انطلقت في بروكسل قمة حلف شمال الأطلسي المنتظرة بمشاركة زعماء وقادة ثلاثين دولة من دول الحلف، وعلى جدول أعمالها عدة ملفات مختلفة، أهمها مناقشة مستقبل الحلف ورسم خارطة طريق الناتو لمدة 10 أعوام، إلى جانب العلاقات مع روسيا والصين وتغير المناخ والتهديدات السيبرانية.
تضمنت القمة أيضًا، خطوة الترحيب بضيف الشرف الرئيس الأميركي جو بايدن كبديل مختلف عن سلفه دونالد ترامب، بعد أن أذاقهم الأخير الأمرَّين خلال فترة إدراته للبيت الأبيض، والذي كاد يطيح بحلف شمال الاطلسي دون أن ننسى الترحيب الحذر بضيف الشرف الآخر، غير الرئيس بايدن، والذي كانت الأنظار متوجهة اليه أكثر من غيره وهو الرئيس التركي رجب طيب اردوغان، نظرًا لسياساته المشاكسة لعدد غير قليل من دول الحلف، ولخلافاته التي لا تنتهي مع القسم الآخر من تلك الدول الأوروبية. وقد ظهر اردوغان كالابن الضال الذي عاد الى بيئته تائبًا، بعد أن صفحت عنه دول الحلف، شرط الالتزام بقراراته والتضامن مع الدول الاعضاء، بشكل عملي وفعلي وليس كلاميا فقط.
كما يبدو، ومع أهمية أغلب الملفات التي تمت مناقشتها، سوف يكون للاشتباك مع الصين وشد الهمة بمواجهتها، الحيز الأكبر من اجراءات ما بعد القمة مباشرة. وفيما أوضح الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ “أن المجتمعين رأوا ازديادا في التسلح العسكري الصيني وسلوكًا عداونيًا في بحر جنوب الصين”، أكد أن “الصين لا تشاركنا قيمنا وتقمع المطالبين بالحريات في هونغ كونغ وأقلية الإيغور” ، ثم عاد واستدرك أن الحلف ليس بصدد الدخول في حرب باردة مع الصين موضحا أن بكين ليست عدوًا للحلف.
من جهة أخرى لم تتأخر بكين كثيرًا في الرد على قلق قادة الحلف الأطلسي حيال الطموحات الصينية، إذ اتهمت البعثة الصينية لدى الاتحاد الاوروبي الحلف بالمبالغة بـ”نظرية التهديد الصيني”، وطالبت الحلف بعدم استخدام المصالح المشروعة للصين وحقوقها القانونية كذرائع للتلاعب بسياسات المجموعة، واتهمت البعثة الحلف بإظهار “عقلية الحرب الباردة” وبالسعي إلى “خلق مواجهات بشكل مفتعل”، ورأت البعثة أن تعبير “تحديات لأسس النظام الدولي” الذي استخدمه الحلفاء “يشوه التطور السلمي” الذي أحرزته البلاد، والتي تملك رؤوسًا نووية أقل بعشرين مرة مما تملكه الدول الأعضاء في حلف الأطلسي.
الرد العملي الأول بعد قرارت القمة تجاه الصين، والذي تجاوز الرد أو التنبيه الصيني أعلاه، جاء في بحرها الجنوبي من خلال إعلان البحرية الأمريكية الثلاثاء، أن مجموعة حاملة الطائرات الأمريكية “رونالد ريغان” دخلت بحر الصين الجنوبي في إطار مهمة دورية، وسوف تجري خلال وجودها في البحر المذكور عمليات أمنية بحرية، تشمل طلعات بطائرات ذات أجنحة ثابتة وأخرى دوارة، وتدريبات هجومية بحرية، وتدريبات تكتيكية منسقة بين وحدات السطح والجو.
أساسًا، دائمًا كانت الصين تعترض على الانتشار أو المرور الدولي في بحرها الجنوبي، وطالما اعتبرت المهام العسكرية الأمريكية في بحر الصين الجنوبي غير مشروعة، كونها تتعارض مع سيادة الصين على معظمه، الأمر الذي يشكل نقطة الخلاف الأساسية بين الصين وبين الدول الغربية بمعظمها، يضاف إلى الأخيرة دول حوض البحر المذكور وخاصة: فيتنام – الفيليبن – ماليزيا – بروناي – تايوان، والتي استطاعت الولايات المتحدة الأميركية جرها إلى معاداة الصين، بعد أن وجهتها لرفع السقف ضد بكين بادعاء ملكياتها (الموزعة فيما بينها) لقسم كبير من بحر الصين الجنوبي.
لا شك أن لبحر الصين الجنوبي أهمية استراتيجية ضخمة، اقتصاديًا وتجاريًا كمعبر رئيسي بين الغرب والشرق مرورًا بالمحيط الهندي وبحر العرب وخليج عمان وامتدادًا إلى المحيط الهادي، بالإضافة للثروات الطبيعية التي تم اكتشافها في حوضه وتحت مياهه مؤخرًا، وهذه الأهمية والتي هي موضع صراع استراتيجي، دفعت بالصين لمحاولة تثبيت ملكيتها له أو على الأقل لتثبيت ملكيتها لقسم كبير من مياهه كمياه اقتصادية خالصة لها، وذلك من خلال بناء سلسلة ضخمة من الجزر الاصطناعية في وسطه تقريبًا بالقرب من جزر باراسل، وفي المنطقة الجنوبية الشرقية منه قرب جزر سبراتلي، بمواجهة الفليبين وبروناي.
من هنا يأتي تسارع الأحداث والإجراءات كمؤشر على تزايد التوتر بين الغرب والصين، حيث كانت نقطة تركيز أغلب اجتماعات الرئيس الأميريكي في أوروبا تدور حول الصين، وكما يبدو فقد انخرط الناتو نحو المواجهة، وكانت القمة الأخيرة بمثابة قاعدة ارتكاز للانطلاق في هذه المواجهة الاستراتيجية، لتكون باكورة التحرك عسكرية، عبر ادخال حاملة الطائرات المذكورة “رونالد ريغان” إلى بحر الصين الجنوبي.
من جهة أخرى، قد لا يكون منطقيًا أن لا يستتبع القمة المذكورة في بروكسل مع هذا السقف العالي تجاه الصين، ومع هذا الحشد غير المسبوق من الدول ومن المواقف المتشددة، اجراء ما عسكري أو غير عسكري يترجم هذه القرارات، وأن لا تكون مصداقية الحلف وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية قد أصيبت بنكسة، وستكون أول قمة أرادها الرئيس بايدن جامعة للحلف ولتماسكه، على عكس ما أرادها بالكامل.
ويبقى التساؤل الأساسي: هل تسير الأمور تحت سقف الضغوط السياسية فقط أم تتطور إلى اشتباك مباشر، ينطلق من بحر الصين الجنوبي ويبقى مقيدًا تحت سقف الاشتباك الإستراتيجي الخطير، النووي أو ما يقابله من أسلحة مدمرة، وتكون بذلك فرصة الأميركيين حتى يوسعوا انتشارهم البحري مع أغلب دول الناتو في البحر المذكور، فينتزعوا بذلك جزءًا كبيرًا من النفوذ الصيني في هذا البحر الإستراتيجي، والذي عملت عليه منذ عشرات السنوات وخاصة في موضوع بنائها للجزر الاصطناعية ومحاولة إضافة المياه الدولية إلى مياهها الإقليمية أو الى مياهها الاقتصادية الخالصة؟
شارل أبي نادر – موقع العهد