حق الدفاع عن النفس في مواجهة العقوبات الاقتصادية

مقدمة:
تتمتع الأمم المتحدة بالشرعية لفرض عقوبات اقتصادية وتدخلات عسكرية منذ عام1945 وفقا لميثاق الأمم المتحدة الذي صنعه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية، واعتمدوا في ذلك على اليات قانونية شرّعوا من خلالها استثناءات عديدة متعلقة بحق التدخل في الدول في حال حصل تهديد للسلم والأمن الدوليين، ووفقا لمعايير تحددها القوى المسيطرة على مجلس الامن الدولي، وضع المشرعون الدوليون جملة من المعايير المتصلة بحل النزاعات بالطرق السلمية وفقا للفصل السادس من ميثاق الأمم المتحدة، أما الفصل السابع فقد كان بمثابة الإطار القانوني الذي يغطي إمكانيات التدخل في شؤون الدول، حيث يوفر الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الإطار الذي يجوز فيه لمجلس الأمن الإنفاذ. ويسمح له أن يقرر “ما إذا كان قد وقع تهديد للسلم أو إخلال به أو كان ما وقع عملاً من أعمال العدوان” وأن يقدم توصيات أو يلجأ إلى القيام بعمل غير عسكري (فرض العقوبات…الحصار والحظر وقطع العلاقات الدبلوماسية…) أو عسكري (التدخل المباشر)”لحفظ السلم والأمن الدوليين”.
لكن الحرب الباردة جمدت هذه الإجراءات لتصبح بعد ذلك أداة في يد الولايات المتحدة الامريكية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي التي- انطلاقا من هذا المتغير- فرضت وجهة نظرها على العالم لتصبح هذه الأداة، الة حرب بامتياز تستخدمها الإدارات الامريكية المتعاقبة وفقا لمصالحها السياسية والاستراتيجية. بعد سقوط برلين، استعادت الأمم المتحدة دورها الرئيسي، خاصة في التسعينيات التي أطلق عليها ” عهدة العقوبات”، في الحرب على العراق ويوغسلافيا وروندا وغيرها. تبين لاحقًا أن هذه العقوبات تؤدي إلى تفاقم الظروف المعيشية للسكان الأبرياء، فبدأت المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة تعمل على خلق اليات لتصنيف العقوبات التي تنفذها.
إذا كانت الحرب استمرارًا للدبلوماسية بوسائل أخرى، فإن العقوبات أصبحت بالتأكيد السلاح المفضل للولايات المتحدة ضد من تعتبرهم منافسين أو أعداء لمصالحها في المنطقة، وهي الأدوات المفضلة لدى واشنطن للضغط والتأثير على خيارات وسياسات الدول والقوى المناهضة لمشاريعها التدميرية. غالبًا ما يُساء فهم العقوبات، وهي أحد الأركان الأساسية للسياسة الأمريكية الحديثة، وهي حتما يتم تطبيقها بشكل سيء. منذ أن سن الرئيس جيمي كارتر قانون سلطات الطوارئ الاقتصادية الدولية في عام 1977 – الذي وضع إطارًا للعقوبات الأمريكية الحالية – لجأ العديد من الرؤساء إليه على التوالي. فرضت الولايات المتحدة من خلاله عقوبات على الشركات والمنظمات والمجموعات والسفن والطائرات وغيرها من الممتلكات، كما تم حظر الأنشطة التجارية، وتم إبعاد دول بأكملها عن النظام المالي الدولي.
ما هي الصلة اليوم بين ممارسة العقوبات الاقتصادية ووجهة نظر الحرب؟ بشكل عام، أدت العقوبات الاقتصادية إلى ظهور عدد كبير من المنشورات على مدى السنوات العشر الماضية، وبشكل خاص بلا شك منذ منتصف التسعينيات، شهدت نهاية الحرب الباردة تصاعد قوة السلاح الاقتصادي، من منظور مزدوج في نفس الوقت على مستوى متعدد الأطراف، وكذلك عندما تكون هذه الإجراءات أحادية الجانب وأمريكية.
على الصعيد متعدد الأطراف، تم تطبيق العقوبات في الأمم المتحدة بسهولة أكبر مما كانت عليه في الماضي، حيث انه خلال سنوات الحرب الباردة، تم اتخاذ قرار بالعقوبات مرتين فقط في الأمم المتحدة، في حالة روديسيا عام 1967 وجنوب إفريقيا عام 1976. اما على المستوى الأحادي، فقد شهدت العقوبات الأمريكية نشاطا خاصا منذ عام 1990. وأصبحت الية العقوبات أحادية الجانب الأكثر استخداما اليوم من قبل بعض الدول وعلى راسها الولايات المتحدة الامريكية، على الرغم من انشاء نظام الأمن الجماعي.

  1. العقوبات: الة حرب أمريكية:
    لم يكن هناك الكثير من العقوبات الاقتصادية المفروضة منذ نهاية الحرب الباردة. في الوقت نفسه، تبدو مسألة ما إذا كانت فعالة حقًا أمر مثير للجدل. الحقيقة هي أن هناك، بين الكلمات والأسلحة، بدائل قليلة للعقوبات الاقتصادية لتشجيع الفاعلين الدوليين على تغيير سلوكهم. لذلك، ستظل العقوبات مكونًا مهمًا في مجموعة أدوات السياسة الخارجية والأمنية للمجتمع الدولي عامة وللسياسة الامريكية خاصة. إن الجدل حول موعد فرض العقوبات الاقتصادية أمر منطقي وكيفية تشكيل نظام العقوبات يكتسب أهمية في ظل هذه الخلفية. يُطلق على التسعينيات اسم “عقد العقوبات”. مع نهاية الحرب الباردة وبعد تجاوز الحصار الذي فرضته الأمم المتحدة، كان مجلس الأمن يسن اعتمادا على المادة 41 من ميثاق الأمم المتحدة، تدابير اقتصادية قمعية لمعاقبة السلوك غير المرغوب فيه من قبل الفاعلين الدوليين دون اللجوء الفوري إلى الوسائل العسكرية. كانت العقوبات المفروضة على العراق بعد ضم الكويت مقدمة في عام 1990. وأضيفت عقوبات أخرى من الأمم المتحدة في تتابع سريع، على سبيل المثال ضد يوغوسلافيا وليبيا، وليبيريا والصومال وكمبوديا وهايتي ورواندا وسيراليون وأفغانستان. غالبًا ما كانت عقوبات الأمم المتحدة مصحوبة بإجراءات أخرى من قبل الدول الفردية أو المنظمات الإقليمية. كانت مجموعة الأهداف التي تم السعي إليها واسعة: إلغاء العدوان الإقليمي، وإعادة إنشاء حكومات شرعية ديمقراطياً (تابعة)، وإنهاء الحروب الأهلية، وحماية حقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب أو نزع السلاح، والتخلي عن أسلحة الدمار الشامل.
    إن تضاعف العقوبات المتعددة الأطراف يرجع إلى حالة هيكلية فرضها مجلس الأمن الدولي كمحاولة لإقامة تعددية جديدة تمجد فضائل النظام القانوني الدولي. فالسلاح الاقتصادي يقوي ويسمح بتطبيق قواعد قانون الأمم المتحدة ويسمح للمجتمع الدولي بتأكيد قوته مادياً. تعتبر العقوبات المفروضة على أولئك الذين يدعمون قانونًا متعدد الأطراف أداة قيمة بشكل خاص، فهي تتمتع برؤية عالية جدًا وتربط التهديد الموجه للدول والقوى المستهدفة بالقيود المادية الملزمة. لكن الواقع الدولي يقول بأنّ هذه العقوبات المتعددة الأطراف، هي نظام الأقوياء لأنّ مجلس الامن الدولي (مركز سلطة وتسلّط الأقوياء) يمنحه قوة القانون. في الواقع، يتم تطبيق العقوبات دائمًا عند وجود تفاوت كبير جدًا بين صانع العقوبة وأهدافه.
    في الولايات المتحدة، يُعزى ارتفاع العقوبات إلى عدة عوامل. أولهما ينتمي إلى تقليد أمريكي أعيد إحياؤه بعد سقوط جدار برلين، وهو الإحجام عن التدخل بشكل مباشر في الدول، واعتماد العقوبات كأدوات ضغط فاعلة للسيطرة. فأمريكا غير مستعدة لتحمل العبء العسكري والمالي للتدخل. يفضل مسؤولو وزارة الخارجية وخاصة المشرعون في الكونجرس إنشاء نظام خاص مهمته تفعيل العقوبات الاقتصادية، والتي لا تتحمل الإدارة تكلفتها. إن الصيغة النفعية وحشية وفجة في نظر منتقدي “جنون” صانعي العقوبات في الولايات المتحدة. وبهذه الطريقة، يوفق صانعو السياسة الخارجية بين عدم الرغبة في التدخل المباشر وتحمّل التكاليف الثقيلة في ذلك، والرغبة في الظهور كقوة مهيمنة على المسرح الدولي من خلال تأكيد سلطتهم على تحديد المعايير والقواعد على المستوى الدولي.
    عامل ثان يجعل من الممكن فهم تصاعد حدة العقوبات الأمريكية خلال التسعينيات، وهو أنه تم إصدار العديد منها بناءً على تحريض من الكونجرس واضطرت الرئاسة إلى قبولها دون أن يكون الرئيس أو وزارة الخارجية قد بادر بالفعل بهذه السياسة الخارجية أو رغب في ذلك. لعبة القوة هذه تنبع من المواجهة بين الرئاسة والكونغرس، وحصل ذلك في عدة مناسبات. في العديد من الحالات التي تشير إلى تشديد الحظر مثلا على إيران وليبيا (كينيدي داماتو)، أوكوبا (هيلمز-بيرتون)، أو قانون التحرر من الاضطهاد الديني، فإن العقوبات التي قررها الكونجرس لم تكن تسير في اتجاه الاستراتيجية الرئاسية حينها، وقد أحرجت الإدارة الامريكية مع حلفائها. تم تمرير هذه القوانين بفضل الضغط المجتمعي القوي بشكل خاص الذي مورس من خلال الكونجرس. من وجهة النظر هذه، فإن المقارنة بين أكثر قانونين نموذجيين لجنون العقوبات الأمريكية (Helms Burton وILSA ) واضحة تمامًا. في وقت التوتر والأزمات، عندما تُرتكب أعمال إرهابية ضد الأمريكيين، يقر الكونجرس قوانين تتحدى مصالح حلفاء أمريكا، وتجبر الرئيس على التصديق عليها. في حالة هيلمز – بيرتون مثلا، جُرد الرئيس من سلطته حتى فيما يتعلق برفع الحظر الذي أصبح الآن في أيدي أعضاء الكونجرس. بفضل التوترات بين الكونغرس والرئاسة، تتمتع المؤسسات الفاعلة في امريكا وعلى رأسها الكونغرس بإمكانية الوصول المباشر إلى صياغة السياسة الخارجية والمساعدة في تعزيز التعنت الأمريكي.
    هناك أيضًا عامل ثالث يجعل من الممكن فهم زيادة قوة العقوبات في عالم ما بعد الحرب الباردة، سواء من جانب متعدد الأطراف أو أحادي الجانب. مع تعزيز حقوق الإنسان كمعيار دولي، يتم إضفاء الشرعية على العقوبات من منظور مزدوج. من ناحية، تهدف العقوبات الاقتصادية إلى ضمان احترام حقوق الإنسان من خلال حماية الأقليات المضطهدة من قبل سلطة استبدادية وتعزيز التعددية (العراق، الدول المعنية بعدم احترام الحرية الدينية، صربيا، كوبا، بورما …). من ناحية أخرى، فيما يتعلق بالتدخل العسكري، فإن العقوبات ستحترم حقوق الإنسان أكثر من القصف المكثف وستعني ضمنيًا احترامًا أكبر للسكان المدنيين مقارنةً بحالة النزاع المسلح (في النهاية، سيكون أهون الشرين). لا تزال العقوبات والإصلاحات المختلفة التي ميزت تاريخها مشبعة بهذا الإطار المرجعي “الإنساني”. ظاهريا تبدو لغة مقنعة لكل من يتابعها، لكن الواقع يكشف شي اخر، فالعقوبات التي من المفترض انها أداة ردع تمارسها القوى العظمى ضد القوى التي تنتهك حقوق الانسان ولا تحترم القوانين الدولية والمواثيق، تبدو اليوم أداة حرب بامتياز تستخدمها نفس هذه القوى المسيطرة وعلى رأسها الولايات المتحدة لكن لأهداف أخرى بعيدة كل البعد عن ردع الانتهاكات او غيرها.
    • وزارة الخزانة الامريكية: وزارة حرب
    تفرض الولايات المتحدة الآن عقوبات اقتصادية على عشرات الدول. أدرجت إحدى الدراسات الحديثة ما لا يقل عن 35 دولة كانت مستهدفة بالعقوبات الأمريكية الجديدة من 1993 إلى 1996. لكن المهم ليس فقط تواتر استخدام العقوبات خاصة الاقتصادية، ولكن أهميتها. على نحو متزايد، تحدد العقوبات أو تهيمن على عدد من العلاقات والسياسات الهامة. على مدى العقد الماضي، شنت الولايات المتحدة نوعًا جديدًا من الحرب المالية، لم يسبق له مثيل في مدى انتشارها وفعاليتها. غالبًا ما تم التقليل من أهمية هذه “الحرب الخفية”، لكنها لم تعد سرية وأصبحت منذ ذلك الحين مركزية في عقيدة الأمن القومي لأمريكا. في سلسلة من حملات الضغط المالي، ضغطت الولايات المتحدة مالياً وعزلت من تطلق عليهم “أعداء أمريكا الرئيسيين” كالقاعدة وكوريا الشمالية وإيران والعراق وسوريا، وأضافت الولايات المتحدة الامريكية الى هذه القائمة لبنان وتحديدا حزب الله. بعيدًا عن الاعتماد فقط على العقوبات الكلاسيكية أو الحظر التجاري القديم، فقد تألفت هذه الحملات من مجموعة جديدة من الاستراتيجيات المالية التي تسخر الأنظمة المالية والتجارية الدولية لنبذ الجهات الفاعلة التي تعتبرها الولايات المتحدة جهات “مارقة” وعملت على تقييد تدفقات تمويلها. قامت وزارة الخزانة الامريكية (وزارة الحرب) بهندسة مسار الهجمات ضد من يطلق عليهم “أعداء أمريكا ” المستمد من الاليات القادرة على الحرب المالية التي طورتها الولايات المتحدة منذ سنوات. يتم تعريف هذه الحرب من خلال استخدام الأدوات المالية والضغط على قوى السوق للاستفادة من القطاع المصرفي ومصالح القطاع الخاص والشركاء الأجانب من أجل عزل الجهات “المارقة” عن الأنظمة المالية والتجارية الدولية والقضاء على مصادر تمويلها.
    بدأت هذه الحقبة الجديدة من الحرب المالية بعد 11 سبتمبر، حيث طورت حكومة الولايات المتحدة هذه التقنيات لاستخدامها ضد من تصنفهم وفقا لسياساتها بالإرهابيين أو الأنظمة المارقة والجهات المالية غير المشروعة. هذه القدرات – التي تقع بين الدبلوماسية الشرسة والحرب المتنقلة – ستصبح بشكل متزايد أدوات الأمن القومي المفضلة، ومن قضايا الأمن الدولي الصعبة التي تواجه الولايات المتحدة، لأنها أدوات لا تخضع لتوافق دولي، فقد ترفض بعض القوى الدولية الحليفة لأمريكا في تفاصيل كثيرة اللجوء الى العقوبات كحل لتحقيق الأهداف وفقا لمصالحها التي قد لا تتوافق مع المصالح الامريكية في عناوين كثيرة.. بات من الممكن للولايات المتحدة أن تطلب من هذه التقنيات مواجهة التهديدات التي يواجهها الأمن القومي الأكثر خطورة، من الجماعات الإرهابية والمجرمين الدوليين إلى كوريا الشمالية وإيران. هذه ليست نهاية القصة – فقد تكيف أعداء أمريكا مع الضغوط، وتعلم المنافسون للولايات المتحدة كيفية التعامل معها. ستستمر الحرب المالية في التطور بسرعة – الآن خارج سيطرة الولايات المتحدة – وقد بدأت تشكل جزءًا مركزيًا من استراتيجيات الأمن الدولي. هذا هو السبب في أنه من المهم للغاية فهم كيفية تطور هذا النوع من القوة المالية والتأكد من مسألة ان كانت الولايات المتحدة قادرة فعليا على الاستمرار في قيادة هذه الحرب المالية كما خطط لذلك خبراءها.
    في منتصف التسعينات بدأ مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة (OFAC)، المسؤول عن تنفيذ جميع برامج العقوبات الأمريكية، في استهداف مئات الأفراد والشركات والممتلكات المرتبطة بها التي خضعت لتجميد الأصول وإبعادها عن النظام المالي الأمريكي. توقفت البنوك ليس فقط في الولايات المتحدة ولكن في جميع أنحاء العالم عن ممارسة الأعمال التجارية تمامًا مع الأفراد الذين وصفهم مكتب مراقبة الأصول الأجنبية بأنهم “مواطنين مشبوهين” أولئك الذين ظهروا فيما أصبح يعرف باسم “لا ليستا كلينتون” ، والذين تعرّضوا لعملية إعدام مالية افتراضية. أدركت البنوك بوضوح أنه من الأفضل الاستمرار في ممارسة الأعمال التجارية في الولايات المتحدة بدلاً من المخاطرة بممارسة الأعمال التجارية مع أطراف معينة. كما استخدمت إدارة كلينتون مرتين أوامر تنفيذية لتسمية المنظمات مثل الجماعات الفلسطينية، وحزب الله، والقاعدة، وقادتها، وتجميد الأصول ومنع المواطنين والشركات الأمريكية من التعامل معها.
    لقد أتاحت العقوبات التي تم فرضها في التسعينيات فرصًا جديدة لتركيز الضغط المالي على أهداف محددة. ومع ذلك، وعلى الرغم من إخفاقاتها، استمرت العقوبات الواسعة في كونها الأداة المهيمنة. إلا أنه لا تزال هناك شكوك ومخاوف بشأن الفعالية الشاملة واستدامة العقوبات كأداة دولية. بعد 11 سبتمبر 2001، أطلقت الولايات المتحدة حملة لمكافحة تمويل الإرهاب أعادت تشكيل طبيعة الحرب المالية. شنت وزارة الخزانة هجوماً شاملاً، مستخدمة كل أداة في صندوق أدواتها لتعطيل، وتفكيك، وردع تدفقات التمويل غير المشروع في جميع أنحاء العالم. ما أطلق عليها بالعقوبات “الذكية” في أواخر التسعينيات والتي استهدفت القادة والكيانات، والتي قيل انه تم وضعها لاستهداف شبكة القاعدة وطالبان وأي شخص يقدم الدعم المالي لأي جزء من تلك الشبكة، ثم تطورت هذه الأدوات الامريكية التي شكّلت بيئة وقوة مالية جديدة في مرحلة ما بعد احداث 11 أيلول 2001، من خلال توسيع النظام الدولي لمكافحة غسل الأموال. إضافة الى تطوير الأدوات المالية والاستخبارات الموجهة بشكل خاص للتعامل مع قضايا الأمن القومي الواسع.
    امام هذه الاستراتيجيات والبرامج، سقط القناع عن مبدأ المحافظة على سلامة وامن الشعوب، وبات واضحا ان الأهداف المعلنة وغير المعلنة لهذه الأدوات العقابية، نتائجها لا تختلف كثيرا. فالمستهدف في كل الأحوال هو عدو لأمريكا، عدو لسياساتها ومصالحها ومشاريعها، وعليه ان يدفع ثمن ذلك بكل الوسائل والطرق، حتى لو كان على حساب المبادئ والقيم الدولية والمجتمعية والأخلاقية والإنسانية التي يتغنى بها صناع المجتمع الدولي ومواثيق الأمم المتحدة.
    استفادت الولايات المتحدة من مجموعة الأدوات بأكملها، لصياغة طريقة جديدة لشن حربها الاقتصادية والمالية على الدول والشعوب، لتصبح بحق حرب التجويع والتنكيل والتدمير دون إطلاق رصاصة واحدة، لكن نتيجتها ضحايا كثر.
     تتألف آلة الحرب الاقتصادية الأمريكية من ترسانة كاملة من القوانين والأنظمة المترابطة والمتجاوزة للحدود الإقليمية. خمسة أنظمة على وجه الخصوص تهم الدول المستهدفة بالعقوبات ومنهم لبنان:
    • أنظمة العقوبات الأمريكية الدولية، مثل انتهاك أو التحايل على الحظر المفروض على إيران أو كوبا مع الغرامات المالية الكبيرة التي تدفعها على وجه الخصوص البنوك الأجنبية المتهمة بانتهاكها.
    • التذكير بان الولايات المتحدة لديها قانونين بشأن تجاوز الحدود الإقليمية، تم إقرارهما في عام 1996: قانون أماتو-كينيدي (لإيران وليبيا) وقانون هيلمز-بيرتون (لكوبا). تحظر هذه النصوص على الشركات التجارية مع البلدان المدرجة في قائمة “الدول المارقة” التي تزيد عن مستوى معين من حجم الأعمال. ينطبق هذا الحظر على الشركات الأمريكية، نحن نتحدث عن عقوبات أولية، ولكن أيضًا لجميع الشركات حول العالم، هذه هي القوانين السياسية التي تجعل الاقتصاد ناقلًا: الهدف هو وضع هذه البلدان خارج المجتمع الدولي والسعي إلى الإطاحة بأنظمتها من خلال وضعها في مثل هذا الضغط الاقتصادي القوي للوصول بها إلى الانهيار. الفكرة هي حمل الناس على الإطاحة بقادتهم.
    • قانون الممارسات الأجنبية الفاسدة (FCPA) الذي يعود تاريخه إلى عام 1977 والذي يهدف إلى مكافحة فساد الموظفين العموميين في الخارج. لكن هناك مشكلة، إذا كانت الشركات الأمريكية هي الوحيدة التي تطبق هذه اللوائح، فهي في وضع غير مؤات مقارنة بالشركات الأجنبية: قامت الولايات المتحدة بالضغط بشكل مكثف لنشر هذه اللوائح وتطبيقها في الخارج، وقع مراجعتها والتحقق منها في عام 1997 في OECD.
    • لم تتردد الولايات المتحدة في التجسس على شركات من دول حليفة. في عام 2000 ، كتب المدير السابق لوكالة المخابرات المركزية ، جيمس وولسي (الذي شغل هذا المنصب بين عامي 1993 و 1995) مقالًا في صحيفة وول ستريت جورنال: “لماذا نتجسس على حلفائنا”.
    • منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، قررت الولايات المتحدة أيضًا استخدام القانون لمحاربة تمويل الإرهاب: أصبح الفساد وانتهاك الحظر الذي فرضته في جميع أنحاء العالم أمرًا غير مقبول في نظرها. واتضح أن قوانين خارج الحدود الإقليمية التي تم تمريرها بالفعل هي أدوات رائعة! لأنها لا تتطلب الذهاب إلى العدالة الأمريكية.
    • أنظمة العقوبات الدولية الأمريكية المتعلقة بحماية حقوق الإنسان والعملية الديمقراطية مثل قانون Magnitsky Global Human Rights Accountability Act الذي سُن في عام 2016، والذي يصرح للحكومة الأمريكية بمعاقبة المسؤولين الأجانب المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان في كل مكان في العالم، أو المرسوم بقانون رقم 13441 الصادر في عام 2007 والذي يسمح لـ Ofac بتجميد حسابات المسؤولين المتهمين بارتكاب أعمال عنف من شأنها تقويض العملية الديمقراطية.
    • المعاملة الضريبية للمواطنين الأمريكيين غير المقيمين، والتي تم تنظيم تطبيقها بموجب القانون وما يسمى بمعاهدات فاتكا، والتي أثبتت أنها مصدر مهم للمعلومات للإدارات الأمريكية.
    • أحكام مكافحة غسيل الأموال الأمريكية، التي تطالب البنوك الأمريكية بالسيطرة على ممارسات مراسليها الأجانب، ويمكن توجيهها بشكل خاص ضد المنظمات التي تستهدفها الولايات المتحدة، مثل حزب الله في لبنان. في هذا السياق، صوت الكونجرس الأمريكي في عام 2015 على قانون لمنع التمويل (Hifpa 2015) لحزب الله، الذي يمنع البنوك الأجنبية، وخاصة اللبنانية، من إجراء معاملات مع حزب الله والجهات المرتبطة به إذا أرادوا الاستمرار في الوصول إلى النظام المالي الأمريكي عبر حسابات المراسلات. تستطيع Hifpa وحدها أن تزعزع استقرار النظام المصرفي اللبناني. وبالفعل، فإن مجرد إدراج مصرف في القائمة السوداء لخرقه الحظر المفروض على تسهيل معاملات حزب الله هو بمثابة حكم بالإعدام. يمكن أن يتخذ ذلك شكل استحواذ قسري من قبل بنك آخر (كما هو الحال بالنسبة للبنك اللبناني الكندي الذي اشترته شركة Société Générale de Banque au Liban، SGBL، تحت سيطرة السلطات الأمريكية، مصحوبة بغرامة قدرها 102 مليون دولار دفعها البنك المخالف، أو التصفية القسرية والسريعة دون الكشف عن هويته المطلقة، التي دبرها البنك المركزي، كما كان الحال بالنسبة لجمال ترست بنك الذي اتهم في سبتمبر 2019 بتسهيل “أنشطة حزب الله المصرفية”. هذه حرب اقتصادية في أذهان القادة الأمريكيين، تخوضها جنباً إلى جنب مع حرب غير متكافئة لحماية مصالح البلاد ووقف توسع أعدائها، الذين هم اليوم في جزء منهم، إيران وحزب الله.
    مسار الإجراء:
    على هذه الجبهة، يعمل الأمريكيون كحزمة واحدة، متحدون في فريق عمل مكون من عدة خدمات تحقيق: مكتب التحقيقات الفيدرالي، SEC، Ofac وInternal Revenue Service (IRS)، خدمة الضرائب. للقيام بذلك، يقومون بتعبئة موارد كبيرة ويتوقعون عائدًا عادلاً على استثماراتهم. تقدم الوكالات – من وكالة المخابرات المركزية (CIA) إلى وكالة الأمن القومي، بما في ذلك مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) وعملائه في السفارات، أو حتى المنظمات غير الحكومية. تتم معالجة هذه المعلومات من قبل هيئات مختلفة: وزارة العدل، ووزارة الخزانة، ولجنة الأوراق المالية والبورصات، والاحتياطي الفيدرالي، وOfac يمكن أن يضاف إلى ذلك عمل المدعين المحليين وحتى المدعين العامين، مثل ذلك الموجود في نيويورك، والذي غالبًا ما يتدخل في الإجراءات ضد مجموعات أجنبية كبيرة. تتصرف وزارة العدل والوكالات الأخرى مثل المدعين العامين، بهدف واحد: الحصول على إقرار بالذنب من الجاني. وكلما تأخر الأخير في الاعتراف وقبول الحكم، كلما كان الحكم عليه أثقل. هذا ما يفسر جزئيًا المعاملة التفضيلية للفساد بين الشركات الأمريكية وغيرها. من خلال فرض قوانينها على دول أخرى، تقوم الولايات المتحدة بالتالي بتنفيذ ما يسميه البعض الابتزاز، والمبالغ الفلكية يتم جمعها من قبل الإدارات الأمريكية المختلفة. إلى أين يذهب هذا المال؟ مباشرة في خزائن أولئك الذين أجروا التحقيق وشرعوا في الإجراءات وعقدوا الاتفاقات. إنه نوع من الانقسام بين وزارة العدل، ولجنة الأوراق المالية والبورصات، وأوفاك، والاحتياطي الفيدرالي، ووزارة ولاية نيويورك للخدمات المالية، ومحامي نيويورك.
    من أجل فهم خصائص القانون الأمريكي خارج الحدود الإقليمية، من الضروري فهم أنه، ليست العدالة هي التي تحكم، ولكن الإدارة هي التي تفرض عقوبات. يتم استبعاد العدالة من العملية التي تؤدي إلى فرض عقوبات مالية شديدة على الشركات.
    لنتذكر أن النظام القانوني الأمريكي (القانون العام) يعمل في وضع الخصومة، بينما يعمل القانون المدني مثلا بطريقة التحقيق. في القانون العام، يعارض المدعي المتهم أمام قاض وربما أمام هيئة محلفين شعبية. يتولى القاضي الأمريكي دور الحكم. في حين أنه، في القانون المدني، فإن القاضي هو الذي يقود الإجراءات بناءً على الأدلة المقدمة من كلا الطرفين، ولكن أيضًا على العناصر التي يمكنه طلبها بحرية. من الناحية العملية، في سياق العقوبات، تشرك الإدارة القضائية الأمريكية القاضي فقط في نهاية الإجراءات، عندما يتوصل الطرفان إلى اتفاق (تسوية)، لذلك ليس هناك محاكمة. تستند هذه العدالة المتفاوض عليها إلى اعترافات الشركات، ويتم الحصول عليها من خلال التحقيق الداخلي الذي تجريه الشركة ضد نفسها بناءً على طلب المدعي العام. في القانون الأمريكي، الاعتراف بالذنب هو تقليد يتجنب محاكمة طويلة ومكلفة لكلا الطرفين. وفقًا للمحكمة العليا الأمريكية، فإن “الإقرار بالذنب هو أكثر من مجرد إقرار بسلوك سابق، إنه موافقة المدعى عليه على الإدانة دون محاكمة، أي تنازله عن حقه في محاكمة أمام هيئة محلفين، أو القاضي “… وهكذا يوفر القانون العام وضعاً قانونياً للاعتراف بالذنب مما يسمح بتسوية سريعة بين المتهم والادعاء. نتيجة لذلك، في الولايات المتحدة، يتم التعامل مع 95% من القضايا الفيدرالية بهذه الطريقة ولا يتم عرضها على المحاكمة.
  2. إمكانيات الردّ والفرص المتاحة

امام أدوات الحرب الاقتصادية الامريكية لابد من وجود أدوات مواجهة لهذه الحرب المباشرة وغير المباشرة وكسر الحصار المفروض علينا:
على المستوى القانوني: من الضروري ان يكون هناك مرافعة قانونية واجرائية يحدد فيها طرق وأساليب المواجهة: في طليعة الحرب بين الولايات المتحدة من جهة، وحزب الله وإيران، وسوريا واليمن وقطاع غزة من جهة أخرى، لم تلجأ الولايات المتحدة لأساليب مباشرة في فرض الحصار على هذه الدول والكيانات فحسب، بل لأساليب غير مباشرة أيضا، لذلك نحن نحتاج لتقديم صورة واضحة عن الدور الذي تقوم به الدولة المعتدية لتشريع حق الرد وكسر الحصار المفروض علينا.

من الضروري الاطلاع وحصر الممارسات التجارية التي تقع تحت القانون الأمريكي وأي ممارسات أخرى لا تخضع لها. فالأمريكيون يعرفون أن هناك مناطق رمادية، وهم يغتنمون الفرصة لمواصلة الضغط من خلال الاحتفاظ بزوايا متعددة للهجوم. العقوبات الامريكية المبنية على مبدأ تجاوز الحدود الإقليمية وهو مبدأ فضفاض استخدم في أواخر العشرينات من القرن الماضي بقرار لوتس، والذي سمي على اسم سفينة فرنسية تعرضت لحادث مع سفينة تركية، كانت في طريقها إلى تركيا لكن الحادث وقع في المياه الدولية: لكن عند وصولها، اعتقلت السلطات التركية القبطان الفرنسي وحكمت على الأخير من قبل محاكم البلاد. احتجت فرنسا وأخيرًا، حكمت محكمة العدل الدولية الدائمة حينها بالقول “يحق للدول أن تقرر التصويت على قوانين خارج الإقليم بشرط احترام القوانين الوطنية الأخرى”. لذلك، بذل القانون الدولي قصارى جهده لمنع القانون الإقليمي لدولة ما من تعريض العلاقات الجيدة مع البلدان الأخرى للخطر. ومن هنا تم التوقيع على نصوص مثل اتفاقية مونتيغو باي بشأن إدارة المحيطات والبحار خارج المناطق الاقتصادية الخالصة لكل بلد.
التمسك بفكرة ان هذا المبدأ وهذه القوانين المنصوص عليها لا تمنح الولايات المتحدة الحق في فرض خياراتها وسياساتها على الدول. والتأكيد وفقا للاتفاقيات والمواثيق الدولية ان الممارسات الامريكية انتهاك صارخ لكل الأعراف الدولية والقوانين. تعكس هذه العقوبات معايير جزء فقط من المجتمع الدولي؛ فغالبًا ما تُفرض على أفراد وكيانات دون الكثير من التفسير، ودون محاكمتهم أو إدانتهم بأي جريمة. لذلك يمكن اعتبارها قرارات تعسفية وظالمة وغير عادلة. من هذا المنطلق من حق الدول والقوى في محور المقاومة مواجهتها بالانتقام من صانعيها لانها عقوبات يتم تحديدها من جانب واحد تؤدي الى تعزيز حروب العقوبات التي تنتهك حقوق الشعوب في تقرير مصيرها وهذا يتنافى مع مبدأ حق تقرير المصير الوارد في ميثاق الامم المتحدة. اضافة الى ذلك وبالحديث عن حق الدول والقوى المستهدفة في الرد على هذه العقوبات اي الانتقام من صانعيها وفقا للقوانين الدولية، ونظرا لخطورة هذه الادوات الحربية فمن حق المستهدفين الدفاع عن النفس وهو حق شرعي أكدته المواثيق الدولية (ميثاق الامم المتحدة/المادة 51). رسخ حق الدفاع عن النفس كحق طبيعي وشرعي في التشريعات والأنظمة الداخلية للدول، المواثيق الدولية وفي الصدارة من هذه المواثيق، وبالنظر لأن الدول تعد الشخص الرئيسي للقانون الدولي، فقد تأصل ذلك الحق تأسيسًا على الحق الشرعي والطبيعي للأشخاص الطبيعية في كافة النظم الداخلية.
تؤكد المواثيق الدولية على جملة من الحقوق المرتبطة بحق الدفاع عن النفس:

  • حق الدولة المستهدفة في البقاء: إن مفهوم الدفاع الشرعي مبعثه مسلمة بديهية وهي أن الحق في الحياة يعد حقًا أساسيًا غير معلق، بل يعد من الحقوق الأساسية للإنسان ويتبوأ سائر الحقوق. ولا يتأسس حق الدولة في البقاء على العرف الدولي والمبادئ العامة للقانون الدولي وحسب، ولكن فضلا عن ذلك: القانون الطبيعي باعتبار أن ذلك الحق يعد من الحقوق الثابتة الأساسية المطلقة والضرورية للدول. وحق وجود الدولة يعد الشرط الأساسي لجميع الحقوق الأخرى التي تدعيها الدولة، لأن عدم قدرة الدولة على البقاء والاستمرار سيؤدي إلى الانقراض لشخصية الدولة من أسرة الأمم، وكثيرًا ما أصرت الحكومات على هذا الحق ولكنها سمته في بعض الأحيان حق “الدفاع عن النفس وفي أحيان أخري حق “وقاية النفس”.
  • باعتبار ان تسليط العقوبات وادواتها الاجرائية اعتداء مباشر على حق الدولة وشعبها في البقاء، فمن حق هذه الدولة او هذه المجموعة المستهدفة تجنيد شبابها، وتعد العدة العسكرية لحماية نفسها من الاعتداءات الخارجية بكل اصنافها ومجالاتها. لابد من التذكير هنا أن الدولة تتمتع بالشخصية القانونية الدولية التي تخول لها اتخاذ كل التدابير لحماية نفسها من الاستهداف بجميع انواعه سواء كان عسكريا او غير عسكري (العقوبات)، وعليه، تخول لها هذه الميزة ممارسة حقوقها دون تدخل من أحد في الشؤون الداخلية، فضلاً عن كل ما من شأنه أن ينعكس سلبًا على الاقتصاد والحياة الاجتماعية، وزعزعة الأمن وزرع الفتن الطائفية والعرقية وتشجيع الحروب الأهلية، وما إلى ذلك.
  • الدفاع عن النفس ليس حقًا للدولة تمارسه أو تتركه، بل حقًا لا يجوز التنازل عنه، ويعني هذا الحق أن للدولة مطلق الصلاحيات في المحافظة على وجودها.
  • باعتبار تسليط العقوبات التعسفية هو بمثابة العدوان على سلامة الدولة وأمنها القومي والاجتماعي، فمن حقها الطبيعي التصدي لذلك العدوان وإيقافه بكافة الوسائل المتيسرة لهذه الدولة، بما في ذلك استخدام القوة المسلحة، اي حقها في استخدام كل الاساليب والطرق الممكنة للتصدي للعدوان ولرفع الحصار المفروض عليها، ومن حقها الشرعي اثبات ذلك بكل الوسائل المتاحة (مساعدة ودعم القوى والجهات المستهدفة كقوى محور المقاومة في المنطقة لمواجهة العدوان أي كسر الحصار بكل الوسائل).
  • تقر كافة الأنظمة القانونية في العالم بحق الدول الطبيعي والشرعي في الدفاع عن نفسها، ولكن كافة هذه الأنظمة القانونية حددت الظروف والوسائل والأدوات التي من خلالها تستطيع الدول ممارسة ذلك الحق مع احترام شروط حق الدفاع الشرعي في القانون الدولي التقليدي، ونعتقد انها متوفرة بشكل واضح في هذه الحالة: فلكي يكون للدولة الحق في ممارسة الدفاع الشرعي يجب أن ينطوي الاعتداء الواقع عليها على خطر حال ذي مصدر غير مشروع عن طريق استخدام قوة مسلحة، في هذه الحالة يعتبر فرض العقوبات القاسية بكل تفاصيلها وتداعياتها اعتداءا يضاهي الاعتداء العسكري بقوة السلاح بل اكثر فتكا وخطورة وتهديدا حتى لو ادعى صانعوه انها ادوات غير عسكرية تفرضها خطورة الحالة الدبلوماسية او السياسية. من هذا المنطلق من حق الدولة او الجهة المستهدفة، الدفاع عن نفسها، ومواجهة العدوان. القياس هنا مشروع لاننا نتحدث عن ادوات حرب بامتياز لا تقل خطورة عن استخدام القوة العسكرية.
  • خطورة العقوبات كادوات حرب ( يبدو أنها السلاح الفتاك اليوم في مرحلة ما يسمى بحروب الجيل الخامس)، واضحة فهي مصدر تهديد وتدمير. من هذا المنطلق فان اباحة حق الدفاع عن النفس لمواجهة العدوان المسلح والعسكري تنطبق هي ذاتها على هذه الحالة لان الهدف واحد، وهو درء الخطر عن الدولة او الجهة المستهدفة. على أن الخطر، وفقا لميثاق الامم المتحدة ، يجب أن يأخذ احدى الصورتين، اما ان يكون خطرا وشيكا أي لم يبدأ بعد لكنه على وشك الوقوع، وهذا يفترض أن تكون قد صدرت أفعال من المعتدي تجعل من وقوع الاعتداء على الفور أمرًا منتظرًا إذا ما سارت الأمور بطريقة طبيعية. في هذه الحالة من حق الدولة او الجهة او الكيان المستهدف التصدي لهذا الامر بكل الوسائل المتاحة، لا ننسى ان العقوبات ما هي الا ادوات حرب تستخدم من قبل الولايات المتحدة الامريكية لاسقاط المستهدف وتسهيل عملية انهاءه عسكريا، بمعنى اخر هي اداة تمهيد وتهيئة لوجستية للعدوان العسكري الذي يبقى دائما الاداة الاحتياطية الجاهزة للاستخدام حين تسمح الظروف بذلك، فالامريكي لا يلغي الحل العسكري انما يؤجله لحين ايفاء العقوبات والضغوط بالمهمة المطلوبة.
  • في هذه الحالة، تتوفر شروط الدفاع عن النفس التي من حق القوى والجهات المستهدفة بالعقوبات استخدامها، اهمها شرط الضرورة الذي يقره القانون الدولي في حالة العدوان العسكري لكن وبالنظر لخطورة الحالة من الممكن توفره ايضا في التوصيف الحالي، حيث يقرّ هذا الشرط أنه يجب أن يكون الخطر المتطلب للدفاع عن النفس حالاً وداهمًا ولا توجد وسيلة لصده سوى باللجوء إلى القوة. كما يجب أن يوجه الدفاع الشرعي إلى الدولة مصدر العدوان.( اي ضد الولايات المتحدة ومصالحها في المنطقة). مع الاشارة الى أنّ شرط الضرورة ليس شرطًا جامدًا، بل يعتمد على ظروف كل حالة على حدة، ومدى التقدم في تكنولوجيا الحرب، ولا
    يتوقف على الخطر الذي تتم مواجهته بالفعل فحسب، بل أيضًا حجم الخطر المتوقع. اضافة الى ذلك يوفر شرط التناسب وهو مقياس عملي للرد الضروري لصد العدوان.
  • يتضمن حق الدفاع الشرعي في القانون العرفي افتراض تناسب القوة المستخدمة مع التهديد المواجه، من هذا المنطلق من حق الدول المستهدفة بالعقوبات ان تتخذ كل الاجراءات المناسبة لمواجهة هذا العدوان ودفع الخطر القائم.
    بما أنّ هذه العقوبات احادية الجانب وامريكية الصنع وتوقيتها مشكوك فيه أيضا، وهي ادوات حرب بامتياز، وبالنظر الى تداعياتها على الدول المستهدفة وعلى شعوبها لما تسببه من انهيار اقتصادي واجتماعي وتدمير للبنى التحتية والمدنية والحاجات الانسانية. ووفقا للقوانين والتشريعات الدولية التي تعنى بحماية حقوق الانسان وحقوق الشعوب، فمن حق هذه الاطراف المطالبة باسقاط هذه العقوبات التي تعتبر اداة اجرام دولي تنتهك حقوق الانسان وترتكب بفعاليتها القاسية جرائم واضحة يمكن تصنيفها ب”جرائم ضد الإنسانية” ( وفقا لاتفاقيات القانون الدولي الانساني/اتفاقيات جنيف 1949-النظام الاساسي للمحكمة الجنائية الدولية) لانها اداة حرب نظرا لخطورتها واثارها الوخيمة على الشعوب والقوى والكيانات المستهدفة بسبب ما ينجرّ عنها من تجويع، وتفقير، مع سبق الإصرار مما يمكن وضعه في خانة القتل العمد، إضافة الى ان أدوات الضغط هذه هي وسيلة للتحريض على الفتن والحروب الاهلية والنزاعات…). من هذا المنطلق تتحمل الولايات المتحدة الامريكية المسؤولية الدولية على كل التداعيات الناجمة عن الإجراءات العقابية التي تستخدمها في حق الدول والشعوب والكيانات المختلفة.

المستوى السياسي: إذا ما افترضنا أنّ ترسانة العقوبات الامريكية محدودة الفعالية وقد اثبتت التجربة الواقعية فشلها في تحقيق كل الأهداف المطلوبة (من اخضاع للدول، كسر للقدرات، تشتيت للإرادات، تحقيق الحلم الإسرائيلي بالبقاء والاستمرار في وجه قوى محور مقاومة يهدد وجودها …)، نظرا لصمود الدول والكيانات المستهدفة في وجه هذه الاليات القاسية ونظرا لقدرتها أيضا على خلق أدوات مواجهة عملية للالتفاف عليها واختراقها وبالتالي اسقاطها وافشال مفاعيلها. يبقى السؤال الأهم هنا لماذا تشن الولايات المتحدة حربًا اقتصادية إذا لم تنجح؟ لأنه ليس لديهم خيار آخر، ولا أدوات أخرى. عندما تضع قانونًا سياسيًا مثل قانون هيلمز-بيرتون بشأن كوبا وتوضح في العنوان 1 أن هذا القانون يهدف إلى الإطاحة بحكومة أجنبية (في عدم شرعية تامة وفقًا لمبادئ الأمم المتحدة): إما أن تسقطها من خلال الهبوط في خليج الخنازير عام 1961 لكنها لم تنجح، وإما أن تفعل ذلك من خلال العقوبات الاقتصادية، لكن هذا لم ينجح أيضًا. وعندما تفرض عقوبات ظالمة على إيران لسنوات وسنوات بهدف اسقاط النظام فيها واخضاعها للإملاءات الامريكية ثم تقرر بعد ذلك فتح باب للتفاوض حول برنامج نووي لدولة محاصرة ومحظورة دوليا لأكثر من ثلاثين عام فهذا دليل إضافي على أنك لم تنجح وان ادواتك لم تحقق المطلوب. وعندما تهدد لبنان، وتضغط عليه لاجل اقصاء عنصر أساسي من عناصر بنيته السياسية والاجتماعية والأمنية وهو حزب الله، فتفرض الحصار والإجراءات الخاصة لاستهدافه داخل الدولة ومؤسساتها واستهداف بيئته ثم يكسر هذا الحزب المقاوم حصارك، ويخترق قوانينك الظالمة ليثبت لك مرة أخرى أنك فاشل، وان قراراتك قوانينك لم تساهم الا في شي واحد، شدّ العصب السياسي والاجتماعي حول المقاومة وبيئتها، تأكد ان استراتيجيتك فاشلة وان اجراءاتك لا جدوى منها. ويطرح هنا سؤال اخر، هل الولايات المتحدة تتمادى اليوم مع مبدأ خارج الحدود الإقليمية هذا؟ يمكننا أن نرى أنهم في حرب اقتصادية مع الجميع: إنهم يفرضون عقوبات في روسيا وإيران وكوبا وفنزويلا، وضد الصين، وضد الاتحاد الأوروبي أيضًا، على الصلب والألمنيوم اللذين ينميان أوروبا لإعادة التفاوض على علاقاتها الاقتصادية مع الولايات المتحدة. كانت هناك الكثير من الصدامات الاقتصادية وهذا الانجراف يرجع إلى الإدارة الأمريكية، والسلطة التنفيذية، وليس السلطة التشريعية. انجراف ظهر بالفعل في إدارات أخرى قبل ترامب وأوباما وحتى كلينتون. يتم رفع الأصوات عبر المحيط الأطلسي في الأوساط الأكاديمية على وجه الخصوص، للقول “احرص على عدم المبالغة في تطبيق قوانيننا التي تتجاوز الحدود الإقليمية، ولا سيما مع حلفائنا”. لكن الخطر الكبير الذي يخشاه الأمريكيون هو نهاية الدولار. على سبيل المثال شعر الأوروبيون بالضيق لأنهم كانوا يشترون طائرات إيرباص بالدولار. بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي الإيراني (الذي أعلنه دونالد ترامب في مايو 2018) ، أنشأ ثلاثة أعضاء في الاتحاد الأوروبي نظام مقايضة لتجاوز إعادة فرض العقوبات: ألمانيا وإنجلترا والولايات المتحدة وفرنسا. الهدف هو السماح للشركات بمواصلة التعامل مع إيران في مجال الأغذية والأدوية. هذا هامشي للغاية لأن مشكلة إيران هي بيع نفطها. إذا لم تستطع فعل ذلك، فسوف تنسحب من الاتفاق النووي. هل سيتمكن الأوروبيون من شرائه دون تعريض أنفسهم للدولار: هذا هو السؤال الكبير. تبيع فنزويلا نفطها إلى الصين بالعملة الصينية، لكن الرد التقني ليس كافياً: هناك حاجة إلى رد سياسي في مواجهة الولايات المتحدة التي تقرر حظر الدول من الدول.
كأداة ضغط، لا ترقى العقوبات الاقتصادية إلى مستوى المواجهة العسكرية، لكنها أقرب إلى الحرب منها إلى الدبلوماسية. تعتبر الولايات المتحدة الامريكية ان نظامها المالي وخاصة الدولار هو الذي يقود العالم وعليه ان يبقى كذلك في المستقبل، فهو وحده يشكل ما يزيد قليلاً عن 60% من الاحتياطيات النقدية العالمية المعلنة لصندوق النقد وبحكم التجارب لدى بعض القوى الصاعدة التي نجحت في تخطي حاجز التعامل مع الدولار واتباع سياسة مالية مستقلة عن حضن الدولار وحتى اليورو، فمن الطبيعي ان نبدأ بالتفكير في كيفية تحرير نظامنا المالي والاقتصادي من هذه المنظومة الامريكية المدمرة التي اثبتت التجربة انها صنعت للهيمنة والسيطرة ولخرق السيادة وفرض السياسات والبرامج عن طريق القتلة الاقتصاديين (صندوق نقد دولي وبنك دولي وغيره) التي لا تخدم مصالح الدول والشعوب بل المصالح الامريكية التي تعتمد على سلوك مسلك الهيمنة الكاملة سياسيا واقتصاديا وامنيا.
ربما من الصعب الحديث عن فكّ ارتباط اقتصادي ومالي بالولايات المتحدة نظرا لخطورة الوضع ولنفوذ الدولار الأمريكي الذي يقود التجارة العالمية: حوالي 50 % من التجارة الدولية يتم دفعها بالدولار الأمريكي وفقًا لبنك التسويات الدولية. فللوصول إلى هذه الدولارات، تعتمد البنوك في جميع أنحاء العالم على العلاقات المالية المعقدة التي تمر عبر المؤسسات المالية في الولايات المتحدة، والتي تخضع قانونيًا لسياسة العقوبات الأمريكية. في الواقع ، يمكن لضربة قلم رصاص من واشنطن أن تجبر مصرفًا لبنانيًا على إغلاق أبوابه في وجه شخص أو شركة لبنانية. وغني عن البيان أن البنك من المرجح أن يفضل الوصول إلى النظام المالي الأمريكي بدلاً من العلاقة مع عميل خاضع للعقوبات بسبب امتثاله للمعايير الدولية.
لطالما أصر مسؤولو القطاع المصرفي اللبناني على امتثال النظام المصرفي اللبناني للعقوبات الدولية. أعلن محافظ البنك المركزي اللبناني، في يناير / كانون الثاني 2012، أنه لا يمكن لأي شخص و / أو منظمة خاضعة للعقوبات العمل مع البنوك اللبنانية. وأكد الرئيس التنفيذي لبنك بيروت، في عام 2017، أن المصارف اللبنانية لديها مصلحة واضحة في الامتثال للعقوبات الأمريكية. مع وضع هذه القوة المالية الهائلة في الاعتبار، يرى علماء السياسة الخارجية الأمريكية في الميدان وداخل القطاع الأكاديمي أن العقوبات أداة قوية للدبلوماسية القسرية. من هنا تأتي الضرورة الملحة لتغيير كل هذه المنظومة وإعادة بناءها من جديد وفق سياسات وخيارات اقتصادية ومالية جديدة بعيدة عن سلطة الهيمنة الامريكية.
تثبت التجربة مع الأمريكي في لبنان والمنطقة ان العقوبات وسيلة للضغط والهيمنة الامريكية تستخدمها كأداة حرب لكن فعاليتها محدودة وهذا دليل على ان كسرها واختراقها ممكن. الملفت ان إساءة استخدام العقوبات والمبالغة في استخدامها أيضا من قبل الأمريكي، يقوض المصالح الأمريكية ويعّرض “أهمية النظام المالي الأمريكي” للخطر. لكن مع ذلك يبدو أن نظام العقوبات الأمريكية مستعد للاستمرار في التوسع لان لا خيار اخر لديه، وعليه، فشل هذه العقوبات في تحقيق الأهداف المطلوبة جزء أساسي من العمل المقاوم ومن مقومات الصمود.

المصادر:

• -A Catalog of New U.S. Unilateral Economic Sanctions for Foreign Policy Purposes 1993¬96 (Washington, DC: National Association of Manufacturers, 1997).
• L’usage des sanctions économiques et diplomatiques dans la gestion des crises internationals.
• Études des cas d’Afghanistan (1979) et d’Ukraine (2014), Sophie Marineau, Québec, Canada2017.
• L’EFFICACITE DES SANCTIONS DE L’ORGANISATION DES NATIONS UNIES/DIANA CAROLINA OLARTE/CÉLINE FOLSCHÉ/2018.
• Les mutations des sanctions après la guerre froide,Ariel Colonomos,2014.
• SANCTIONS ÉCONOMIQUES: ARME MIRACLE OU ÉCHEC? N° 83 • novembre 2010.
• Effets des Sanctions Economiques sur la Santé et le Bien-être des populations, Richard Garfield, fevrier 2000.
• Guerre économique: “Les études montrent que les sanctions n’ont pas d’efficacité”, Maxime Tellier,2019.
• PERTINENCE DES SANCTIONS / RETORSIONS AU XXIEME SIECLE: MUTATIONS, OBJECTIFS ET MOYENS. 25 mars 2015.
• LES SANCTIONS DES NATIONS UNIES ET LEURS EFFETS SECONDAIRES Assistance aux victimes et voies juridiques de prevention, Djacoba Liva Tehindrazanarivelo,2005.
• LES SANCTIONS: L’ARME ÉCONOMIQUE DANS LE NOUVEL ORDRE MONDIAL Michel Rossignol،Division des affaires politiques et sociales،Octobre 1993

-ميثاق الأمم المتحدة 1945/ اتفاقيات جنيف 1949 والملحقات 1977.
-ترسانة القوانين الامريكية المختلفة المتعلقة بفرض العقوبات على الكيانات الخارجية والدول.

مركز الاتحاد للابحاث والتطوير

اساسي