«على الدولة أن تتحمّل الجزء الأكبر من الخسائر لأنها أهدرت أموال المودعين بعدما استدانتها من المصارف ومصرف لبنان». (نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي، أثناء ترؤسه جلسة اللجان النيابية المشتركة يوم الاثنين 6/12/2021).
بما أن الانهيار اللبناني الراهن يتمحور حول تعطّل القطاع المصرفي عن العمل، فإن الخروج من الكارثة لا بد أن ينطلق من كيفية سد خسائر المصارف ومصرف لبنان. كل المعارك التي اندلعت منذ الثلاثين من أيلول 2019، أساسها كيفية التعامل مع تلك الخسائر التي قدّرها نائب رئيس الحكومة بأكثر من 69 مليار دولار، وتوزيع النسب على الجهات التي ستتحملها. عدم إقرار أي خطة إنقاذية على رغم مضيّ أكثر من سنتين على بداية السقوط السريع نحو الهاوية، إنما يهدف إلى تحميل الجزء الأكبر من الخسائر إلى عموم السكان، عبر أدوات مختلفة، على رأسها التحرير المنفلت لسعر الصرف وإلغاء الدعم وتدمير القدرة الشرائية للغالبية العظمى من السكان.
منذ بدء البحث في مسألة توزيع الخسائر، وتوسّع النقاش حولها في ربيع عام 2020، تُقارَب التوزيعة على أساس الانحيازات، من دون أي قاعدة. في حكومة الرئيس حسان دياب، كانت خطة التعافي المالي (التي وُئدَت في مجلس النواب) تضع جزءاً كبيراً من عبء الخسائر على كاهل المصارف، ثم مصرف لبنان، ثم الدولة، ليبقى جزء كان ينبغي أن يتحمّله كبار المودعين.
بعد إسقاط خطة حكومة دياب، استمر الحديث عن توزيع الخسائر، لكن خارج المؤسسات. الغالبية العظمى من أبناء الطبقة الحاكمة، سياسياً ومالياً ودينياً وإعلامياً…، يريدون تحميل الجزء الأكبر من الخسائر للدولة. يشاركهم في ذلك الكثير من أعضاء «فرع التغيير» في الطبقة نفسها. بعضهم يموّه مراده بالحديث عن تحمّل مصرف لبنان للخسائر.
المنادون بتحمّل الدولة للخسائر يطلبون – صراحة – بيع الأملاك العامة لتسديد الخسائر. أحياناً يطالبون بالبيع، وأحياناً أخرى بإنشاء صندوق توضع فيه أملاك الدولة، لاستثمارها ومنح العوائد للمصارف بدلاً من الأموال التي أساءت استثمارها ونهبتها. بصريح العبارة، يريد الذين نهبوا المال العام والخاص، أن تبيع الدولة أملاكها لهم، لتسدد لهم ثمن ما اقترفوه. أما الأقلية، فتعتمد الترتيب الآخر لتوزيع الخسائر: المصارف ثم مصرف لبنان ثم الدولة.
في الحالتين، لم تُقارَب المسألة من زاوية «عِلمية»، إذا جاز هذا التعبير. فالكارثة لا تُعالج بالانحيازات وحدها، على أهميتها. البلاد أمام كارثة انهيار هو الأسوأ في التاريخ الحديث. ووقف هذا الانهيار ثم الخروج منه بحاجة إلى مقاربة تُشبه تلك التي تُعتمد بعد الحروب، في البلاد التي تريد أن «تنذكر تما تنعاد». ثمة جناية ارتُكِبت بحق لبنان، نتيجتها تدمير للاقتصاد ومعيشة السكان ومستقبلهم وأحلامهم. وهذه الجناية بحاجة إلى تحقيق، لتحديد مرتكبيها، ونصيب كل منهم من الفعل الجرمي. وهؤلاء المسؤولون يتحمّلون، بمالهم الخاص، بموجب القانون، مسؤولية الجناية التي ارتكبوها، وفقاً لنسبة مساهمتهم بها. قبل البحث في توزيع الخسائر، ينبغي البحث في توزيع المسؤوليات. حتى عندما يتعلّق الأمر بالدولة. فالدولة ليست شخصاً طبيعياً تجوز ملاحقته. الدولة شخص معنوي، أداره وتحكّم به أشخاص طبيعيون، هم الذين نسميهم «مسؤولين». وفي حال كانت الدولة مسؤولة عن الخسائر، فإن تلك المسؤولية يتحمّلها أولئك «المسؤولون». يتحملونها بمالهم الخاص.
بعد تحديد مرتكبي الجريمة، من مصرفيين وسياسيين، وتكبيدهم ثمن تلك المسؤولية (بما فيه منعهم من العودة إلى مزاولة العمل نفسه)؛ وبعد تحديد المودعين الذين استفادوا من المنظومة المصرفية بفوائد أعلى من المعدل الطبيعي حول العالم، واسترداد تلك الفوائد، وبعد استعادة الأموال المنهوبة نهباً (كما في الهندسات المالية)؛ وبعدما يرى اللبنانيون المصرفيين والسياسيين يلقون العقاب اللائق بجريمتهم، ويُعيدون الأموال التي نهبوها، ويدفعون، من مالهم الخاص، بدل الخسائر التي تسببت بها الجناية التي ارتكبوها؛ وبعد وضع قواعد عمل صارمة لنظام مصرفي جديد يمنع تحوّل البنوك إلى غول يبتلع أموال الناس والدولة والاقتصاد؛ وبعد إقرار نظام ضريبي جديد فيه شيء من العدالة… حينذاك، يصبح من الجائز البحث في أن تبيع الدولة أملاكها، أو أن تستثمرها لسد الباقي من الخسائر. حينذاك، سيكون لـ«المسؤول» بعض الحق ليقول للناس: علينا جميعاً أن نتحمّل الصعاب معاً للخروج من الكارثة.
توزيع المسؤوليات هو مفتاح التوزيع العادل للخسائر. من دون الأول، لن يكون الثاني عادلاً. ولأننا في لبنان، فإن توزيع الخسائر لم يكن عادلاً حتى اليوم… ولن يكون.
حسن عليق – الأخبار