الأبعاد النفسية والاجتماعية للمواجهة في زنزانات التحقيق

يُعدّ المشروع الصهيوني مشروعاً استعمارياً احتلالياً اقتلاعياً، قائماً على العنف في جوهره، معادياً للمحيط، استغلالياً للحضارة والجغرافيا ولجميع العلاقات القائمة،[1] ويتعدى المشاريع الاستعمارية قاطبة بكونه نابعاً من قلب النظام الرأسمالي العالمي ككل، وليس مرتبطاً ببلد متربول واحد كغيره، علاوة على أنه وحده مَن خلق مشكلة اللاجئين لسكان البلد الأصلانيين – الفلسطينيين.[2] وبناء عليه، فإن من الطبيعي أن يكون طابع الصراع بين هذا المشروع الغريب والفلسطينيين أبناء البلد، صراعاً تناحرياً يسعى كل طرف فيه لنفي الآخر، وتوظيف جلّ أدواته من أجل تحقيق هذا الهدف. وإحدى الأدوات التي يمتلكها الطرف المهيمن في معادلة الصراع هذه هي السجون التي يهدف من خلالها إلى قمع وتكميم أفواه الفلسطينيين، واحتجاز ما يمكن من إرادتهم والتنكيل بهم.

تتناول هذه الدراسة بُعداً من أبعاد السجن، ومرحلة مهمة منه هي مرحلة التحقيق التي يتعرض لها الأسرى الفلسطينيون، كما تركز على الأبعاد النفسية والاجتماعية التي تؤثر في نتائج المواجهة في التحقيق.

I – السجن

رأى البدائيون في السجن مرحلة انتقالية نحو أحد خيارين: الموت أو الاستعباد، وهذه الرؤية لا تزال سائدة اليوم على الرغم من الزينات الزائفة التي تحجب جوهر السجن.[3]

لقد ظهرت السجون عبر التاريخ مع سقوط المشاعيات، وصعود الدولة، كأداة يستخدمها مَن يملك لإخضاع مَن لا يملك، وعصا غليظة لمَن يخرج على السلطة وقوانينها.[4] ويمثل السجن في حالة الاستعمار الصهيوني في فلسطين، أداة لتصفية الذات الفلسطينية المقاومة عبر منهجية منظمة تعمل على تفريغ الفلسطينيين من محتواهم الوطني، وقتل دوافعهم إلى المقاومة، في الوقت الذي يحاول المناضلون التصدي لهذا المحو الممنهج عبر تمسّكهم بمشروعهم التحرري، وبالتجديد الثقافي – التعبوي والسياسي. إذاً، فإن الاعتقال هو حالة هجوم شاملة من المستعمِر، تقابلها حالة مقاومة من المستعمَر، وهو – أي الاعتقال – امتداد لسيرورة وصيرورة المواجهة المحتدمة في الخارج بين الإخضاع الذي يسعى له المستعمِر، والتمرد الذي يمارسه المستعمَر. فالهدف الجوهري للاستعمار الكولونيالي في المجمل هو إعادة تكوين البشر، بناء على صيغة صهيونية تصهر وعيهم.[5]

II – التحقيق

يُعدّ التحقيق جزءاً من حالة الصراع المحتدمة داخل جدران الأسر، وهو باكورته، ففيه تتجسد المواجهة والصدام المباشران بين الأسير كذات تمثل مشروعاً تحررياً، وبين ذوات تخدم المشروع الاستعماري وبقاءه. بكلمات أُخرى، التحقيق هو تكثيف لمعادلة الصراع (فلسفة المواجهة). وقد أدركت فصائل المقاومة مبكراً أهمية هذه المرحلة، وتنبهت إلى ضرورة الصمود في التحقيق، بمعنى الامتناع من الإدلاء بأي معلومات من شأنها الإضرار بالأسير أو فصائل المقاومة، ورأت في ذلك ضرورة موضوعية تفرضها شروط المواجهة للحفاظ على الذات وبناء الإرادة الجمعية (الحزب / الفصيل) لمواجهة المشروع الصهيوني.

ولهذا، درجت الفصائل في البداية على توصية أعضائها بالصمود ثلاثة أيام خلال التحقيق، ثم رفعت المدة إلى أسبوع بهدف تمكين رفاق الأسير من أخذ الإجراءات اللازمة، وصولاً إلى التوصية برفض الاعتراف كلياً، لما يتركه من آثار مدمرة على البنية التنظيمية. فعلى سبيل المثال، رفعت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين شعار “الاعتراف خيانة”، وحضّت على ضرورة الصمود في التحقيق، كتعبير طبيعي مقاوم عن رفض المستعمر، وحماية للمشروع المقاوم وبنيته التنظيمية.[6]

ومن الجدير بالذكر، أنه علاوة على كون التحقيق تعذيباً ممنهجاً، عبر تقنيات صُممت لإيصال المعتقلين إلى حالة من الضياع والصدمة، تمهيداً لإرغامهم عنوة على تقديم تنازلات، وذلك عن طريق التسبب بانسلاخات عنيفة بينهم وبين القدرة على إدراك العالم المحيط، فإن الهدف من التحقيق ليس انتزاع المعلومات فحسب، بل الأكثر أهمية هو كسر إرادة الأسير المعنوية أيضاً، وتحويل الأسير إلى صفحة بيضاء تدون فيها الاستخبارات جميع ما ترغب فيه.[7]

وبما أن النضال صيرورة تحررية تعبّر عن عملية إعادة إنتاج المجتمع، بحيث إنها تشكله وتتشكل منه، فإن مفهوم الصمود الذي بات شائعاً في العمل السياسي انتقل لاحقاً إلى الحيز الاجتماعي، متأثراً بالتبنّي الحزبي لهذا المفهوم، وغدا مفهوماً قيّماً جديداً يصبّ في مسعى المجتمع للتحرر. أي أنه تحول من مفهوم حزبي ضيق إلى مفهوم اجتماعي واسع، وخصوصاً في مراحل المد الثوري المقاوم.[8]

ومع انحسار الفعل الثوري وإدخال قيم جديدة إلى المجتمع الفلسطيني في أعقاب اتفاق أوسلو، ضَعُف العمل الجماعي والتضامن الاجتماعي والعمل التطوعي، وانتشر التوظيف برواتب لـ “خدمة القضية”، وازدهرت القيم الفردية الاستهلاكية، وترسخت التبعية في السوق، وخصوصاً الاعتماد على السوق الصهيونية. وقد تسبب هذا التطور بتراجع الصمود كمفهوم أيديولوجي، وانحصر في البعد الاجتماعي الذي بات اللاعب الأبرز في هذه المعادلة.

III – الذات الثورية

مع انطلاق الثورة الفلسطينية المعاصرة، عملت فصائل المقاومة على بناء ذوات تحررية لأعضائها، تتلاءم وشروط النضال الموضوعية، لأنهم هم مَن يحمل مهمة المشروع التحرري، كما ركزت على التعبئة والتثقيف وتعزيز ممارستهم التحررية من أجل بناء الإنسان المصقول والقادر على بناء مجتمع الحرية، وعلى تحمّل مشاق مهمات النضال المعقدة، ومن ضمنها القدرة على مواجهة أعباء التحقيق بنجاعة واقتدار.

يتناول علي شريعتي في كتابه: “بناء الذات الثورية”[9] كيفية تكوين هذه الذات، ويعزوها إلى عدة عوامل، أهمها الانخراط في النضال الاجتماعي، وهو ما يؤكده أحمد قطامش في كتابه “لا لن ألبس طربوشكم”،[10] والذي يقول فيه إن بناء الذات الثورية هو صيرورة وليس وليد لحظة الأزمة / المواجهة، لأن هذه الذات كائن حي ينمو بالأهداف العادلة، ويرتقي بالموقف الأخلاقي المتمرد على الظلم، الأمر الذي يؤدي إلى تطور شخصيته وتصلّبها. كما أن كتاب “فلسفة المواجهة خلف القضبان”، وهو كتاب تثقيفي من إصدار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في سنة 1984، يشدد على أن ثمة أسساً تربوية مهمة في بناء الذات القادرة على الصمود، وذلك عبر التربية الحزبية، ووضوح الخيارات أمام المقاوم منذ تلمّسه أولى خطواته النضالية، واكتسابه الوعي اللازم المرتبط بأساليب التحقيق، فضلاً عن خلفية الأسير العائلية والطبقية وطبيعة التنظيم الذي ينتمي إليه.

وينسجم فرانس فانون في كتابه “معذبو الأرض”،[11] مع هذا التصور العام، في إشارته إلى أن معارك الكفاح هي التي تخلق الثوريين (فالثوري حالة ثورية مثلما يقول لينين)، وتعيد صوغ قيمهم وعلاقاتهم، لأن الإنسان هو حصيلة كل ما مر به من تجارب في حياته حتى لحظة العنف التي تدركها بناء على حصيلة التجارب المتراكمة فيها.[12]

وبناء عليه، يمكننا أن نخلص إلى أن الذات الثورية تتكون من جملة عوامل متداخلة ومترابطة فيما بينها، فهي: أيديولوجية؛ اجتماعية نفسية؛ تربوية؛ خبرات عملية؛ سمات وسجايا شخصية تجعل الصمود نتيجة هذا التراكم المتشابك عبر سياق تاريخي نضالي، صموداً شخصياً – اجتماعياً في آنٍ واحد.

IV – أساليب التحقيق المستخدمة خلال الفترة 2010 – 2017

يمكننا الجزم بأن الاستخبارات الصهيونية تطور أساليب عملها باستمرار، وذلك من أجل التمكن من كسر إرادة المقاومين، والحصول على أقصى قدر من المعلومات من الأسرى الخاضعين للتحقيق، وإعادة بناء ذواتهم بما يتلاءم ورؤيتها، مستفيدة، فضلاً عمّا راكمته من تجربة غنية على مر عقود الاحتلال، من تجارب أجهزة الاستخبارات الأُخرى كالسافاك في زمن شاه إيران، والاستخبارات الجنوب أفريقية في زمن الأبارتهايد، واستخبارات الـ CIA التي أصدرت دليل كوبارك بشأن التحقيق. وفي المقابل، وكردة فعل طبيعية، تحاول فصائل المقاومة الفلسطينية دائماً، مواكبة هذه التطورات، واستحداث ديناميات وتكتيكات لمواجهتها كان آخرها إصدار الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين كرّاس “مثلث الصمت”، الذي يتناول أساليب التحقيق المتّبعة حتى مطلع سنة 2014، في الوقت الذي لم تصدر أي دراسة أكاديمية – بحسب معرفتنا – تعالج هذا الجانب المهم، وإنما اكتفى جزء منها بالوصف بعيداً عن التحليل المعمق.

والجزء التالي من هذه الدراسة مبني على مجموعة مقابلات أجريتها مع أسرى سابقين وحاليين خاضوا تجربة التحقيق، وعلى بيانات من إصدارات الفصائل الفلسطينية. وتجدر الإشارة هنا، إلى أن “الشاباك” (جهاز الأمن العام بالعربية) يحاول أن يستخدم الأسلوب الأنجع الذي يجيب عن سؤال: إلى أي مدى يمكن أن يكون هذا الأسلوب فاعلاً في انتزاع المعلومات من الأسير، وزعزعة بنية الفرد الذاتية؟ وفي هذا السياق، فإنه غالباً ما يتم دمج أكثر من أسلوب في آن وٍاحد، وإن كان هناك دائماً أسلوب مهيمن أكثر من غيره من الأساليب.

V – نظرية التحقيق

ثمة أساليب عديدة تُتّبع في انتزاع المعلومات من الأسير في التحقيق، ويصنفها ضباط الشاباك بناء على تدرج معين يُستخدم في بلوغ هدف انتزاع الاعتراف أولاً، ثم الدخول في مرحلة تحطيم بنية الأسير النفسية – المعنوية. وهذه الأساليب هي ما يمكن أن نطلق عليه اسم نظرية الشاباك الخاصة في التحقيق، والتي تعمل بصورة منهجية ومدروسة على تفكيك بنية الأسير الفكرية، وتحويله من ذات مقاومة رافضة، إلى ذات مكسورة مهشمة، أو بكلمات أُخرى: تحويله إلى شظايا إنسان أو (كيس رماية) بلغة فاوتشيك. وترتكز نظرية التحقيق على خمس قواعد: أولاً، الترهيب والإرهاق؛ ثانياً، سلخ الذات وعزلها عن الجماعة؛ ثالثاً، تفكيك المعتقدات والأفكار؛ رابعاً، كسر حاجز العداء بين الأسير والمحقق؛ خامساً، الخداع. وذلك كله في إطار تعذيب متعدد الأبعاد للأسير.

ومن الجدير ذكره هنا، أن تلك القواعد تجري في حيز زماني – مكاني ضيق، هو زنزانة التحقيق، وأن المحقق يختار منها ما يريد، فيمزج بينها، أو يستخدم واحدة منها فقط.

1 – الترهيب والإرهاق

تعتمد أساليب التحقيق في الإجمال، على إخضاع الأسير بالقوة المادية والنفسية، فيتم إدخال الرعب إلى نفسه لإبقائه تحت وطأة تهديد نفسي، أو جسدي، أو كليهما معاً، بدءاً من لحظة الاعتقال التي تتضمن ترهيب الأهل وإحداث دمار في منزل المعتقل، وفي كثير من الأحيان تجريد المعتقل من ثيابه، وهو ما يُعدّ مساساً خطراً بكرامته وانتهاكاً لخصوصية جسده. والغاية من هذه السلوكيات العنيفة، إدخال المعتقل تحت تأثير الصدمة الشديد، وإرهاق جسده وحواسه، ليتلوها مسلسل منظم وممنهج لمضاعفة الضغط عليه من خلال شبحه لأيام طويلة على كرسي الشبح، وحرمانه من النوم لمدة طويلة قد تستمر يوماً أو أياماً أو أكثر، وإشعال المكيف البارد في غرفة التحقيق، الأمر الذي من شأنه مفاقمة آلامه الجسدية.

أمّا التعذيب النفسي فيكمن في معادلة: إرهاب، فامتثال، فتعاون، فاعتراف.

  • امتثال الجسد: من أهم الأساليب التي يتّبعها المحققون لإرغام الأسير على الامتثال والخضوع، هي بجعله ينصاع لأوامرهم عبر ممارسات متدرجة مرتبطة بتعاونه مثل: التفتيش العاري؛ طريقة جلوسه؛ ردّه على أسئلة المحقق.
  • الطيب / الوحش: يؤدي المحققون ضمن هذا التكتيك، وفي أثناء تعاقبهم على الأسير، أدواراً متباينة تخدم غاية التحقيق النهائية، فأحد المحققين يؤدي دور “الصديق الطيب”، بينما يقوم محقق آخر بدور “العدو – الوحش”، وذلك بهدف دفع الأسير إلى أحضان المحقق “الصديق الطيب”، بعد أن يكون قد رأى فيه طوق نجاة له من بطش وعدوانية المحقق “العدو – الوحش”.
  • الإهمال أو التحقيق المتواصل: يعتمد هذا الأسلوب على إهمال الأسير في الزنزانة أو غرفة التحقيق لأيام متواصلة، من دون أن يلتفت إليه المحقق أو يوجه إليه أي سؤال، لإيهامه بأنه غير ذي شأن، أو على العكس من ذلك تماماً، يخضع لتحقيق مستمر ومكثف يدوم أياماً متواصلة.
  • تعدد المحققين وتشتيت الأسير: وذلك عبر تعريض الأسير لتحقيق مكثف من طرف مجموعة من المحققين في الوقت نفسه، وتوجيه وابل من الأسئلة إليه، على أمل بأن يدفعه ذلك إلى الاعتراف.
  • أساليب الترهيب الجسدية: يتم التركيز في نطاق هذه الأساليب الخاصة، على جسد الأسير، بهدف إنهاكه عصبياً وذهنياً عبر حرمانه من النوم وضربه، وتسليط إضاءة شديدة على عينيه، وذلك في مسعى لجرّه إلى الاعتراف. فمثلاً، يتعرض الأسير في حالات معينة للضرب المبرح بالتركيز على أطراف الأصابع والقدم والأيدي، وفي حالات أُخرى، يوضع في غرفة معتمة، وقد يتم إسماعه أصواتاً أو موسيقى صاخبة، وشبحه على كرسي التحقيق لأيام طويلة. ومن أهم الأساليب المتّبعة ما يسمى “التمارين الرياضية” التي يجبر فيها المحققون الأسير على ممارسة التمارين الرياضية الصعبة التي تعتمد على وزن جسده، كالقرفصاء (الضفدع)، والهبوط والصعود (سكواتش)، وانحناء الجسد العكسي (الموزة)، والزاوية المنفرجة، علاوة على تثبيت الأصفاد على عضد اليد وشدّه إلى أقصى درجة ممكنة، وأساليب أُخرى كثيرة ربما تُستخدم أو لا تُستخدم. وقد تم إحصاء أكثر من 130 وسيلة تعذيب.
رسم بياني لبعض أساليب التعذيب الإسرائيلية المتّبعة خلال التحقيق

2 – سلخ الذات وعزلها عن الجماعة

الخطوة الأولى التي يباشر فيها الشاباك التحقيق، هي عزل الأسير عن دائرته الاجتماعية والنضالية الأوسع، وحصره داخل نفسه بعيداً عن سائر ارتباطاته، بهدف دفعه إلى التفكير في خلاصه الذاتي والهروب من ألم التحقيق. ويشكل العزل قطعاً زمانياً ومكانياً للأسير عن محيطه الطبيعي، وفقداناً لأبسط ممكنات التحكم في المحيط الجديد المصطنع، وهو ما يجعله سجين المجهول. فخلال التحقيق لا يمكن للأسير إدراك المكان الذي يقبع فيه، أو الزمن الذي يجري، كما أنه، وعلى مدار فترة التحقيق، لا يرى سوى شخوص معادين من المحققين وعملائهم، الأمر الذي يضاعف من انعزاله وفقدانه أبسط معاني الأمان.

العزل داخل الزنزانة: تمثل الزنزانة إحدى أهم الوسائل لعزل الأسير وفصله عن محيطه الطبيعي، فهي مكان موحش ومعتم وقاتم وبارد، جدرانها مليئة بالنتوءات التي تحرم الأسير من القدرة على الاستناد إليها للراحة، والإضاءة خافتة صفراء أو شاحبة متواصلة على مدار الساعة ترهق العيون، والفتحة الوحيدة في الجدران هي بوابة فولاذية تعلوها كوة صغيرة يراقب من خلالها السجانون الأسرى طوال الوقت، فضلاً عن فتحتين صغيرتين أو شق ضيق لتبديل مجرى الهواء داخل الزنزانة.

وفي بعض الأحيان يعمد المحققون إلى إدخال بعض من عملائهم إلى الزنزانة في تثبيط إضافي لمعنويات الأسير عبر بثّ أجواء الإحباط والهزيمة في نفسه. ومع ذلك، فإن كثيرين من الأسرى لا يسمحون للزنزانة بهزيمتهم، بل يخلقون فيها عالماً مضاداً يمنحهم قوة ذهنية وجسدية هائلتين تؤهلانهم للاستمرار والصمود حتى النهاية، مثل ممارسة الشعائر الدينية أو الرياضة، والغناء، واستحضار الأعزاء والرفاق في تعظيم لقدرتهم على المواجهة والصمود.

3 – تفكيك المعتقدات والأفكار

يُعدّ التحقيق بحد ذاته عنفاً مباشراً وغير مباشر، فهو يعمل على تفكيك البنية المعنوية، الفكرية والأيديولوجية للأسير، لانتزاعه من دائرته الاجتماعية – العقائدية، والزجّ به في أتون فراغ لا يعرف قراراً، عبر التشكيك في مشروع مقاومته وعدالة قضيته والتخلي عن منظومته القيمية ومفاهيمه التحررية. وغالباً ما يتم اتّباع مثل هذه الأساليب مع أسرى من ذوي التجارب الحديثة أو الوعي المحدود أو صغيري السن، إذ يُفترض أن من السهل زعزعة إيمان الأسير بمعتقداته، وهزّ قناعاته التحررية وتسخيفها، والتشكيك في صدقية قادته وتشويه صورتهم في مخيلته، وفي صدقية رفاق النضال بادعاء أن بعضهم اعترف أو يتعامل مع الشاباك، وهذه الخدعة الأخيرة دائماً ما يراهن عليها المحققون على أمل أن تكسر صمودهم. علاوة على ذلك، يسعى الشاباك لإظهار قوة الدولة التي تتمثل في مواجهة مقاومة تنقصها ممكنات المواجهة، بغية إظهار المقاومة كفعل عبثي لا طائل منه ولا جدوى سوى الخسارة الذاتية.

4 – كسر حاجز العداء بين الأسير والمحقق

إن الرابط الذي يحكم علاقة المحقق بالأسير، هو في طبيعته امتداد للعلاقة التي تحكم المستعمِر بالمستعمَر، فكل منهما يبتغي نفي الآخر. فالأسير كان قد راكم عداء متأصلاً ضد مَن كان ولا يزال يقتل ويسلب شعبه وأرضه، وهو ما يجعله ممتلئاً بالحقد على الاحتلال، وفي المقابل، فإن الشاباك، ومن إدراكه لجوهر العلاقة، يحاول جاهداً تحويل الصراع من صراع تناحري بين نقيضين لا يلتقيان، إلى خلاف بين طرفين لا يستند إلى أي أبعاد تاريخية، أو سياسية، أو أيديولوجية، وذلك عبر خلق حوارات وأحاديث اجتماعية هدفها كسر حاجز العداء الذي يقود إلى الاعتراف. وثمة هدف آخر لهذا الأسلوب يتمثل في التعرف عن قرب، ومن دون انغلاق، إلى شخصية الأسير وطباعه، بغية بناء تقييم تقديري يساعد الشاباك على التعامل مع نقاط ضعفه سواء حاضراً، أو في المستقبل.

5 – الخداع

ثمة طرائق متعددة للخداع تستخدمها الاستخبارات ضد الأسرى، وخصوصاً أولئك الذين لا يمتلكون دراية في التحقيق وأساليبه، لكن هذه الأساليب ليست منعزلة عن سائر أسس نظرية التحقيق، وإنما مندمجة ومكملة لها. ويمكن الإشارة إلى بعض هذه الأساليب في الخداع، كتلك التي تعمد فيها الاستخبارات إلى التظاهر بأن التحقيق قضية سخيفة لا أهمية خاصة لها، وأنها ستوصي بالإفراج عمّن يتجاوب معها، أو على العكس من ذلك تماماً، نرى المحقق يضخّم القضية ويهولها لإخافة الأسير، وفي الحالتين تكون الغاية هي الحصول على اعترافات ممّن تنطلي عليهم الحيلة ومحاكمتهم.

كذلك، فإن إحدى طرائق الخداع هي أن يُظهر الشاباك نفسه كأنه معنيّ بإبرام صفقة مع الأسير يدلي بموجبها الأخير بجميع ما لديه من معلومات في مقابل إنزال حكم مخفف في حقّه، أو حتى الإفراج عنه. وفي بعض الأحيان تتم مساومته على أن تبقى اعترافاته سرية – لا تُكتب فيها إفادة شرطية – وفي جميع الحالات يُعتبر التعامل والخضوع لمثل هذه الطرائق شكلاً من أشكال التعاون مع الاستخبارات، ترى الفصائل الفلسطينية والمجتمع الفلسطيني أن مَن يقدم عليه يكون قد انتقل من معسكر المقاومة إلى المعسكر المضاد، وبالتالي يُعتبر خائناً، مع أن محاكم الاحتلال، وعلى الرغم من اعترافه، تصدر في حقّه أحكاماً تفوق أحكام مَن لم يعترفوا. ومن هذه تلك الطرق:

  • جهاز كشف الكذب: هذا الجهاز هو جهاز “كذب وخداع” على حد وصف أحد الأسرى، فهو مجرد آلة تقيس وظائف الجسد الحيوية مثل: دقات القلب، والحرارة، والتعرق، والتنفس، وملاحظة التغيرات عليها عند الإجابة على أسئلة المحققين. ويسهل خداع هذا الجهاز بالتلاعب بعملية التنفس. ولذلك، فإن إيهام الأسير بأن مثل هذا الجهاز يستطيع اكتشاف صدقية الأسير من كذبه ما هو إلّا ادعاء مضلل لا يمتّ إلى الحقيقة بصلة، وهو أمر يثبته رفض محاكم الاحتلال اعتبار نتائجه دليلاً في ملف التحقيق يؤدي إلى إدانة الأسير، بل إن هذه النتائج عادة ما تقدَّم على أنها قرينة مساعدة لتمديد فترة التحقيق. وهنا تجدر الإشارة إلى أن من حق الأسير رفض الجلوس على الجهاز، إذ لا شيء أفضل من المواجهة.
  • الاستدراج خلف الحصن: تعمل الاستخبارات على استدراج الأسير والولوج إلى حصنه الدفاعي عبر إيهامه بأن حديثه عن أي أمر بسيط من شأنه أن يكون كافياً لأجل إغلاق ملفه، فإذا أغرته الفكرة وامتثل لها فإنه سيجد نفسه سريعاً في دائرة تحقيق مكثف.
  • العملاء: يُعدّ استخدام العملاء من أكثر الأساليب نجاعة، ويتجلى دورهم في غرف التحقيق بالعمل على تثبيط معنويات الأسرى في الزنزانات وتزويد الاستخبارات بتقييمات عنهم تشمل جميع ما يرتبط بأوضاعهم النفسية والمعنوية، فضلاً عن تشويش الأسرى ومضايقتهم ما أمكن، بغية حرمانهم من الراحة أو الخلود إلى النوم في الزنزانات، علاوة على الدور الخطر والحساس الذي يمارسونه في استدراج الأسرى، والتغرير بهم واصطياد المعلومات، عبر محاولة تضليلهم.
  • أقسام العملاء (العصافير): تسعى الاستخبارات لتصميم هذه الأقسام كي تكون شبيهة قدر الإمكان بأقسام الأسرى الحقيقيين، وذلك من أجل أن تكون مقنعة للأسرى ودفعهم إلى الإفصاح عمّا يخفونه ويدور في أذهانهم، لعملاء الاستخبارات المتقمصين دور الأسرى. وثمة عدة أساليب يستخدمها العملاء لاستدراج الأسرى للبوح بأسرارهم، بينها ادّعاء بعضهم أنه يمثل اللجنة الأمنية / الوطنية، الأمر الذي يخوله السؤال عن تفصيلات قضية المعتقل، وكذلك إقناعه بإرسال رسائل إلى أفراد مجموعته الموجودين في الأقسام المجاورة! أو تسليمه رسالة من تنظيمه أو أحد أفراد مجموعته تحثّه على التعاون مع اللجنة في جميع ما تطلبه منه. وفي بعض الأحيان يتم إيهام الأسير بأن في إمكانه استخدام الهاتف الخليوي إذا ما كان ثمة ضرورة تحتّم هذا، وذلك بغية معرفة ما إذا كان هنالك أمر يستدعي الاتصال بالخارج، مع العلم أنه غالباً ما يتم التذرع بأسباب تحول دون إحضارهم الهاتف الخليوي. وقد يعمد العملاء، وبناء على توجيه من ضباط الاستخبارات، إلى عزل ونبذ أسير معين يمتلك صلابة ومراس، في محاولة لهزّ ثقته بنفسه، بالإيحاء له بأنه مراقب ومشتبه فيه، على أمل بأن يقوده ذلك إلى الاندفاع في بثّ ما يختلجه من أسرار في آذانهم، وبالتالي سقوطه واعترافه.

في مقابل وسائل العملاء تلك، تسعى فصائل المقاومة الفلسطينية لتعبئة عناصرها ضد هذه الأساليب، وغالباً ما تكون توجيهاتها إليهم عبر التشديد على التزام قاعدة رفض التعامل مع أي كان في فترة التحقيق، على اعتبار أنها بيئة معادية وغير مأمونة. ومن خلال رصدنا لشهادات العديد من الأسرى الذين خاضوا تجربة التحقيق وأقسام العملاء، فإننا سنكتشف أن معظمهم أكد بمرارة أن هذه التعبئة غابت في الأعوام الأخيرة، ومن ضمنها الأعوام التي تتناولها هذه الدراسة. غير أنه يمكننا رصد ما يمكن اعتباره “نظرية المواجهة” كفعل معاكس ومناقض لنظرية التحقيق التي يمكن تلخيصها على النحو التالي:

  • انتماء الأسير إلى شعبه وقضيته: ممّا لا شك فيه أن كل إنسان ينتمي إلى بيئة اجتماعية، ومن منطلق هذا الانتماء فإنه يمتلك استعداداً مرتبطاً بمستوى إدراكه لهذا الانتماء، من أجل مواجهة كل أمر من شأنه المساس ببيئته الاجتماعية تلك. فالأسير بهذا المعنى قادر على تحويل الألم والحقد والحزن إلى أفكار تشحذ انتماءه إلى شعبه، وتراكم عوامل الغضب والصمود لديه.
  • امتلاك الأسير أيديولوجيا معينة: إن امتلاك الأسير أيديولوجيا تحررية له أهمية خاصة في أداء دور على صعيد المواجهة مع السجان، ذلك بأن الأيديولوجيا كأداة ثورية من شأنها رسم معالم طريق أكثر وضوحاً وثباتاً، ولنا في الأحزاب الماركسية التي تنادي بشعار “لا حزب ثورياً من دون نظرية ثورية” مثال لذلك. وقد اشتهرت هذه القوى بتحويل الزنزانات والسجون إلى ممارسة تحررية صموديه.
  • الثقة بالنفس والشجاعة في المواجهة: من البديهي القول إن السجايا الشخصية، كامتلاك تقدير عالٍ للذات والتحلي بالشجاعة والجرأة، هي صفات تمنح صاحبها القدرة على مواجهة التحديات بصورة عامة، وخصوصاً تحدي التحقيق وأساليبه.
  • مواكبة التحديث على أساليب التحقيق: في معظم الأحيان يكون الأشخاص المتحزبون هم الأكثر اهتماماً ومصلحة في كل تجديد على أساليب التحقيق وطرائقها، وهم بهذا المعنى، يُعتبرون الأكثر تأهيلاً للتعامل معها بروح المواجهة. لكن، ومثلما ظهر في المقابلات التي أُجريت في سياق هذه الدراسة، فإنه كان هناك نكوص وتراجع في الأعوام الأخيرة، إذ إن معظم مَن قابلناهم من الأسرى السابقين والحاليين افتقد المعرفة المطلوبة قبل خوضه تجربة التحقيق.

VI – الأبعاد الاجتماعية والنفسية في المواجهة

في مقابل أساليب الشاباك، هناك العديد من العوامل الداعمة للأسير الفلسطيني في أثناء مواجهته التحقيق، مثل القناعات الفكرية – الأيديولوجية، والعلاقات الأخوية – الرفاقية في النضال، والعلاقات الاجتماعية، وسمات شخصية الأسير وموقفه الأخلاقي، وتسامي شعوره بكرامته بما يفوق الألم، علاوة على الخبرات التي اكتسبها والتي تحدد سير التحقيق. وفي هذا السياق، سأتطرق إلى خمسة محاور نفسية – اجتماعية ترتبط بالصمود، وهي: مؤثرات اجتماعية ترتبط بالعائلة والأصدقاء والمجتمع؛ نظرة الفرد إلى ذاته؛ مصلحة الأسير بعيدة المدى؛ جنسنة الصمود والاعتراف؛ الاعتقاد الأيديولوجي.

يقول كارل ماركس في مسألة التنظيم وإعادة تنظيم المجتمع: “تصبح النظرية قوة مادية مادامت تستحوذ على الجماهير.” ولهذا، فإن القوة الحقيقية للصمود في التحقيق تكمن في تحولها من فكرة أيديولوجية مرتبطة بمشروع سياسي / تنظيمي / تاريخي إلى أفكار وقيم يتبنّاها المجتمع، وعندها تغدو فاعلة في منظومة قيم ومفاعيل المجتمع الأخلاقية. وهنا يمكننا القول إن أحد نجاحات بعض الفصائل الفلسطينية في مضمار الصراع مع الاحتلال الصهيوني يتمثل في تمكّنها من إعادة إنتاج مفاعيل النضال وضروراته ارتباطاً بالصمود كقيمة عليا، فقد شكل الصمود بالنسبة إلى هذه الفصائل ركناً من أركان نظرية المقاومة التي انتهجتها حتى اتفاق أوسلو، قبل أن ينحسر دور الاتفاق وتأثيره.

وللوقوف على المساحة التي شغلها الصمود كقيمة عليا في الوعي الجمعي للمجتمع الفلسطيني، نشير إلى الاعتزاز والفخر الكبيرين اللذين يغمران أفراد عائلات الأسرى الذين صمدوا في زنزانات التحقيق، وخصوصاً أمهاتهم، عند تلقيهم أنباء صمود أبنائهم، إلى الدرجة التي كانت فيها عوائل الأسرى الصامدين تطلق الزغاريد في غرف الزيارة في السجن مع أول إطلالة لهم، تعبيراً عن فرحتها وسعادتها بهذا الصمود المشرف، على الرغم من الأسر. وفي المقابل، فإن الخجل والشعور بالعار يعتريان عائلات الأسرى الذين انهار أبناؤها خلال التحقيق، بل إن هذه العائلات في بعض الحالات، تصبح عرضة لنظرات مستنكرة مستهجنة لفعل أبنائهم من طرف عوائل الأسرى الصامدين، تصل في بعضها إلى حد المقاطعة الاجتماعية. وهذه المناخات المشحونة بثقافة المقاومة والصمود، شكلت حافزاً للأجيال الناشئة التي انخرطت والتحقت بفصائل المقاومة الفلسطينية، إذ بات بديهياً الاندفاع في حماية وصون أسرار الفصائل التي يوالون، والخلايا التي ينشطون في أوساطها، مثلما يظل خجل العائلة من العار الذي قد يطالها جرّاء الاعتراف، هاجساً في العقول ورادعاً نفسياً للأسير يحول بينه وبين الاعتراف.

1 – المؤثرات الاجتماعية

أولاً، العائلة: هي النواة التربوية الأولى للإنسان، ومكان نشأته الأولى الذي يترك عليه آثاراً يصعب محوها، وهي الحيز الأول الذي تتشكل داخل بوتقته شخصية الفرد، وتُصقل وفق مفاهيم نفسية – اجتماعية معينة. فللعائلة دور مركزي في تكوين فرد واثق بذاته وبقدراته، أو مهزوز الثقة يعتريه شعور ملازم بالعجز كلما برزت تحديات الحياة أمامه، لأن العائلة التي تمنح أبناءها الثقة وترفع من مستوى تقديرهم لذواتهم عبر محاورتهم والاستماع باهتمام إلى وجهات نظرهم، تعزز قدرتهم في المستقبل على خوض غمار الحياة ومجابهة مصاعبها، بينما تلك التي تهمل أبناءها وتقمع مبادراتهم وتقلل من شأن كل عمل يؤدونه، تقوم في الواقع بكبح روح التحدي والمبادرة لديهم.

وبالنسبة إلى سلوك الأسرى، فإننا نلاحظ أن سلوك الأسير المتحدر من عائلة ذات جذور وطنية، يختلف عن سلوك أسير من عائلة لا تهتم بالهمّ الوطني. وأحد التجليات التي يظهر فيها هذا الاختلاف السلوكي هو موقفه في التحقيق، فكثير من العائلات ذات الجذور الوطنية، والتي كان لها رصيد من الاعتقال والصمود (أب؛ أم؛ أخ؛ أخت؛ إلخ)، تعمد إلى شحذ همة المعتقل في لحظات الاعتقال، وحضّه على تحمّل الصمود.

قال أسير عن تجربته: “أنا لما طلعت من الدار، أجى أبوي وحكالي اسمع بتفوت زلمة وبتطلع زلمة، إذا فتحت تمّك ما تروّح عالدار.” وقال آخر: “أيام كنت أطلع من جو التحقيق، أفكر بكلمة أبوي وهو بقللي: إذا بتعترف إنت مش ابني.”

إن كلام أحد الوالدين وتحفيزه لابنه قبل الاعتقال أو خلاله، يبقى مغايراً لذلك التحفيز الصادر عن رفاق النضال. فالوالدان يمثلان جملة من المشاعر والحضور الخاص في ذهن كل ابن/ ة، الأمر الذي يجعل لكلماتهم رجع صدى دائماً في عقول الأبناء، فيبذلون أقصى ما في استطاعتهم لتنفيذ وصايا والديهم. أمّا الأبناء الذين يفشلون في اتّباع تلك التوجيهات، ويعترفون في التحقيق، فإن كثيرين منهم يخجلون من مواجهة والديهم، أو يُطلّون عليهم مطأطئي الرؤوس من شدة الخجل.

وفي بعض الحالات التي يكون الأسير هو المعيل الأوحد لعائلته، فإن ذلك يمنحه دافعاً إضافياً إلى الصمود في التحقيق والخروج بأقل خسارة ممكنة، بمعنى تقليص فترة السجن والغياب عن العائلة إلى أقل مدى ممكن. كذلك، فإن أهمية العائلة تكمن في قدرتها على كسر عزلة الأسير، وذلك باستحضاره لأفرادها ذهنياً، وتذكّره لكلماتهم في أصعب وأحلك لحظات التحقيق. وفضلاً عن ذلك، فإن الاستخبارات، ومن منطلق فهمها للموروث الاجتماعي للمجتمع العربي وحساسية مكانة المرأة فيه، تحاول اللعب على وتر مصير زوجة الأسير سواء بالتشكيك في دوائر الأسير الاجتماعية التي ستستغل فرصة غيابه بمراودة الزوجة، أو محاولة إيهامه باعتقالها بادعاء أنها شريكته فيما تنسبه إليه الاستخبارات. وفي كلتا الحالتين يكون الهدف من وراء ذلك مضاعفة الضغوط النفسية والاجتماعية على الأسير لدفعه إلى الاعتراف.

ثانياً، الأصدقاء: تؤثر العلاقات الاجتماعية المحيطة في بناء شخصية الفرد، فهو يتفاعل داخل المجموعة، يتعلم منها ويعلّمها.[13] والصداقة هي من أكثر العلاقات التي قد تؤثر في حياة الأفراد اليومية، لأنها تُعتبر جزءاً لا يتجزأ من هوية الفرد، وتخلق بين الأصدقاء لغة مشتركة. وكثيراً ما يشكل صمود أحد الأصدقاء قوة مثال، بحيث يحاول سائر الأصدقاء الاقتداء به، علاوة على أن الصداقة تشكل عاملاً مهماً في نقل خبرات التحقيق من شخص إلى آخر، وهي بهذا المعنى تؤدي دوراً إيجابياً في تعزيز قيمة الصمود. كما أن الصداقات التي تنشأ في السجن لها تأثير قوي في صمود أسرى أخفقوا في تجربتهم الأولى في التحقيق، إذ يؤدي التقارب والاهتمام المصاحبان للتثقيف الأمني، من طرف أسرى تربطهم علاقات صداقة، أثراً بالغاً في تعبئة الأسرى وإطلاعهم على مواد أمنية تصف أساليب التحقيق، وتوضح آليات مواجهتها.

ثالثاً، المجتمع: يؤدي المجتمع الفلسطيني دوراً أساسياً في الحضّ على قيم الصمود كونه يعبّر عن حالة رفض ومقاومة للمستعمِر، فالوضع الطبيعي أن يقاوم المجتمع المستعمَر مستعمِره، وهذا الأمر ينسحب على أقبية التحقيق، من خلال مقاومة المعتقل لجلاده عبر الصمود والامتناع من إفشاء الأسرار. إن المجتمع الذي جُبل أفراده بقيم المقاومة والمواجهة، لا يرى في الاعتراف مسألة عابرة، بل يعتبرها عاراً على صاحبها، فيعلّي من قيمة الذين صمدوا، ولا يتفهم الذين اعترفوا مهما يسوقوا من مسوغات وذرائع.

وقد انعكست هذه النظرة في كيفية تعامل المجتمع مع الأسير الصامد / المعترف بعد الاعتقال، وارتبطت في مناطق أكثر من غيرها بحكم نفوذ ثقافة هذا الفصيل أو غيره. فعلى سبيل المثال لا الحصر، يمكن ملاحظة أن قرية عورتا في نابلس وقرية نعلين في رام الله، والتي كان لفصيل الجبهة الشعبية وزن قيادي فيهما، يوليان أهمية بالغة لمسألة الصمود في زمن المد الثوري، لكن بعد أوسلو، فإن قيمة الصمود تحولت من حالة حزبية – عقائدية إلى ظاهرة اجتماعية عُبّر عنها من خلال حمل مَن يعترف، وصمة عار على نفسه وعلى عائلته. وبالتالي شكلت هذه المسألة ثنائية الثواب والعقاب التي ابتدأت تجلياتها في الإطار الجزئي، ثم انتقلت لتشمل المجتمع الواسع. فالصامد يحظى باحترام المجتمع، بينما يُنبذ المعترف ويُحطّ من مكانته إلى الحدّ الذي جعل بعض العائلات يرفض تزويج بناته من شخص اعترف في التحقيق. وهنا نتحدث عن أثر قيمي إيجابي ورأس مال رمزي لما يحوزه الصامد من طرف البيئة الاجتماعية، كما يُعد عاملاً مهماً في دفع الأسرى إلى الصمود.

2 – نظرة الفرد إلى نفسه

لكل شخص سمات يتميز بها من سائر الناس، وتمنحه فرادة عن غيره، مثلما أن ثمة سمات تتقاسمها الإنسانية جمعاء، وخصوصاً أولئك الذين يعيشون ظروفاً متشابهة، الأمر الذي يبلور نمطاً من العادات ويخلق هوية مشتركة تقوم على وحدة الحال واللغة والمصير المشترك. وبالتالي، فإن هذه الهوية المشتركة تمنح انتماء متخيلاً يؤثر تبادلياً في كل مَن يدخل في نطاق حيزها الاجتماعي،[14] فعلى سبيل المثال، فإن هوية الفلسطينيين تطورت بعد صدمة النكبة، لتصبح قلب ذاكرتهم الهوياتية، ثم شكلت انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة حدثاً مفصلياً في تعزيز الكيانية الوطنية الفلسطينية.

وعلى صعيد فردي، يمكن القول إن هويات الأفراد تتطور بناء على التجارب (الغنية أو الفقيرة) التي يعيشونها، والمناخات المتقلبة التي يمرون في دروبها. كما أن شخصية الفرد تتأثر بالمكان الذي يضعه فيه الآخرون، وخصوصاً أبناء عائلته، الأمر الذي يحيلنا إلى إدراك الإنسان ككائن اجتماعي يتبلور داخل صيرورة تتفاعل ما بين الذات والموضوع، لتشكل في النهاية نمط الشخصية العام.

إن التحقيق محطة ضمن سياق زمني – تاريخي – شخصي، وهو بهذا المعنى يجعل من اللحظة محكاً لإمكانات الفرد – فحصيلة ما اكتسبه من خبرات في سياق حياته حتى وُلُوجه إلى أقبية التحقيق، يشكل اختباراً مصيرياً يبيّن إن كان لهذه الخبرات مكان راسخ في شخصية الأسير سينعكس على سلوكه في التحقيق. فإذا كانت جملة ما اكتسب من خبرات على مدى حياته مرهونة بنظرة الآخرين فقط، فإنه سيسقط فريسة هذا، وذلك لغياب هؤلاء عن ظرف التحقيق، لكن إن تأسست خبراته الحياتية واستندت إلى مبادراته واندفاعه إلى الاكتشاف والتعلم، وبالتالي تشخيصه لإخفاقاته ومعالجتها في كل مرحلة، فإنه حتماً سيتمكن من التغلب على أصعب اللحظات، لأن مخزونه الغني سيحميه. كما أن ثمة سمات شخصية تحمل ثنائية الإيجاب / السلب، ومنها العناد الذي يؤدي دوراً إيجابياً خلال التحقيق من خلال تمترس الأسير وتحصنه خلف عناده الذي يقوده إلى رفض الاعتراف والصمود، مهما يبلغ ضغط التحقيق عليه.

وفي المجمل، فإن إدراك مكنونات التحدي والعناد والتصميم الإيجابية، يدعم صمود الأسير، وخصوصاً إذا امتزجت بسمات شخصية أُخرى كالشجاعة والإقدام والإيثار.

3 – مصلحة الأسير بعيدة المدى

يبرز هنا أمامنا سؤال أساسي يرتبط بجدوى الصمود من عدمه للأسير على الصعيد الشخصي، وما إذا كان هذا الأمر مرتبطاً بعوامل أُخرى تحفز على الصمود أو لا. فثمة أسرى ينظرون إلى مسألة الصمود كوسيلة للحصول على أدنى حكم بالسجن ممكن، بناء على المثل الشعبي “عذاب شهور ولا عذاب سنين”، بينما يرى الآخرون المسألة من زاوية عائلية، فالمتزوج يريد العودة بأسرع ما يمكن إلى عائلته النووية، ومَن تنتظره خطيبته، همّه الأول العودة إليها كي لا يخسرها إذا ما طالت سنين سجنه. وهناك نوع آخر من الأشخاص الذين تشكل نظرة الناس إليهم مساحة مركزية في أذهانهم، فتجدهم يندفعون نحو الصمود خشية من أن يتحولوا إلى موضوع سخرية يتداوله الناس، مفضلين أن يكون الحديث عنهم كأبطال صمدوا وخرجوا من دون أن يتفوهوا بأي حرف، لا كضعفاء اعترفوا ولم يستطيعوا الصمود. ونلحظ من تلك الأمثلة، أنه وعلى الرغم من تنوع وتعدد المواقف التي شكلت منطلقاً للأسير، فإن الثابت دوماً كان مصلحته الشخصية، وخصوصاً مصلحته بعيدة المدى لا الآنية.

4 – جنسنه الصمود والاعتراف

يؤدي مفهوم الذكورة دوراً في غاية الأهمية في التكوين النفسي للأسير النفسي في أثناء مواجهته للمحققين، ودوراً في سلوكه الاجتماعي في أوساط المجتمع. فالذكورة خطاب مترسخ في النسيج الاجتماعي العربي الفلسطيني المستعمَر، يجري صوغه وإعادة إنتاجه جيلاً بعد جيل. كما أن الرجولة في المجتمع العربي بصورة عامة، بما فيه المجتمع الفلسطيني، تتبوّأ مكانة تحمل هالة من القدسية، لما ينجم عنها من مكتسبات اجتماعية، سياسية واقتصادية، لا يمكن التغاضي عنها، أو إغفال ثقلها في جميع ما يرتبط بالخطاب القومي الفلسطيني، أو التعامي عن دورها في تشكيل صورة المناضل السياسي.[15] وفضلاً عن الامتيازات الممنوحة للنوع الاجتماعي الذكوري في مجتمعاتنا العربية على حساب المرأة، فإن أعباء تطاله ناجمة عن طبيعة كونه ذكراً يفترض المجتمع منه أن يؤدي الأدوار الخشنة كلها الموكلة إليه، من دون تأفف أو ضعف، وإلّا “تُطمس الرجولة”، ويتعرض “الأسير للاعتداءات الاستعمارية الذكورية” التي “تقمعه معتبرة إياه خضوعاً أو ضعفاً أنثوياً يزجّ بالمعتدى عليه إلى اللارجولة.”[16]

وترتبط آليات الإرهاب والعنف الاستعماري الممارسة في حقّ الأسير السياسي بالمذلة والهزيمة، وبمحاولات تعرية المناضل من مضمونه الرجولي القومي، لأن الثقافة البطريركية (الأبوية) في المجتمع الفلسطيني، والتي تشكل الذكورة جوهرها، ترسم موقف التحدي والصمود والشجاعة المتسقة كصفة للذكورة. فالمجتمع الفلسطيني يعلّي من قيمة المناضل بصورة عامة، ويرفع أكثر فأكثر من قيمة مَن يصمد، مغدقاً عليه صفات الرجولة كلها، بينما يجرد المعترف من هذه الصفات. وفي هذا الصدد يقول أسير سابق في مقابلة: “عنا بالحارة بشوفوا إللي بُصْمُد بطل زلمة، هذا بتعرف حارة السعدية بالقدس كثير بنبسطوا، حتى وإحنا صغار، كنا نقول هاد زلمة لأنو ما حكى ولا إشي.”

وفي سياق متصل، يسعى بعض الأسرى ممّن أخفقوا في الصمود خلال تعرضهم للتحقيق، لإعادة الاعتبار إلى ذواتهم من منطلق ذكوري، فتجد البعض منهم لسان حاله يقول: “بدك ترجع عشان تثبت للجميع إنك زلمة” (المقابلة مع الأسير نفسه). كذلك فإن مفهوم الذكورة يصبح أكثر تحديداً في سلوك الأسير ونظرة المجتمع إليه، وخصوصاً في الحالات التي يقوم بها هذا الأسير بالاعتراف على نساء بأي صورة كانت، إذ إن ردات فعل المجتمع تجاه هذا الأسير، تكون أكثر عدوانية وشراسة مقارنة باعترافه على غيره من الرجال، كما أن الشعور بالخجل والعار يظل مصاحباً للأسير كالظل طوال حياته.

هذا الفهم الذكوري يدفع بعض الأسرى إلى تبرير اعترافاتهم والدفاع عن أنفسهم من منطلق أنهم لم يقدموا اعترافات ضد نساء، كأنهم بذلك يؤكدون التزامهم بقواعد الذكورة المجتمعية.

وفي سياق منفصل، تعمد الاستخبارات إلى استغلال العامل الجنساني في الضغط على الأسير مثل التلويح باعتقال الأم، أو الزوجة، أو الأخت، أو الابنة، مهددة بالتحرش بهنّ إن لم يُدلِ باعتراف، فيتدخل مفهوم الرجولة والشرف كفعل ضاغط على الأسير، وهو هنا يرتبط بعوامل أُخرى إضافية مثل مستوى الوعي، على سبيل المثال وليس الحصر. وكذلك، قد يعمد المحقق في بعض الحالات إلى الضغط على الأسير المتدين بأن يتقصد إحضار محققة للتحقيق معه وجعلها تقوم بحركات تنمّ عن إشارات جنسية، وذلك بهدف الضغط معنوياً ونفسياً عليه، من خلال المساس بصورة مباشرة بمشاعره الدينية ومنظومة قيمه العقائدية، بما فيها مفاهيمه الذكورية.

5 – الموقف الأيديولوجي والعلاقة بالمشروع النضالي

قد تكون الأيديولوجيا هي نقطة البدء. فالتحقيق هو تجلٍّ لعلاقة المستعمِر بالمستعمَر، وهو مواجهة مباشرة بين الفرد المستعمَر ومنظومة القمع الخاصة بالمستعمِر. فالأيديولوجيا بهذا المعنى، هي علاقة نفي للآخر، فالمستعمِر يسعى للإحلال مكان المستعمَر وتثبيت كينونته، بينما يسعى المستعمَر للتحرر من المستعمِر وإفناء وجوده.[17]

عندما شرع الخطاب المقاوم في أواخر سبعينيات القرن الماضي، في التنظيم لثقافة الصمود، كجزء لا يتجزأ من ثقافة المقاومة بشموليتها، كان الأساس بالمعنى الأيديولوجي يكمن في علاقة الصراع داخل أروقة التحقيق، بين مشروعين متناقضين متناحرين: المشروع الاشتراكي في مواجهة المشروع الرأسمالي.

ويتجلى هذا الصراع فعلياً بين مَن حملوا لواء النضال التحرري من الكولونيالية الاستعمارية، وبين الحركة الصهيونية بما تمثله من دور وظيفي كولونيالي ورأس حربة للإمبريالية العالمية في المنطقة. ففي هذا الصراع المحتدم أيديولوجياً، يغدو كل فرد، ومن منطلق قناعاته الفكرية، جندياً في جيش قناعاته العقائدية التي تعتبر الاعتراف وإفشاء المعلومات مساوياً لمرتبة الخيانة العظمى للمشروع الذي يواليه.

إذاً، الصمود لدى المناضل العقائدي في جوهره يحمل بعداً جماعياً، وإن بدا بالشكل فردياً، إلّا إنه تعبير عن الإرادة العامة التي تمثلها ذات الأسير، تماماً مثلما هي حال الطرف الموازي، فالمحققون لا يعكسون ذواتهم الفردية بقدر ما يعبّرون عن ذواتهم كجزء من المشروع الصهيوني الاستعماري لفلسطين.

وإذا حاول المحققون التحايل على الحقيقة بإظهار التحقيق كحالة خاصة، مقطوعة من السياق وعرضية، وذاتية مرتبطة بالفرد موضوع التحقيق وحده، ليس إلّا، فإن الهدف الرئيسي من ذلك هو تفكيك بُنية الأسير العقائدية ومنظومته القيمية، الأخلاقية والوطنية، وجعله يلوذ بذاته وهمومها الضيقة في مجرى سقوطه المدوي إلى متاهات الاعتراف. وهنا، فإن الحاجة إلى تحصين الأسير من خلال الحزب الثوري الذي ينتمي إليه، وتحشيده عبر استحضار النماذج الثورية، العالمية منها والمحلية، في سياق عملية تثقيفه وإعداده، كي يصبح “المحترف الثوري”، علاوة على تهيئة البيئة الحاضنة اجتماعياً وتربوياً وثقافياً على السواء، تُعدّ في مجملها حجر زاوية في تمكّن هذا الفرد من مواجهة مصاعب التحقيق ومشاقه، والتغلب عليها من دون أن تتمكن الاستخبارات والمحققون من النيل من عزيمته والولوج إلى أعماقه، وبالتالي انتصاره.

VII – التحقيق ولادة جديدة

إن الحياة ملأى باللحظات التي تفرض على الإنسان، من حين إلى آخر، التعامل مع ظروفها وشروطها، بغضّ النظر عن مؤهلاته أو إمكاناته المدرَكة منه أو ممّن يعرفونه. وتُعتبر النتيجة النابعة من انصهار الإنسان في مثل هذه المحطات المركبة لحظة مفصلية تخلقه من جديد، بما يحمله هذا المفهوم من ثنائية متضادة، إذ في إمكان هذا الخلق وتلك الولادة الجديدة، أن يكونا عاملاً إيجابياً يدفع صاحبهما إلى إدراك قدراته وإمكاناته الكامنة أكثر، وبالتالي يزيد منسوب ثقته بنفسه واعتداده بذاته، الأمر الذي ينعكس على سلوكه الاجتماعي، وأحياناً على ثقافته ومهاراته المتنوعة. وفي المقابل، فإن الفشل في مثل هذه المحطات المفصلية غالباً ما يكون له تأثير كارثي في نفسية صاحبها، بحيث يرتد على حياته بصورة سلبية ربما تدفعه إلى التخلي عن قناعاته وأحلامه التي سبقت هذه المحطة، إلى درجة قد تصل إلى تسخيفها والتشكيك في جدواها كإحدى وسائل الدفاع عن الذات المنكسرة والعاجزة وغير القادرة على التعامل مع جملة التحديات التي سقطت أمامها.

ويُعتبر التحقيق كصيرورة، بشروطها ومقتضياتها، محطة مفصلية ترتبط بنتائجها، ذلك بأن مَن يمر في دهاليزها، أكانت إيجابية أم سلبية، لا بد من أن يولد من جديد. فالصمود في التحقيق، والشعور بنشوة الانتصار على المحققين، يرافقان الأسير الصامد على مدار حياته، بينما يظل الانكسار والاعتراف جرحاً غائراً لا يندمل. فالصامد يعلّي المجتمع من شأنه، ويلتفّ حوله رفاقه وأصدقاؤه، ويزيد حضوره ومكانته على المستوى العام، في حين يتنكر المجتمع للمعترف الذي وإن كان حضوره من قبلُ بارزاً، فإنه سيكون صعباً عليه العودة إلى مكانته تلك، فالمجتمع لا يسامح أبداً.

تدرك الاستخبارات هذه الأبعاد الاجتماعية – النفسية بصورة جيدة، فتسعى ما استطاعت لكسر إرادة الأسير وإرغامه على تقديم اعترافاته، حتى إن كان اعترافه هذا لا يقدم أو يؤخر في القضية التي هي أساس التحقيق، لأن هدف التحقيق وغايته في المقام الأول، هما هزيمة الإنسان الفلسطيني من الداخل وتركه ضعيفاً في مرآة نفسه ومرآة الآخرين، وجعله يدرك أنه فقد احترامه لذاته، علاوة على ما يمكن أن تحققه المعلومات التي يدلي بها من ضرب لبُنى المقاومة، ارتباطاً بمكانته وموقعه التنظيمي، أو بالتقديرات والتخمينات التي منحها للاستخبارات كهدايا مجانية على طبق من ذهب، عن غيره من المناضلين الذين لا تربطه بهم أي علاقة تنظيمية من أي نوع كان.

وفي سياق منفصل، فإن الاستخبارات تعمد في بعض الأحيان إلى اعتقال بعض الأشخاص المنضوين في فصائل المقاومة الفلسطينية والعمل على التحقيق معهم بصورة غير ضاغطة، بحيث تسمح لهم (ظاهرياً) بالخروج من محطة التحقيق، صامدين ظافرين. وغاية الاستخبارات من وراء ذلك، تكمن في تقديراتها لإمكانات هؤلاء، وتيقنها من أن ضغوطاً جدية عليهم من شأنها دفعهم إلى تقديم اعترافات. وهي لذلك، تسعى عبر إظهارهم صامدين، لجعلهم يحوزون مكانة وحضوراً مركزياً أكبر في أوساط فصائلهم التي ينشطون فيها، من أجل اعتقالهم لاحقاً من بعد أن يكونوا قد أمسوا يمتلكون مخزوناً هائلاً من الأسرار والخفايا التنظيمية، وجعلهم يفشونها في أول محطة تحقيق حقيقية يخوضونها.

وبالقدر نفسه الذي يتولد فيه مع النصر شعور بالنشوة والرضى، ينجم عن الهزيمة شعور عميق بالمرارة والألم، والأخير لا بدّ من أن يتخذ أحد منحنيين: إمّا الانسحاب المكسور المكلل بالهزيمة، وإمّا توالد رغبة جامحة في العودة والثأر للذات من الاعتراف. والدافع إلى ذلك دوماً هو رد الاعتبار إلى الذات وأمام المجتمع، فكثيرون من الأسرى الذين أخفقوا في تجربتهم الأولى في محطة التحقيق، وخرجوا منها مهزومين، معترفين، يتحينون الفرصة باتقاد وحماسة لخوض غمار تجربة جديدة يكلّلون فيها الهزيمة السابقة بثوب الانتصار.

ومن ملاحظاتنا لبعض مَن قابلناهم، فإن الذين يتحلّون بمستوى عالٍ من المسؤولية الأخلاقية والضمير الحي تجاه ذواتهم والآخرين، يندفعون إلى حد المغامرة والتهور في مسعاهم لخوض جولة جديدة من التحقيق، لأنهم يشعرون بأن لا راحة لهم قبل “محو العار الذي التصق بهم” من تجربتهم الأولى. وأحياناً، فإن بعضاً من ذوي الأحكام العالية، وجد ضالته في خوض الإضراب عن الطعام كمحطة رائدة أُخرى تُختبر فيها الإرادات في معركة الإرادات.

خلاصة القول أن الصمود في التحقيق يملأ الأسير بشعور غامر من الفخر ونشوة الانتصار، ففيه تنسجم قناعاته النظرية مع سلوكه العملي، ويلتحمان في بوتقة انتمائه فيزيدانه عمقاً، ويرفعان من مستوى استعداديته لبذل مزيد من العمل والتضحية في سبيل مشروعه الوطني. فالصمود هو حالة انبعاث وتسامٍ، وتجسيد لبطولة الإنسان وشجاعته، والتي قال عنها القائد التشيكي يوليوس فوتشيك: “في كل إنسان ضعف وقوة، شجاعة وجبن، صمود واستسلام، نقاء وقذارة. فالمخلص يقاوم والغادر يخون والضعيف يتهاوى تحت اليأس، والبطل يقاتل.”

VIII – خاتمة

التحقيق هو حكاية ألم وعذاب عَبَر دهاليزهما الآلاف من أبناء الشعب العربي الفلسطيني منذ نشوء دولة الكيان الاستعماري، ومروا في أروقتهما المتعرجة وهم يدركون في أعماقهم أن التحقيق ما هو إلّا جزء من استحقاق لا بد من أن يسددوا ثمنه.. وكلما كان الصمود حليفاً لهم في محطتهم المفصلية هذه، أدركوا أن لحظة الانعتاق والتحرر تدنو منهم باستمرار.

وعلى المتراس المقابل، يقف ممثلو المستعمِر الكولونيالي، رجالات الشاباك الذين يطورون أساليبهم القمعية ووسائلهم المخادعة في معركة التحقيق، متحينين الفرص لكسر إرادة أسير آخر، من أجل تهشيمه من خلال الهزيمة التي ستستوطن أعماقه، ثم إلقائه على قارعة الطريق، خاسراً لا يلوي على شيء.

لقد أدت العوامل الاجتماعية والنفسية دوراً مهماً في إبقاء جذوة قيمة الصمود مشتعلة كمفهوم داخل الوسط المجتمعي الفلسطيني، على الرغم من غياب الحزب الثوري التعبوي والتحشيدي في الفترة التي أعقبت اتفاق أوسلو. ومع ذلك لا تزال الحاجة ملحّة إلى استعادة قيمة الصمود بمعناه الأيديولوجي – الحزبي، والذي لا يمكن استعادته إلّا باستعادة الحامل السياسي له، والمتمثل في الحزب الثوري صاحب الرؤيا التحررية، بما تحمل من مهمات على جميع الصعد، إذ لا يستطيع أي مجتمع المقاومة والصمود في وجه مستعمر، إن لم يتمكن من بناء روافع تحمي هذه القيم وتصونها.

وغنيّ عن القول أن الصمود هو ثمرة من ثمار العمل السياسي، نضجت على مدار أعوام النضال عبر تربية حزبية داخلية متواصلة. أمّا اليوم فإن وجوده كظاهرة مرتبط بجملة عوامل اجتماعية – نفسية، شغلت مساحة العامل الأيديولوجي، لأن الطبيعة لا تقبل الفراغ.

  • هذه الدراسة هي خلاصة رسالة ماجستير، تحمل العنوان ذاته، وقد تقدّم بها الأسير إلى برنامج الماجستير في علم النفس المجتمعي في جامعة بيرزيت في سنة 2017.

المصادر:

[1] عادل سمارة، “بين الاغتراب والأنومي: الاقتلاع من الوطن واقتلاع الوطن المفترض من الذاكرة”، نشرة “كنعان”، العدد 141 (نيسان / أبريل 2010)، ص 91 – 123.

[2] عادل سمارة، “5 حزيران وخصائص الكيان”، نشرة “كنعان” (5 حزيران / يونيو 2015)، ص 38 – 47.

[3] بسام أبو شريف، “غسان كنفاني: القائد والمفكر” (لندن: رياض الريس للكتب والنشر، 2015).

[4] عادل سمارة، “الاقتصاد السياسي والطبقة” (رام الله: مركز بيسان للبحوث والإنماء، ط 1، 2016).

[5] وليد دقة، “صهر الوعي أو إعادة تعريف التعذيب” (الدوحة: مركز الجزيرة للدراسات؛ بيروت: الدار العربية للعلوم – ناشرون، ط1، 2010).

[6] أحمد قطامش، “في التنظيم الثوري السري: الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في الوطن المحتل أنموذجاً، حزيران 1967 – أوسلو 1993” (رام الله: دار الأمين للنشر والتوزيع، 2011).

[7] نعومي كلاين، “عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث”، ترجمة نادين خوري (بيروت: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، ط 2، 2009).

[8] قطامش، مصدر سبق ذكره.

[9] علي شريعتي، “بناء الذات الثورية”، ترجمة إبراهيم دسوقي شتا (بيروت: دار الأمير للثقافة والعلوم، 2007).

[10] أحمد قطامش، “لا، لن ألبس طربوشكم: صفحات من تجربتي في أقبية التحقيق” (دمشق: دار كنعان للدراسات والنشر، 1998).

[11] فرانز فانون، “معذبو الأرض”، ترجمة سامي الدروبي وجمال الأتاسي (القاهرة: مدارات للأبحاث والنشر، 2014).

[12] مصلح كناعنة وماريت نتلاند، “أعماق الذات المنتفضة: السيرة النفسية والاجتماعية للشباب الفلسطيني الذي نشأ في جو الألم والأمل والإحباط بين الانتفاضتين” (حيفا: الجمعية النرويجية الفلسطينية – نوردباس وجمعية البلد الثقافية، 2003).

[13] أنطون مكارينكو، “الجماعة وتكوين الشخصية”، ترجمة أسامة الغزولي (موسكو: دار التقدم، 1978).

[14] Henri Tajfel & John Turner, “The Social Identity Theory of Intergroup Behavior“, in: Psychology of Intergroup Relations, edited by Stephen Worchel & William G. Austin (Chicago: Nelson-Hall Publishers, 2nd edition, 1986), pp. 7-24.

[15] هديل بدارنة، “ما وراء قضبان الأسر الإسرائيلي: بين (الجنسي) و(السياسي)”، “جدل”، العدد 24 (تشرين الأول / أكتوبر 2015)، ص 1 – 5، في الرابط الإلكتروني.

[16] المصدر نفسه.

[17] فانون، مصدر سبق ذكره.

طارق مطر: أسير فلسطيني في سجن النقب – بئر السبع المحتلة.

مجلة الدراسات الفلسطينية العدد 128 – 2021

اساسياسرائيلالمعتقلاتفلسطين