ستجوس المقاومة خلال الديار الفلسطينية

«أيها المارون بين الكلمات العابرة
آن أن تنصرفوا
وتقيموا أينما شئتم ولكن لا تقيموا بيننا
آن أن تنصرفوا
ولتموتوا أينما شئتم ولكن لا تموتوا بيننا
فلنا في أرضنا ما نعمل»
محمود درويش

أنا شخصياً على يقين من انتصارنا على إسرائيل وسنحرر أرضنا، وسيعود لاجئونا إلى فلسطين، لكنني لست متيقناً من مصير المستوطنين الصهاينة في أرضنا المحررة أو من استعدادنا السياسي، والاقتصادي، والنفسي، والقانوني للتعامل معهم كطرف مهزوم. وما يدهشني، حقاً، هو ثقة الكثير منا بأن هؤلاء المحتلين سوف يرحلون ما إن نهزمهم عسكرياً، ويتركون لنا أرضنا لنفعل بها ما نشاء، كما تقول قصيدة محمود درويش (توفي 2008م) الخالدة «أيها المارون». درويش يتمنى، محقاً طبعاً، أن يختفي المحتلون من أرضه. هنا ألاحظ مفارقة مزعجة، وهي أن أمنيته تشبه، من حيث عدم واقعيتها، أمنية إسحق رابين، رئيس وزراء الكيان الصهيوني المقتول (قتل في 1995م)، الذي تمنى أن يصحو يوماً فلا يجد غزة، ولا أهلها، إلا وقد ابتلعهم البحر.
هناك اليوم في فلسطين التاريخية قرابة 7 ملايين «يهودي» إسرائيلي، أحد التقديرات غير الرسمية يقدر حملة الجنسية المزدوجة بينهم بحوالى 10% على أقل تقدير، وأظن أن الرقم أكبر بكثير. هؤلاء أغلبهم ولدوا في فلسطين المحتلة، وأغلبهم لم يعرفوا وطناً آخر غيرها، ما يعني أن هزيمة جيشهم عسكرياً على أيدي المقاومة، وتحرير أو فتح أو غزو، سمّه ما شئت، مستعمراتهم أو «مدنهم»، قد لا يعني في النهاية هروباً أو نزوحاً جماعياً بالشكل الذي نتوقعه، حتى لو كانوا يمتلكون جنسيتين، وعقارات في الخارج.

«القدس لنا، والنصر لنا» 1977، ملصق للفنان السوري برهان كركوتلي (1932- 2003)

في التاريخ عادة لا يحدث نزوح جماعي كبير من دون تطهير عرقي، كالذي مارسته العصابات الصهيونية عندما احتلت أرضنا، كما في مذبحة دير ياسين 1948م، وقبية 1953م ضد شعبنا. من دون تطهير عرقي أشك في أن «تطهر» فلسطين من المستوطنين، لكن علينا أن نكون واضحين، إذ إن مثل هذا «التطهير» حقير، كريه، بشع، لا يشبه تاريخ فتوحنا الذي نعرف. نحن نعلم علم اليقين أن المقاومة الإسلامية أكبر من أن يتورط رجالها بأعمال كهذه، لاختلاف تركيبتهم العقائدية، والأخلاقية، عن عصابات الأرغون والهاغاناه المجرمة.
تعامل خطاب المقاومة، عبر السنوات الماضية، مع كل المستوطنين كعسكر لا مدنيين بينهم، وبما أن المجتمع الإسرائيلي كان مجتمعاً متعكسراً بحق، فخطاب المقاومة اكتسب قدراً من الواقعية، نظرياً على الأقل، في عدم تمييزه بين مدني وعسكري في المجتمع الصهيوني. لست خبيراً قانونياً هنا، لكن المسألة ستتغير برأيي، ما إن يُهزَم جيش العدو، وتجد المقاومة نفسها أمام بضعة ملايين من الناس المذعورين، متمترسين في بيوت وملاجئ وأبنية، لا جيش يحميهم من دون ميليشيا، ولا يمكن وصفهم حينها بالعسكر، فيجب عدم التعامل معهم إلا على هذا الأساس.
أعرف الجواب السهل: هؤلاء محتلون مجرمون يستحقون الطرد والتهجير وليس لهم أي حقوق في أرضنا. صحيح، فهذا حلم أي فلسطيني يريد وطنه كما كان قبل الاستعمار، كما حصل في الجزائر، التي لربما كان الحل فيها مثالياً، لأي مقاوم جزائري، فقد رحل أغلب المستوطنين الأوروبيين إلى فرنسا. حصل هذا بفضل نضال الجزائريين وصمودهم، وبعد أن أعطى الرئيس الفرنسي شارل ديغول (توفي 1970م) فرصة بدء حياة جديدة في فرنسا للمستوطنين الأوروبيين، وكانت فرصة مثالية للجزائريين ليبنوا بلدهم ويرمّموا هويتهم وحدهم وعلى مهلهم.
لكني لا أظن أن ذلك سيتكرر في فلسطين، ونقاشي هنا، ماذا لو لم يحصل؟ ما هو الحل عندما سيتمترس الكثير من اليهود الإسرائيليين في بيوتهم، إن لم يفتح الغرب، لغاية في نفسه، أبوابه لهم ليهاجروا إليه؟ هل سنصوّب فوهات مدافعنا إليهم حيث يتمترسون، ونقصفهم مع أطفالهم وشيوخهم، كما كانوا يفعلون بغزة مثلاً؟
العراق اليوم يواجه تجربة مشابهة نوعاً ما، وهي أن الآلاف من الأسر الداعشية، التي لفظتها مناطقها على أسس عشائرية، يعيشون اليوم في مخيمات عزل في الصحراء. هؤلاء هم طبعاً من أبناء عشائر سنية لفظتهم عشائرهم أو عشائر سنية مجاورة، وفق التقسيم الطائفي الدارج، بسبب مشاركة أبنائهم أو آبائهم في قتل الأبرياء.
ما هو الحل بالنسبة إلى هؤلاء؟ هل يجب أن تظل آلاف النساء والأطفال في مثل هذه المخيمات؟ قد يكبرون غداً ويكونون أشد تطرفاً من آبائهم، وتعود دورة الدم. السؤال في ما يخص الصهاينة بعد أن يُهزموا، ماذا سنفعل بهم إن لم يجدوا ملجأً يرحلون إليه أو لم يرغبوا في الرحيل؟
الآن من كان منّا يؤمن بحقنا في التطهير العرقي المعاكس، سؤالي له هو كيف ستقوم به؟ من سينفّذه؟ المقاومة الإسلامية؟ حماس والجهاد الإسلامي؟ أم جهاز الأمن الوطني الفلسطيني؟ أم أننا سنترك شعبنا العائد من مخيمات الشتات يتعامل معهم على طريقته؟
قد يقول قائل لنترك الشعب الفلسطيني يقرر باستفتاء مثلاً، وهذا رأي الإمام الخامنئي، وأنا أوافق على مسألة استفتاء الشعب، لكن كيف سننفّذ قرار الطرد الشامل لكل هذه الملايين، إن كان هذا قرار الشعب.
لست خبيراً قانونياً، لكنني أعرف أن مَن وُلِد بمكان، كائناً من كان، له حقوق ما في الأرض التي وُلد فيها. لا أدري إن كان هناك فقرة في القانون الدولي تسمح لشعب بأن يحكم على كتلة بشرية في مكان ما، أياً كانت طبيعتها القانونية، بما يريد.
برأيي المتواضع، أعتقد أن علينا التعامل مع الحقائق التاريخية على الأرض كما تعامل أسلافنا عبر التاريخ مع حالات مشابهة في منطقتنا، أي على قاعدة أن ما حصل قد حصل، بمعنى أن هناك ملايين الإسرائيليين الذين وُلِدوا في فلسطين، ولربما علينا أن ندمجهم لا أن نحلم باختفائهم.
لكن من ناحية أخرى، سيشكل الكثير من هؤلاء، ولا أقول جميعهم، طابوراً خامساً للغرب من دون شك، وسينظرون بفوقية دائماً إلى الأغلبية العربية المسلمة حولهم، وسيتحيّنون الفرص للانفصال أو الحصول على حماية دولية ما، أي إن مشاكل وتحديات كبيرة ستنشأ عن بقائهم من دون شك.
لا أعرف كيف يرى الفكر القومي والشيوعي هذه المسألة، لكن القوميين أحياناً كثيرة يخيفونني، ولدى بعضهم حلول لا أريد أن أكون جزءاً منها. وصراحة، لتذهب الى الجحيم نظرية فرانز فانون (توفي 1961م)، التي يتشدق بها الكثير منهم، عن العنف المضاد لاستعادة توازننا النفسي. الآن مع حبي وتقديري لكتابات الرجل، لكن إن كانت هذه النظرية ستوظف لقتل وسحل وحرق سكان عُزَّل حتى لو كانوا أسر الصهاينة أو من الدواعش، فهذه المعركة لا تعنيني.
للأمانة يذكر لي صديق أنه حتى فانون دعا إلى أن لا يكون فعل التحرير ضمن عملية نوستالجيا ساذجة لإحياء ماض متخيل مر وانتهى ولا يمكن استعادته. حقيقة أن فعل التحرير ليس هو لاستعادة الماضي، بل لانتزاع المستقبل، الذي قد يكون بعض أبناء أو أحفاد عدوك اليوم جزءاً منه غداً.
بالنسبة إليّ، فإن العنف «الفانوني»، نسبة إلى فانون، تحقق من خلال فعل المقاومة المسلحة بهزيمة جيش العدو وكسره وإذلاله، في حرب تموز 2006، وغزة 2021، والحرب الفاصلة القادمة التي ستنهي هذا الجيش إلى الأبد. بالنسبة إلي، هنا تقف النظرية الفانونية بالنسبة إلى العنف، أما فيما يخص المستوطنين العزل، فتصبح القصة مستنقعاً لا أريد رؤية أحد، ولا حتى شرطتنا، يغوص فيه.
أما النظرة القومية الحاقدة والمأزومة، التي عرفت على مدى الـ200 عام الماضية، فقد حدثت باسمها عمليات تطهير عرقي وقومي مخيفة ومقززة، وراح فيها ضحايا كثر، (أتراك، أرمن، يونانيون، يوغوسلافيون، كرد، عرب، روس، أوكران، بولونيون، والقائمة تطول). أنا شخصياً نادراً ما أصادف تركياً أو يوغوسلافياً متزناً بهذا المعنى، بالرغم من كل عمليات القتل المضاد، التي قامت بها هذه الأمم بعضها ضد بعض وضد جلاديها السابقين.
أما الشيوعيون اليوم، فأخشى أن يكرروا قصة التقسيمات القطرية العرقية الفاشلة، كأن نقسّم فلسطين بين جزء عبري وآخر عربي وما إلى ذلك، وننتظر شهادات حسن سيرة وسلوك من المجتمع الدولي، والرفاق في الاشتراكية الدولية (اقرأ الغربية).
حقيقة، أنا هنا أميل إلى سبر غور تراثنا القانوني الإسلامي، لكن بما أني غير مطّلع ما فيه الكفاية على تراثنا الفقهي، فسأسلّط الضوء على التراث الشرقي القديم في التعامل مع ما يشبه هذه الحالة. ولا أخفي أنني مع تفعيل الحلول القانونية الدولية التي تراعي حقوق الإنسان، بعد أن نحسم نصرنا العسكري، لإرجاع حقوق شعبنا في فلسطين كاملة ما أمكن، وينال الظالم عقابه، مع الحرص على أن لا نظلم أي إنسان إن كُتِب لنا النصر.

المعضلة الشامية
مرّ صلاح الدين الأيوبي بمعضلة تشبه معضلتنا، والذي لا يدرك أننا أمام معضلة وفرصة لا يزال يبيت بين أبيات القصائد والأغاني. لم يكن عصر صلاح الدين عصر جهاد كما صوّر لنا الإعلام الإخواني وحتى العروبي بالمعنى الذي نفهمه. لم يكن جنود صلاح الدين يشبهون مقاتلي حزب الله وحماس. كان هناك قوة جهادية دينية متحمسة، لكن هذه القوة كانت صغيرة.
جزء كبير من جيش صلاح الدين كان إقطاعياً عشائرياً. فقد اعتمد بشكل كبير على مساهمة أمراء العشائر الكردية والتركمانية والعربية من شمال العراق والجزيرة الفراتية وشمال إيران والأناضول وبلاد الشام وباديتها.
القوات الإقطاعية بطبيعتها جيوش موسمية، فلم يكن كل هؤلاء يقدرون أن يظلوا طوال العام متفرغين لقتال الصليبيين، ولم يكن هؤلاء من يتعامل مع الخطر الصليبي كقضية القضايا، في حينها، كما هي بالنسبة إلى جمهور المقاومة اليوم. بل كان الموضوع الصليبي قضية مزعجة له «كمسلم»، وأنا إذ أضع كلمة مسلم بين هلالين لأن أغلب هؤلاء المقاتلين عشائر لها إسلام «سطحي» إلى حد كبير، وهويتهم العشائرية طاغية أكثر عليهم من إسلامية عماد مغنية ويحيى عياش.
كان المقاتل من هؤلاء قد قضى معظم حياته يقاتل تركماناً وكرداً مسلمين مثله، أكثر ممّا كان يقاتل الصليبيين أو الروم. فهذه الحقبة التي ولدت فيها أسطورة «السيد» القشتالي، أي المرتزق الذي يقاتل دفاعاً عن مصلحته في كل أرجاء حوض البحر المتوسط. ومن بين هذه الأجواء كان على صلاح الدين، الداهية في نظري، أن يخوض جهاده بقوم أمراؤهم يبحثون عن مراعٍ، وإقطاعيات، ومال، إلخ.
كان تحرير الشام، عملياً، فتحاً جديداً للشام، وليس مشروعاً لإعادة المهجرين كما هي خططنا اليوم لفلسطين، بل كان على صلاح الدين، ودولته الإقطاعية لاحقاً، أن يوطنوا عشائر كردية وتركمانية وعربية، لقاء تحريرهم هذه «الأرض الجديدة». من دون هذه السياسة ما كان لهذا المجتمع العشائري الجديد أن يصمد في بر الشام عموماً، لأنه من دون هذا، سيقتلع المسلمون مرة أخرى بسهولة، لو هبّت حملات صليبية كبيرة.
بمعنى آخر، كانت جبهة بلاد الشام حرباً مكلفة وخاسرة بالنسبة إلى المشرق الإسلامي العميق (العراق، الجزيرة، إيران، خراسان)، لو طالت سنين حربها، رغم قدسية أرضها، لذا كان لا بد من توطين المحررين، ولربما اعتماد سياسة الإقطاع.
في الحقيقة، أدرك الفرس الساسانيون (224 م – 651 م) هذا الأمر مبكراً، لذا لم يعدّو بلاد الشام جزءاً من بلادهم المقدسة المسماة (ايريانا فايجاه)، والتي اشتُقَّ منها اسم إيران. لم ينازع الساسانيون الرومَ كثيراً على بلاد الشام، ولم ينجحوا قطّ في الحفاظ عليها، لأن الوصول إلى بلاد الشام بحراً من أوروبا، على متن سفن تحمل أطناناً من الجند والموارد أرخص وأسرع وأكثر أمانا، من تحشيد أمراء إقطاع ونقلهم عبر الصحاري والجبال من إيران والعراق إلى الشام. الشام بطبيعتها منطقة صغيرة نسبياً لا تتحمل كثافة بشرية بدوية كبيرة، وإن وزعت عليهم إقطاعاً ما كفتهم.
العنف «الفانوني» تحقق من خلال فعل المقاومة المسلحة التي أدّت إلى هزيمة جيش العدو وكسره وإذلاله، في حرب تموز 2006، وغزة 2021. تلك حدوده!

من هنا نفهم لماذا بقيت بلاد الشام خاصرة رخوة للعالم الإسلامي والعالم الشرقي القديم قبله. لقد استفاد المسلمون كثيراً من قصة القدس كأرض معراج، و من كونها قبلة المسلمين الأولى، ومسألة أن لا تظل هذه الأرض محتلة، لأنها إن سقطت انكشفت أرض الخلافة والمقدسات في العراق والحجاز.
الشام خاصرة إسلامية بامتياز، وهي قد تعززت مؤخراً، حين اخترع الشيعة المجاهدون شعار «لن تسبى زينب مرتين»، هذا الشعار حوّل مئات الآلاف من اللبنانيين، والعراقيين، والإيرانيين، والأفغان، إلى مقاتلين مستعدّين للذود عن مقام السيدة زينب، الذي هو عملياً ذود عن دمشق.
مقام السيدة زينب هنا هو «الرمز الكودي» لدمشق، ومن يصل دمشق من المشرق العميق، أي من إيرانيين وعراقيين وأفغان، يصل ليشد عضد إخوانه في الجبهة العاملية في لبنان. هذا التطور في نمو العقلية الاستراتيجية الإسلامية، جدّد ربط الشام بقلب المنطقة الديموغرافي. هناك في المشرق العميق، في بلاد الرافدين الغنية وإيران المنيعة والممتدة إلى خراسان الثرية، تكمن الكثافة البشرية للشرق القديم.
المساهمة الإسلامية هنا ثورية من الناحية الاستراتيجية. فتأسيساً على ربط الدولة الآسيوية الشرقية القديمة (إمبراطوريات آشور وبابل وفارس) المنطقةَ بعضها ببعض، تمثلت المساهمة الإسلامية في إضافة بلاد الشام، عبر القدس، كأرض مقدسة لا بدّ منها لتكتمل المملكة المقدسة. ولم يتحقق ذلك إلا بفضل الإسلام، الذي أعاد رسم الخريطة الذهنية للأمن الجماعي للمنطقة في ذهن أي إمام يظهر.
أيقن صلاح الدين أن معظم عسكره وأمراء جيشه انحدروا من تلك الكتلة الآسيوية الكبرى، غير المتوافرة دوماً. لذلك برأيي أن صلاح الدين كان حكيماً في حربه مع الصليبيين، غير متطرف ولا متهوّر، لأنه يعرف أن البابوية وخلفها ملوك أوروبا ليس لها مخرج آخر سوى جبهته الشامية المصرية، ويمكن لهم رغم خلافاتهم أيضاً، أن لا يكفوا عن الإغارة عليه.
لنأخذ فكرة عن طريقة تعامله مع صليبيي القدس، إذ يذكر ابن الأثير (توفي 1233م) أنه أثناء حصار قوات المسلمين للقدس في عام (1187م) جرت مراسلة درامية بين السلطان صلاح الدين الأيوبي (توفي 1193م) والنبيل الإفرنجي الذي كلف بالدفاع عن المدينة.
اسم هذا الرجل في التراث العربي هو باليان بن بارزان، لكن الغريب أن المصادفة جمعت هذا الإفرنجي مرتين بصلاح الدين، مرة حين كُلِّف – بالصدفة على ما يبدو – بالدفاع عن القدس المحاصرة من قوات السلطان المسلم، ومرة حين رحل عن هذا العالم في العام نفسه الذي رحل فيه صلاح الدين، أي سنة 1193م. كانت القدس يومها ملجأ مكتظاً بالصليبيين وأسرهم، وهم الذين فرّوا بعد أن هُزِموا وأُجلوا عن أغلب البلدات الفلسطينية.
لم يكن وضع التعامل مع باليان مريحاً بالتأكيد، فلقد طلب من جيوش المسلمين عهد أمان يسمح للصليبيين بالخروج آمنين إلى حيث يشاؤون. وقتها رفض صلاح الدين، لأن المسلمين كانوا قد رفضوا عرضاً مشابهاً سابقاً. فجاء رد باليان، بحسب ابن الأثير كالآتي:
«أيها السلطان، اعلم أننا في هذه المدينة في خلق كثير، لا يعلمهم إلا الله! وإنما يفترون عن القتال رجاء الأمان، ظناً منهم أنك تجيبهم إليه كما أجبت غيرهم. وهم يكرهون الموت، ويرغبون في الحياة. فإذا رأينا الموت لا بد منه، فوالله لنقتلن أبناءنا ونساءنا، ونحرق أموالنا، وأمتعتنا ولا نترككم تغنمون منها ديناراً واحداً ولا درهماً، ولا تسبون وتأسرون رجلاً ولا امرأة. وإذا فرغنا من ذلك أخربنا الصخرة والمسجد الأقصى وغيرهما من المواضع، ثم نقتل ما عندنا من أسارى المسلمين … ولا نترك لنا لا دابة ولا حيواناً إلا قتلناه، ثم خرجنا إليكم كلنا فقاتلناكم قتال من يريد أن يحمي دمه ونفسه، وحينئذ لا يقتل رجل حتى يقتل أمثاله».
(ابن الأثير، الكامل في التاريخ جزء 10، ص 156)
عرض صلاح الدين الأمر على قادة جيشه وفقهائه فمالوا إلى منحهم الأمان مقابل أن يسلموا المدينة، ويدفعوا تعويضاً متواضعاً عن صغيرهم وكبيرهم (يقارب الـ50$ اليوم). بذلك استرد المسلمون القدس، ورحل الفرنجة عنها، مع وقوع حالات أسر، لأن كثيراً منهم عجزوا عن الدفع، حتى قيل إنه وصل سعر العبد منهم قيمة النعال.
مع ذلك، يُعدُّ سلوك صلاح الدين، بمقاييس ذلك الزمان، متسامحاً، بعكس الصليبيين مثلاً الذين حين احتلوا المدينة سنة 1099م قتلوا كل من فيها، مسيحيين ومسلمين ويهوداً.
لكن تسامح الرجل أيضاً يشي بأن طاقات الأمة لم تكن مسخّرة له، فبسلوكه «الكريم» مع عدوه الأحقر، كان يريد أن يتجنّب ارتكاب مجازر قد تستفزّ قارة أوروبا فتتحشد كلها ضده. لربما لا يختلف وضع محور المقاومة كثيراً عن وضع محور صلاح الدين–زنكي في وقتها، فلا بد من القتال بحكمة. لأنك حينها لا تريد أن تغوص في قصص قمع بعد أن تكون قد حررت أرضك، ولكن قد تسعى لتتفرغ للتنمية.

الأندورادو، من تراث العدالة
سألني صديق إنكليزي عن إصرار العرب على عودة اللاجئين، ورفض توطينهم حيث هم، وإذا كانت هناك سوابق لعودة لاجئين في تاريخنا. فأجبت، لن نقبل بأن تفقد فلسطين هويتها العربية، ومن ناحية أخرى ليس من العدل أن لا يعود الفلسطيني إلى أرضه، وسنعيدهم. رغم أني للأمانة كنت أتمنى أن يوطن العراق بضعة ملايين من السوريين والفلسطينيين والأكراد، وحتى الأرمن في جنوبه الخصب، بدل إذلالهم وتشريدهم وقتلهم، ليستفيد الجميع. الفلسطينيون والشاميون عموماً مجتمعات منتجة، وقد خسر العراق بتهجيره وطرده حصته من اللاجئين الفلسطينيين، بغض النظر عن الملابسات السياسية في حينها.
إحدى أهم سوابق عودة المهجرين إلى أرضهم، هي عودة المهجرين الآشوريين في الألفية الأولى قبل الميلاد، لأنها شكلت شرارة غيّرت تاريخ المنطقة لاحقاً؛ إذ إن كثيراً من المزارعين الآشوريين هٌجّروا من ضفاف الفرات، من قبل الرعاة الآراميين.
شكلت عودة المهجرين أزمة في الوعي الآشوري القديم، وكانت سبباً من الأسباب التي فجّرت الحملات الآشورية «لإعادة تنظيم المنطقة» «وفرض العدل والقانون»، وفي الخطاب الآشوري الملكي، كانت هذه مهمة مقدسة. حقيقة، إن من يقرأ هذه النصوص، كأنه يقرأ اليوم عن عودة فلسطينيين إلى قراهم وحقولهم، والملك الآشوري يظهر كفاتح عادل أمين لرسالته الإلهية بعودة المهجرين.
لكنّ الآشوريين فهموا، كصلاح الدين الأيوبي، أن مئات الحملات العسكرية لن تنهي الحالة البدوية الرعوية الآرامية المتمردة والمتمرسة بحرب الغوار. لذا كان من الضروري أن يعيدوا المزارعين من ناحية، ويعوّضوا الرعاة الآراميين «الغرباء» من ناحية أخرى، ويدمجوهم في نظامهم الناشئ.
يبدو أن الآشوريين خيّروا الآراميين بين أمرين، إما القتل بالسيف، أو الالتحاق بسلك الجندية الآشورية؛ انقسمت عشائر الآراميين، فمنهم من تمّت إبادته، ومنهم من اندمج في الجيش.
ما يهمنا هنا هو المبدأ الذي اعتُمِد، والذي يبدو أنه أُخِذ من تراث السياسة المالية الرافدينية الخاصة بإدارة وإلغاء الديون غير التجارية، والذي كان تقليداً رافدينياً عريقاً، يقضي بإلغاء ديون الفلاحين وتعويض البلاط الدائنين، أفراداً كانوا أم معابد. هذه السياسة كانت تُعَدُّ أحد أركان العدل في حضارة بلاد الرافدين، ولربما في كل المشرق القديم.
المبدأ كان يسمى في لغتهم الأكدية (أندورادو)، وتطورت الكلمة في العامية الآشورية لتصير (دورادو)، وتعني الكلمة (ترميم، إلغاء ديون، إحياء) وكان هذا المبدأ جزءاً من عملية أشمل، كل ملك آشوري (ورافديني) ملزم نظرياً بها، وتسمى (ميشاروم)، وتعني إقامة العدل، والتي تشمل تحرير العبيد، وإلغاء الديون، وإعادة الأراضي التي بيعت لتسديد الديون إلى أصحابها الأصليين. عملية «الترميم» هذه، أو الدورادو، شملت كل الإمبراطورية الآشورية من زاغروس إلى النيل (Blok & Krul: p628, 2017).
إقامة العدل كانت جزءاً من طقوس تقام عند تتويج الملك الآشوري، وكانت تُحيا كل عام في الأعياد، وفيها تُتلى فقرات من القوانين الرافدينية تلك، بلغة أكدية رسمية، في المعبد الرئيسي ببابل ونينوى، وكانت توزع فقرات من تلك القوانين في أرجاء الإمبراطورية كافة لتحفظ في معابدها، وكان بعض أبناء الإمبراطورية من كل الأجناس يحفظون بعض هذه الفقرات عن ظهر قلب (Blok & Krul: p635, 2017).
هنا يبدو أن إعادة المزارعين الآشوريين إلى أرضهم، المحررة من الآراميين الغزاة، كانت تخضع للمبدأ نفسه، والقاضي بأن تعيد الحق إلى صاحبه، تعاقب أي متجاوز، بالسجن أو القتل، وتعوض في النهاية كل الأطراف، بشكل ما، حتى يستقيم العدل وتستقر دورة الإنتاج، وتستمر الحياة.
سترث مبدأ الأندورادو الرافديني هذا ثقافتان لاحقتان بفترات متفاوتة زمنياً، هما الإغريقية واليهودية، ولربما ثقافة ثالثة هي العربية-الإسلامية، إذا صدق تأويلي. أول من أخذ بمبدأ الأندورادو من الإغريق كان المصلح الإغريقي الشهير صولون (توفي 560 ق. م.)، والذي طوره ولم يقف عنده. تعرّف صولون على هذا القانون على الأغلب بسبب تردّده إلى الموانئ الفينيقية في بلاد الشام، التي كانت خاضعة للآشوريين حينذاك، بحسب ما يرى كلّ من جوسين بلوك وجوليا كرول (Blok & Krul: 2017).
لصولون أهمية كبيرة في الفكر السياسي الإغريقي القديم، وحتى في حقل الدراسات الكلاسيكية، خاصة في ما يخص خطاب الحقوق والحريات، وهو الذي اقتبس قوانينه من المبدأ المذكور نفسه.
سيقتبس اليهود هذا التراث من خلال التوراة، وسترد فقرات حول هذا المبدأ في نصوص العهد بين موسى وربه، وسيكون جزءاً أساسياً من التراث القانوني اليهودي، وسيُعرف هذا المبدأ (بدئرور) لديهم. المثير في كل ذلك أن قوانين صولون الإصلاحية وردت كقصائد شعرية، بينما حفظت التوراة فقرات دينية شبه كاملة للقوانين الآشورية تلك، وظلت تلك القوانين تُتلى شعراً بعد قرون من زوال سلطة آشور (Blok & Krul: 2017).
هل هناك مبدأ مشابه في التراث الإسلامي لتعويض الفلاحين وإسقاط الديون عنهم؟ لست على علم بذلك، لكن هناك مسؤولية على عاتق بيت المال وعموم المسلمين لصرف بعض الزكاة لتسديد ديون العاجزين والفقراء لدى بعض الفرق الإسلامية. هناك أيضاً مبدأ «لا ضرر ولا ضرار» وهو حديث حسن عن ابن باجة (توفي 1138م)، وبَنى عليه بعض الفرق الإسلامية السنية قاعدة فقهية تدخل في باب جلب المصالح ودرء المفاسد، أي إنك لا ترد على ضرر بضرر مثله يؤدي إلى خراب المجتمع ككل.
نحن اليوم أنضج حضارياً، من التركيبة القانونية الرافدينية البائدة، فهل سنعجز عن تكرار ما فعله الآشوريين بدمج المهزوم، وكما فعلت الحضارة العربية الإسلامية لأكثر من ألف عام؟

سورة الإسراء، تاريخ ونبوءة
«فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ ۚ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولًا»، الآية 5.
بحسب المفسّرين، فإن الذين جاسوا بين الديار كانوا جيش نبوخذنصر (توفي 642 ق. م.) الكلداني ملك بابل. نحن نعلم ما حصل وقتها، وهي أن الكلدان سبوا نخبة أورشليم ونقلوهم ألى أرض العراق ودمجوهم في دورتها الاقتصادية. وكما جاس نبوخذنصر خلال الديار في تلك الحقبة، ستجوس المقاومة خلال الديار الفلسطينية، مرة أخرى، لكن من المؤكد أننا لن نسبي ونستعبد أحداً، ولا حاجة إلى قتل مسالم، فهذه قوانين الحرب واضحة.
أعتقد إن هُزم الكيان وتفكك، فسينقسم سكانه، فمنهم من سيهادن ويسعى ليندمج فينا ومنهم من سيهاجر. ساعتها سيشكل الباقون قومية جديدة بيننا، لربما نسميها «اليهود العبريون»، ويعيشون حالهم حال الأرمن والتركمان مثلاً، سيكون فيهم المخلص لنا والخائن.
قد يقول قائل لكن هؤلاء ليسوا جزءاً من المنطقة. أعتقد أننا نبالغ قليلاً في هذا المبدأ، وهو مبدأ عنصري، لا معنى له. الوهابيون أبناء المنطقة هل هم أقل خطراً منهم؟ هل الوجود الإماراتي في سوقطرة أقل خطراً؟ من قال ذلك؟ لنفترض أن أقلية بريطانية بقيت في البصرة بعد جلاء الاحتلال البريطاني عن العراق، هل كنا سنقتلهم ونشردهم جميعاً؟
لذا، إن لم يتحقق السيناريو الجزائري، وهو السيناريو الأفضل برأيي، فعلينا ربما أن نفكر بجدية في دمجهم، على أن يكون أول القوانين التي يجب أن تُسَنَّ هو تجريم الصهيونية، لنضمن أن يتم التعامل معها كفكرة عنصرية، لا يمكن السماح بالترويج لها. لكن علينا أن نكون واضحين أننا نهيّئ قوانيننا ومناهجنا التعليمية على ألا تكون عنصرية ضد اليهود كيهود، ومناهجنا لحد الآن مليئة بالعنصرية.
نحن أيضاً بحاجة إلى خطاب، وإلى مشروع وطني جامع، ضروري هنا، ليس فقط لدمج بقايا المستوطنين، ولكن لإعادة ربط شرائح شعبية كثيرة، من شيعة وسنّة ومسيحيين وأكراد وعرب وتركمان وغيرهم، ممن جرفتهم موجة التغريب، بالوطن أو الهوية الجامعة، بعد أن صار رهانهم الوحيد هو اللحاق بدورة الاقتصاد الغربي.

الخيال العلمي في السياسة
يتحدث الفرنسيون عن خيال علمي في السياسة، والذي من دونه لا يمكن أن تتصور مستقبلك، في تصوري، لا أظن أن كياناً فلسطينياً، أو شامياً حتى، سيكون في وسعه أن ينجح في دمج اليهود العبريين. نحن بحاجة إلى كيان عربي-إسلامي جامع، يجمعنا بإيران كمرحلة أولى، وعلى أن تكون هي المركز الآن على الأقل.
ببساطة، لا أرى أي قطر عربي أو إسلامي آخر مؤهل للعب هذا الدور، لذلك أنا وإن لم أكن متديناً، فلا أعرف لماذا عليّ أن أتمرّد على تراث حكم عمره آلاف السنين في منطقتنا لمصلحة عصبية قومية أو قُطْرية مستورَدَة أثبتت محدوديتها.
بحسب فهمي لمسار التاريخ، أحب أن أطمئن من يخشى هذه الفكرة، أقول له إن مركزية إيران لن تدوم، فميزان القوة لا بد أن ينزاح شرقا أو غرباً، وقد يعود إلى إسطنبول، أو القاهرة أو الجزائر، من يعلم! أقول ذلك لأني أعلم أن البعض سيبكي إن غدت طهرانُ، وليس عاصمته القُطْرية أو ضيعته السياحية، مركزَه.
بكيان كبير جامع كهذا، تقوده نخبة متمرسة، تتحكم في سوق واسعة، وفق نظام فدرالي ما، يمكن حل المسألة اليهودية. بكيان شاسع يمتد من غزة إلى مشهد، سيكون وجود مليون أو حتى 6 ملايين يهودي عبري فيه تفصيل تافه، كوجود الأقلية التترية في بحر الشعوب السلافية اليوم. حينها، ستصبح قصص العنف الإسرائيلية حكايا إثارة تروى ولا تخيف، كقصص العنف التترية في روسيا اليوم.
لكن ما لن يُنسى ويدوم ذكره، هو أسطورة صمود الفلسطينيين في أرضهم، وتحول القرويين المساكين من جنوب لبنان إلى قادة التحرير في كل الإقليم. ذلك هو الخيال العلمي الذي دار أول مرة في رأس الإمام الخميني، وحققه أبناؤه له ولنا.

حسن الخلف – الأخبار