمل وفق استراتيجية التطبيع السري الجار منذ عقود بين “إسرائيل” والسعودية؛ وسيشكّل بالتالي مدخلًا لتغلغل الشركات الإسرائيلية، واستغلال حاجة بن سلمان لهذه الاستثمارات، وخصوصًا على الصعيد التكنولوجي (التي ستتميز بها مدينة نيوم)؛ وهو ما بدأ بالتحقق من خلال إعلان العديد من الشركات الإسرائيلية عن رغبتها في العمل والمساهمة في إنجاز هذه المدينة الرائدة.

أولًا: دلالات لقاء بن سلمان-نتنياهو في “نيوم”

حتى قبل أن يجف حبر محضر اللقاء السري الذي جمع في 27 تشرين الثاني 2020 كلًا من: رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، مدير الموساد يوسي كوهين، ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو، في مدينة نيوم السعودية الساحلية على البحر الأحمر، أتى اغتيال رئيس منظمة البحث والتطوير في وزارة الدفاع الإيرانية، محسن فخري زادة، ليصبّ الزيت على النار في منطقة تنتظر شرارة الانفجار، وليطرح عددًا من الأسئلة حول سر اختبار هذه المدينة التي ضج باسمها العالم حتى قبل أن تظهر إلى حيّز الوجود، وموقعها في مسيرة التطبيع الناشطة، وحجم النفوذ الإسرائيلي المتوقع في هذه المدينة، والذي بدأت تباشيره تلوح في الأفق حتى قبل أن تولد، ومن المرجح أن يتمدد بشكل كبير!

في الواقع، لا يمكن فصل الزيارة -التي لم تتكشف بعد دوافعها، وإن كان الأمر لا يحتاج إلى التنبؤ بأن إيران كانت الحاضر الأبرز- ورمزية المكان والإشارات التي حملها الاجتماع عن أهدافها الحقيقية.

أولًا: وفقًا للرواية الرسمية للزيارة، أن نتنياهو سافر إلى السعودية على متن طائرة خاصة يملكها رجل أعمال إسرائيلي.

ثانيًا: لا يمكن المرور مرور الكرام على عبارة (رجل أعمال)، دون استبعاد فرضية أن علاقته بهكذا اجتماع بالغ الأهمية، وصفته وسائل اعلام إسرائيلية بأنه “بريق من التاريخ يسطع”، ليست مقتصرة على مسألة وضع طائرة بتصرف نتنياهو؛ بل لا يستبعد أن يكون من المساهمين في ترتيبه، خصوصًا وأن العلاقات التجارية السرية بين المملكة وتل أبيب، والتي قطعت أشواطًا كبيرة وسبقت التواصل السياسي، كان عرّابوها غالبًا من رجال الأعمال بالدرجة الأولى، وزياراتهم إلى السعودية (وإن بجوازات سفر غربية وأجنبية) قائمة على قدمً وساق.

أما الأهم، فهو يأتي في سياق اعتراف عملي من العواصم الخليجية، وفي مقدمتها الرياض وأبو ظبي، بفوائد الروابط الأمنية والتكنولوجية والاقتصادية مع “إسرائيل” القوية التي لا يمكن تجاوزها ليس فقط لمصلحتهم، بل بسبب الموافقة الأمريكية (السياسية والأمنية والعسكرية) التي تجلبها لتثبيت دعائم حكام مشيخات الخليج وكراسيهم، وأولهم ولي العهد بن سلمان، إضافة إلى مواجهة إيران، الهاجس الأكبر لهذه الدول.

  • مراعاة المصالح الإسرائيلية وانطلاق “نيوم”

انطلاقًا من علاقة “السيد والعبد” بين أميركا والسعودية، والمحكومة بالمصلحة الإسرائيلية التي تتقدّم على أي اعتبار آخر، من الطبيعي أن تشكّل مراعاة المصالح الإسرائيلية عاملًا حاسمًا في انطلاقة هذا المشروع، المتعلّق بمستقبل النظام الملكي السعودي، وبالتحديد حكم MBS، الذي من المشكوك فيه أن يستمر في تلقّي المساعدة (الأميركية) بدون دعم “أبياك” (مجموعة الضغط الرئيسية المؤيدة لإسرائيل) والمنظمات اليهودية، بحسب إيران ليرمان، النائب السابق لرئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي. وفي الخانة ذاتها نضع قول دبلوماسي إسرائيلي إنّ “عرب الخليج عمومًا يعتقدون أنّه يمكن لإسرائيل أن تفعل السحر”.

  • إلزامية موافقة “إسرائيل” على “نيوم”

ما يدعم استنتاجنا بأن “إسرائيل” ستكون بمثابة الركيزة الأساسية في قيام المدينة الذكية، هو أنّه لا يمكن أن يتم هذا المشروع دون الحصول على موافقة الكيان الغاصب، لأنّه سيكون بمثابة جسر يربط مصر بالسعودية، ويجب أن يعبر إلزاميًا صحراء النقب [في “إسرائيل”]؛ وبالتالي هذا غير ممكن دون موافقتها.

  • التطبيع التكنولوجي السعودي- الإسرائيلي

ستحتاج السعودية لبناء مدينة ذكية بمليارات الدولارات، تعمل بالطاقة المتجددة وتديرها الروبوتات، إلى الخبرة التكنولوجية. وقد يكون من المستحيل الاعتماد كلًا على الشركات المحلية. وبالنسبة لإسرائيل، هذا هو المكان الذي يمكن للشركات الإسرائيلية أن تنفذ من خلاله، عبر أبرز روّاد وصانعي التطبيع على المستوى التكنولوجي بين إسرائيل ودول الخليج، لا سيما الإمارات، وهو المستثمر الإسرائيلي ماتي كوتشافي، الذي أدّى خدمته العسكرية في إحدى وحدات الاستخبارات؛ غير أنّ تشاطه الأبرز والأكثر أهميّة على الإطلاق يأتي في مجال المراقبة الإلكترونية.

وتوظّف شركاته (كوتشافي) العشرات من الضباط والمجندين السابقين، الذين عملوا سابقًا في مختلف وحدات الاستخبارات و”الشين بيت”، لتقديم الخدمات الأمنية الخاصة للعديد من العملاء.

بين عامي 2007 و2015، قامت “شركة كوتشافي” ببيع الإمارات خدمات أمنية بقيمة 6 مليار دولار لحقول النفط لديها، حيث لم تكن آبار النفط قبل هذه السنوات مؤمنة. كما قامت بتأسيس أحد أنظمة الدفاع الأكثر تكاملًا في العالم، إذ يحوي آلاف الكاميرات وأجهزة الاستشعار الممتدة على طول 620 ميلًا على الحدود الإماراتية؛ وتصبّ المعلومات التي يقوم بجمعها في قاعدة بيانات تسمّى “ويسدوم”، ويشرف عليها كوتشافي، وتدار من خلال إحدى أكبر شركاته من قلب إسرائيل، وهي شركة “لوجيك إنداستريز”، التي يرأس مجلس إدارتها عاموس ملكا، الرئيس السابق لجهاز الاستخبارات العسكرية (أمان).

عمليًا، لم يكن إشراك الشركات الإسرائيلية مشروع تطوير حضري كهذا، مجرد حديث في ممرات القوة السعودية. فلنعد إلى عدّة سنوات خلت، لنرى أنّ السحر الإسرائيلي فعل فعله مع الرياض، التي انخرطت بقوة في مسيرة التطبيع السرية مع الكيان الغاصب، وترجمت بالاتصالات السرية بين البلدين لضمان تسهيل ممارسة الأعمال التجارية.

  •  التطبيع لأمني السعودي- الإسرائيلي

تعامل السعوديون بهدوء مع الشركات الإسرائيلية، لا سيّما في المجال الأمني. ففي أعقاب الهجوم الإلكتروني الكبير على نظام الكمبيوتر الخاص بشركة أرامكو السعودية في عام 2012، واستعانة الرياض بترسانة من الشركات العالمية لإحباطه، كانت “إسرائيل” حاضرة بقوة عبر شركاتها المسجّلة في الخارج، وفقًا لتقرير لوكالة بلومبرغ في 2 شباط 2017.

ليس هذا فحسب، فقد أسهمت إحدى شركات المقاولات الإسرائيلية في تنفيذ سور (أمني) عالي التقنية، الذي شيّدته عام 2014 شركة الدفاع الأوروبية العملاقة EADS على طول الحدود بين السعودية والعراق، بحسب ما كشف أحد كبار المحاربين القدامى في مؤسسة الدفاع الإسرائيلية.

أكثر من ذلك، كشف تقرير لقناة i24 الإسرائيلية، في شباط 2017 عن قيام شموئيل بار، وهو أحد الإداريين في شركات تعمل في مجال الاستخبارات، بتقديم خدمات واسعة لقوات الأمن السعودية، تتمثل في رصد “إرهابيين مفترضين” عبر مواقع شبكات التواصل الاجتماعي.

ثانيًا- “نيوم وفرص الشركات الاستثمارية الإسرائيلية

لتقرير لرويترز نُشر عام 2017، عملت الحكومة السعودية والشركات الإسرائيلية في سرية تامة. وتمّ الاتفاق على أنّه “لا يمكن لأي شركة إسرائيلية الإعلان عن تفاصيل الاتصال بالصندوق السعودي (لمدينة نيوم الحصة الأكبر فيه)، الذي يمتلك أصولًا تحت الإدارة تبلغ قيمتها 230 مليار دولار، قد تستثمر جميعها في المشروع.

وفي الإطار ذاته، كشف تحقيق في صحيفة جيروزاليم بوست، في 25 تشرين الأوّل 2017، أنّ السعوديين كانوا متردّدين في “التعاون مع الإسرائيليين بشكل رسمي”. ولكن عندما يتعلّق الأمر بشركات رأس المال الاستثماري القادمة من القطاع الخاص، كانوا حريصين على العمل معهم من أجل “حلق جميع أنواع التعاون، لا سيّما في قطاعات: المياه والطاقة والتكنولوجيا الزراعية وتكنولوجيا الغذاء”.

كما ذكرت الصحيفة أن “عددًا من الشركات الإسرائيلية يتحدّث مع صندوق الاستثمارات العامة في السعودية حول تطوير 26500 كيلومتر مربع من “المدينة الذكية”.

كما أفادت صحيفة “واشنطن بوست” عن “مراسلات بين دبلوماسيين عرب ورجال أعمال إسرائيليين، تؤكّد أن المحادثات جارية حول التعاون الاقتصادي، وأنّ عددًا من الشركات الإسرائيلية تبيع بالفعل أدوات الأمن السيبراني للحكومة السعودية”.

ويجاهر القادة الصهاينة، بثقة مفرطة، أن الاستعانة بخدماتهم التكنولوجية في مشروع نيوم يعدّ من مقومات نجاحه. ففي كلمة لها أمام مؤتمر JOURNEY السنوي للأعمال في تل أبيب، في تشرين الأول 2017، تحدّثت خضو الكنيسيت السابق عن حزب العمل، ومؤسسة صندوق رأس المال الاستثماري في JVP، إيريل مارغاليت، عن الفرص الاقتصادية لإسرائيل في مشروع المدينة الذكية.

وأضافت مارغاليت، التي زارت في وقت سابق من نفس العام عددًا من دول الخليج لمناقشة التعاون الاقتصادي مع الدولة اليهودية: “حقيقة أنّ [الأمير بن] سلمان جاء بهذا الإعلان للدعوة إلى التعاون على المستوى الإقليمي من خلال مفهوم الابتكار حيث سيكون هذا أكبر دافع للتغيير في المنطقة”.

وتحدّثت مارغاليت أيضًا عن مشاريع البنية التحتية المشتركة المقترحة بين إسرائيل والأردن ومصر والمملكة السعودية، وتحديدًا بناء مطار يضم أربع محطات، مما يسمج للركاب بالنزول والسفر إلى أيٍّ من الدول الأربع”.

تقود هذه المخططات إلى نتيجة واحدة، وهي أن “نيوم” بالنسبة لإسرائيل هي أكبر من مجرد صفقات مالية وعلاقات تجارية وسلام اقتصادي؛ بل هي مصلحة إسرائيلية استراتيجية، لتكون بمثابة أول “مستعمرة إسرائيلية” في قلب العالم العربي، وفي أكثر الأماكن المقدّسة للمسلمين.

وفي هذا السياق، لفت تقرير نشره موقع TRTWORLD، في 17 آب 2020، إلى حساب تم التحقق منه على تويتر (في حزيران 2010) تابع للسفارة السعودية في واشنطن، قال في تغريدة إن “مجلس الوزراء السعودي وافق على تجنيد شركة الأمن السيبراني الإسرائيلية Check Point Software في نيوم؛ لكن ما لبث أن حذفت السفارة التغريدة.

وبناءً على هذه الوقائع والمعطيات، فإنّ “إسرائيل” ستكون حاضرة بقوة على المستوى الاستراتيجي في مشروع “نيوم”، والمقدّرة تكلفته بحوالي 500 مليار دولار؛ وهو يعدّ خطوة إضافيةً نحو مستقبل الإسرائيلي الذي بدأ يتكوّن مدفوعًا بالتطبيع المتسارع، مما سيفتح آفاقًا وأبوابًا لتل أبيب في تلك المنطقة، وسيعزّز مكانة “إسرائيل” ونفوذها، ويجعلها متسيّدة بكل معنى الكلمة، وفق معادلة “رابح رابح” على كافة المستويات.

ثالثًا- التغلغل الإسرائيلي المستقبلي بمدينة نيوم

إنّ حجم الاستثمارات الإسرائيلية التكنولوجية (الذكية)، التي تهيّئ لها تل أبيب في البنى التحتية للمشروع المذكور، والمفتوح كما هو ظاهر على مصراعيه أمام الشركات الإسرائيلية الرائدة والمتفوقة عالميًا على الصعيد الرقمي، سيتيح لها السيطرة والتحكم بمفاصل هذه المدينة، كون جميع المعلومات ستصبّ في نهاية المطاف في قاعدة بيانات تُدار من قلب “إسرائيل”؛ وبالتالي سيمنحها نفوذًا استخباريًا أمنيًا هائلًا؛ مضافًا إلى العنصر البشري الإسرائيلي (الخبراء والمهندسون والاستشاريون) الذين ستوكل إليهم بحكم وظائفهم إدارة المرافق الحيوية (الذكية) للمدينة، مما سيضخّم الحضور الإسرائيلي فيها تباعًا، وفقًا لمسار التحالف السعودي- الإسرائيلي الذي بات إعلانه مسألة وقت.

أمّا اقتصاديًا، فإنّ القرب الجغرافي لـ “نيوم” من مدينة إيلات التي تحدّها من جهة الشمال، ستستغلّه إسرائيل لمصلحتها إلى أبعد الحدود؛ وهو ما هيّأت له عبر خطط الحكومة الإسرائيلية لربط إيلات على البحر المتوسّط من بينها تل أبيب وحيفا وأشدود ومدن عربية لتقل الركاب والبضائع، ليكون بديلًا ومنافسًا قويًا لقناة السويس. كذلك، قامت “إسرائيل” بأكبر تطوير في قطاع النقل، وهو ما ترجم بالفعل في إنشاء ميناء إيلات التجاري، وتحديث ميناء أشدود وعسقلان. كما تعتزم إسرائيل إنشاء مطار دولي على طراز عالمي في إيلات ليخدم المنطقة، لتكون على غرار مدينة شرم الشيح.

وهنا لا يحتاج الأمر إلى تحليل معمّق للخروج بنتيجة مفادها أنّ هذه المشاريع والمخططات الإسرائيلية ستكون مكمّلة لـ “نيوم”، إذ ستكون المنافع مشتركة نظرًا لقربها من الأسواق العالمية ووقوعها على تخوم مسارات التجارة الدولية التي ستستقطبها تل أبيب وتقبض على مفاتيح مدينة “نيوم”.

كما أنّ الموقع الجغرافي لنيوم، التي تمتدّ على مساحة 26.5 ألف كلم، بين السعودية والأردن ومصر، وتمتعها بمناخ معتدل، سيجعل منها وجهة مفضلة للسياح بديلًا عن تركيا التي تُعرف بشتائها البارد؛ وربما يحرم مصر، ذات المناخ الحار الجاف، من هذا المردود؛ فضلًا عن أنّه سيقلّل من أهمية الموانئ المصرية مقارنة بميناء إيلات الفائق التطور.

رابعًا- تعثّر رؤية بن سلمان

فيما يتعلّق بمشاريع “رؤية 2030″، تُظهر نتائج السنوات القليلة الماضية تقدّمًا بطيئًا في تنفيذ مشاريعها. ولا يعود ذلك إلى تراجع إيرادات الدولة مع استرار انخفاض أسعار النفط وحسب، بل أيضًا إلى عزوف الاستثمارات الأجنبية عن الاستثمار المباشر في المملكة.

تكمن المشكلة في أنّ تنفيذ مشاريع الرؤية تحتاج إلى رؤوس أموال وخبرات أجنبية لا توفر السوق السعودية عناصر الجذب الكافية لها. ويعكس الأداء الضعيف والفشل في تنفيذ مشاريع الرؤية والإنفاق العام تراجع معدّل النمو الاقتصادي الفعلي إلى ما دون 1بالمئة، خلال السنوات الثلاث الماضية؛ إضافة إلى استمرار ارتفاع معدّل البطالة الرسمي إلى أكثر من 12 بالمئة، في حين أنّ المعدّل الفعلي أكثر من ذلك بكثير، وخاصةً في صفوف الشباب.

وعلى ضوء هذه النتائج غير المرضية، ذكرت وكالة “بلومبيرغ” للأنباء أن “ولي العهد محمد بن سلمان غير راض عن سير عملية تنفيد مشاريع الرؤية؛ وأن هناك حاجة لإعادة النظر فيها”. ويدل على عدم الرضى قول وزير المالية السعودي محمد الجدعان في تصريح للوكالة بأن “مراجعة الخطة تحري كل عام بناءٌ على المعطيات المستجدة”. ومن تبعات ذلك خفض البرامج والمشاريع ودمجها أو تعديلها إضافة إلى استبدال مجالس إدارتها. وهذا ما حصل مؤخراً في “شركة القدية للاستثمار)”، حيث تأخر إنجاز مشاريعها السياحية غرب العاصمة الرياض؛ وهو الأمر الذي دفع بن سلمان إلى التدخل شخصياً من أجل “تصحيح الوضع”، حسب مصادر إعلامية مقرّبة من الحكومة السعودية» ومن بينها صحيفة “سبق”.

تلقّت السعودية منذ إطلاق الرؤية ضربات قوية زعزعت الثقة بمستقبل الاستثمار فيها. وتمثل أبرزها أخيراً في الهجمات التي تعرضت لها شركة أرامكو النفطية في أيلول ،2019 والتي أدّت خلال دقائق إلى تعطيل نصف الإنتاج النفطي السعودي.

وقبل ذلك، تسببت جرعة اغتيال الصحفي السعودي خاشقجي بطريقة مروعة، بجعل صورة السعودية أكثر سوداوية وقتامة، لاسيما في عالمي السياسة والاقتصاد. وبما أن تنفيذ مشاريع الرؤية الطموحة يعتمد على الاستثمارات والخبرات الأجنبية بشكل كبير، فقد أصبح من غير الواقعي المراهنة على “رؤية 2030” بالشكل الذي تم فيه الإعلان عنها.

وقد أدّى القمع السياسي لبن سلمان؛ إلى جانب قتله لجمال خاشقجي، إلى حدوث توتر عد كبير وسط نخبة رجال الأعمال في نيويورك؛ وأكبر أباطرة هوليوود، وروّاد الأعمال في محال التكنولوجيا في وادي السيليكون، الذين كانوا استقبلوه سابقًا في واشنطن العاصمة في العام 2018، باعتباره مصلحًا شابًا يتوق إلى التعاون مع أمريكا لتحويل مملكته المتخلفة إلى دولة حديثة. لكنه بعد عام، لم يجرؤ على القدوم إلى أمريكا ثم انسحب أباطرة هوليوود، مثل أرييل إيمانويل، من خطط الاستثمار في السعودية. أنهى إمانويل استثمار شركته المخطط له بقيمة 400 مليون دولار في المملكة؛ في أوائل آذار 2019، على الرغم من استمرارالأمريكيين الآخرين بهدوء في اغتنام الفرصة لكسب المال في السعودية.

إن ما نشهده من مخاض لولادة العلاقات السعودية ‏ الإسرائيلية ما هو إلا تطبيق حرفي لنص وثيقة إسرائيلية أُقرّت في “مؤتمر هرتسيليا2014″، وأعدّها طاقم من كبار الباحثين الإسرائيليين في مجال قضايا الأمن القومي. وهي أوصت بتعزيز علاقات إسرائيل الإقليمية الحالية بأكبر قدر ممكن؛ من خلال إقامة علاقات رسمية أو غير رسمية مع دول الخليج، وعلى رأسها السعودية باعتبارها ركيزة أساسية في توجه إسرائيل نحو الدول العربية لتشكيل محال استراتيجي مشترك.

الجدير بالذكر أن بناء هذه المدينة سيتم على حساب حقوق أبناء القبائل التي سكنت المنطقة منذ أكثر من 800 عام؛ إذ تسعى الحكومة السعودية إلى نقل أكثر من 30 ألف شخص من قبيلة الحويطة لبناء مشروع نيوم الجديد؛ وهو ما يخشاه سكان المنطقة مُعتبرين التهجير بمثابة “تقطيع لأوصال مجتمع كامل”.

يحلم بن سلمان بجعل بلاده مركزاً للتكنولوجية المتقدمة في الشرق الأوسط. وهو يأمل أن فتح أبواب “نيوم” أمام الشركات الإسرائيلية سيزيد من فرص نجاحها بشكل كبير، حيث سيحظى عندها بدعم أميركي. غير أن الرياح لا تجري دائماً بما تشتهيه السفن.

فبعد حوالى خمس سنوات، يجد بن سلمان نفسه أمام ما يشبه أضغاث أحلام، حيث انقلبت الأوضاع رأساً على عقب؛ فبدلاً من بناء اقتصاد رقمي كما كان مخططاً، وجد بن سلمان نفسه أمام خلل تاريخي في الميزانية العامة بعد الانهيار غير المسبوق لأسعار النفط في سياق انتشار جائحة كورونا المستجد، إضافة إلى عدد من التحديات الداخلية التي لها علاقة بشرعية الحكم وبتوافقات الأسرة الحاكمة، والغضب الدولي المتزايد من حرب اليمن.

 وفي هذا الإطار، رأى خبراء ألمان أن “الأوضاع المالية الصعبة للمملكة؛ والانتهاكات الممنهجة لحقوق الإنسان فيها، والاحتقان داخل الأسرة الحاكمة، تجعل “رؤية 2030″ بن سلمان تبدو كسراب في الصحراء”.


د.علي دربج – مركز باحث للدراسات الاستراتيجية

السعوديةمحمد بن سلمان